شهادات ومذكرات

إسماعيل مظهر من التهور إلى التطور

ali almirhigيُعد إسماعيل مظهر (1891ـ1962) أحد أهم مفكري الإتجاه العلماني وأحد مجدي فكر (عصر النهضة العربية الحديثة). ولا يفوتنا أن نذكر أن فرح إنطون أسبق من مظهر في طروحاته حول العلمانية والمجتمع المدني، بل هو مُزامن تقريباً لشبلي شميل، ولكن لنقد "مظهر" لشبلي شميل، وردود مظهر على بعض الشُبهات، جعلنا نُركز البحث في فكر "مظهر" الذي وجدناه في بداياته شاباً تُحركه النزوات والرغبات، فكان لطريقه التهور وهيامه في الحبيبة أمرُ، ومن شاء، فاليقرأ كتابه "تباريح الشباب" حتى يرى مقدار التهور في صبا عمر "مظهر" ولينظر لهيامه في خادمته، ولكن الأيام مرت، لينبلج صبح تعقله، ليتجاوز نزوعه ونشأته الأرستقراطية يجوب طُرق المعرفة، ليستقر ويستجيب لنهج "دارون" الذي وجد فيه تفسