شهادات ومذكرات

حكاية حياة: مطعم أبو سامي

ali almirhigكنَا مجموعة من الأصدقاء من محافاظات عدَة جمعتنا الكلية في قسم الفلسفة، زيد عباس كريم من كربلاء وحسين علي ماضي من المسيب وذاكر محمود جبارة من هيت وأحمد حسن السامرائي من سامراء وماجد شريف من كركوك ومعنا محمد العيد إبن أحمد الصادق من تونس، هو أفضلنا مالياً بسبب إنتمائه لاتحاد الطلبة العرب المُتبنى من حزب البعث، فقد كان لكل طالب ينتمي من العرب مبلغ من المال هو 100 دولار وربما يزيد، فكان أغلب الطلبة العرب القادمين للدراسة في العراق يينتمون للحزب وإن لم يكونوا مُتفقين معه أيديولوجياً من أجل الحصول على هذا المبلغ الذي كان في وقته مبلغاً كبيراً بالنسبة لطالب بكالوريوس، وكان محمد العيد أحد هؤلاء الطلبة الذين إنتموا لحزب البعث طمعاً في الحصول على هذا المبلغ، وهو (والحق يُقال) لم يكن مُتفاعلاً مع ممارسات البعث وصدام، لا سيما بعد أن تعرف علينا وعلى مأساة العراقيين في ظل هذا النظام الديكتاتوري.

كان محمد العيد راغباً في القراءة، لذلك كان قريباً مني كوني أعمل ببيع الكتب في شارع المُتنبي، فصار أحد الأصدقاء المُصاحبين ليَ ولأصدقائي الذين ذكرتهم لا سيما ماجد شريف أو ماجد الكردي كما يُحب أن يُكنى.

هو القدر الذي جمعنا بصداقة لم تنفصم عُراها إلى يومنا هذا من أغلب أطياف العراق، وفينا عرب، ولم يكن محمد العيد هو الطالب العربي الوحيد، إنما كان هناك طلبة عرب آخرون، وإن كانت أواصر الصداقة أشد وأقوى مع محمد العيد. لم يكن بيننا ونحن في مُقتبل العمر ما يشدنا نحو العرقية والتمذهب والعيش في كنف الدوغمائية المُتحجرة والأثنية التي أوصلت مُجتمعنا العربي والعربي والإسلامي لما نحن فيه اليوم، بقدر ما كان يشغلنا العيش المُشترك بيننا والتعايش السلمي والتثاقف الحضاري علنا نُشارك في صُنع مُستقبل أفضل.

كان مطعم أبو سامي المكان الذي نلتقي به وقت الغداء بموعد أو من دون موعد، ولربما كان مُلتقى أغلب طلبة مُجمع باب المُعظم ممن هم من سكنة المُحافظات.

كان المطعم بالقرب بناية مطبعة الحرية للطباعة في ذات الشارع الذي كانت به "بورصة الجرائد"، بباب المُعظم في الفرع المُقابل لشارع الفضل، بعد الكراج "باب المُعظم" في الجهة المُقابلة بما يقرب من مئتي متر التي تحولت بعد 2003 إلى ركام، ولم يبق منها سوى ذكرى الحُرية، التي غيبها الدكتاتور، وأجهز على الباقي منها من خلفه.

مطعم صغير، فيه "مصاطب" مُستطيلة مُلتصقة على جوانب حوائطه و (ستولات) للجلوس، وبعض (الميوزة) والكراسي القديمة، خارج المطعم. بقربه كان هناك مجموعة من (الفيترية) الذين يستطعمون مثلنا الأكل في هذا المطعم. لم يكن مطبخ المطعم يتجاوز التسعة أمتار، أي ثلثة أمتار طول وثلاثة أمتار عرض، فيها قدور الفاصولياء "اليابسة" و "البامية" وقدر صغير للباذنجان والرز (التمن) طبعاً.   

ما يُميز هذا المطعم هو أبو سامي نفسه. كان قد تجاوز الخمسين من العمر طويل القامة، في ظهره بعض إنحناءة ربما كان إنحانئة الزمن الصعب أيام الحصار، يلبس بنطلون عريض أسفل الورك ليضيق في نهاية القدم، يعتمر "اليشماغ" أو "الجراوية" الجنوبية المُرقطة، أظن ينحدر من أصول جنوبية، ولكنه كان يتكلم بلهجة بغدادية سليمة، حينما ندخل المطعم يستقبلنا أبو سامي بالترحيب بإبتسامة مرسومة على مُحيياه، وكأننا أولاده العائدون من المدرسة أو الكلية، نطلب "يابسة على تمن"، وبعضنا يطلب ما ذكرته من الأنواع المعدودة، سعر "النفر" كان ثمانية دراهم، أي أقل من نصف دينار، المُلفت للإنتباه أن أبا سامي يترك لنا حرية التجاول في المطبخ، ومساعدة الطباخ في تقديم وجبة الغداء، فكان بعض منا ممن لم تكفيه هذه الوجبة يدعوا نفسه لتناول وجبة أخرى، ومن يروم تناول أكثر من رغيف خبز "صمونة" فله "الصمون كله، وحين المُغادرة لا يقبل أبو سامي بغير الثمانية دراهم كمُقابل لوجبة واحدة رغم أنه يرى أن الكثير منا قد أكل وجبة أُخرى.

كان هناك بعض الطلبة لا يستطيع دفع الثمانية دراهم قيمة وجبة الغداء، ولا قدرة لأصدقائه على دفعها، فما كان منهم سوى غسل يديهم ومُغادرة المطعم من دون وجود من يُحاسبهم، بعضهم يظن أنه إستغفل (أبو سامي) والبعض الآخر يعتقد أن أبا سامي يعرف بهذا الأمر، ولكنه يغض الطرف، وأنا أظن ذلك، لأن في الرجل ذكاء بقدر ما فيه من طيبة.

كان محمد العيد التونسي يرغب بالمبادرة في دفع مبلغ الغداء، ورغم طيبته ووداعته وحُسن نيته، إلَا أنني لم أكن أسمح له بدفعه، وإن كنت أستشعر أن كل ما يملكه من مال إنما هو ملكي وملك جميع العراقيين، ولن يكون هو سوى ضيف مُعزز مُكرم بيننا، ولكن هذه ليست مُشكلته إما هي مُشكل عراقي أصله الدكتاتور وجذَر له بمنحه الهبات وأموال العراقيين للعرب الماوالين له، بل ومن غير الموالين، ليُؤكد نزوعه القوموي، وإن كان ظل أبناء البلد يطبخون الحصى ليُسكتون به جوع أولادهم، وهي ليست مشكلة العرب الذين تنعموا بخير العراق بفضل هيام السلطة بالشعارات الوحدوية والقومية ومحو الروح الوطنية وإن تماهوا معه في هذه الشعارات. وربما هي ذاتها مُشكلتنا اليوم، فأبو سامي الفقير يهبنا نحن الطلبة بعض أموال أبنائه الذين هم أحق منا بها، ولأبي سامي الحق في أن يهب ما يملك، فهي عادة عراقية في إكرام الضيف، فأبو سامي يهب ماله من كده وعرق جبينه، وهو بفعلته هذه إنما ينحت سجل العطاء العراقي في ذكرتنا نحن الذين تذوقنا حُسن مُلاقاته وجذل سخائه.

لكن الأمَر الأدهى هو أن يهب الإنسان ما لا يملك لمن لا يستحق، فذاك ما كان يفعله الديكتاتور الأرعن، وهو ذات الأمر الذي فعله حُكامنا الأرعن منه في يومنا هذا الذين يهبون ما لا يملكون، من منافع اجتماعية وفساد مالي لأجل دعايته الإنتخابية، فيسرقون أموال الضحايا والشهداء ليمنحوها لمن لا يستحق من المتملقين والمُنافقين من المُتأسلمين.    

 

د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم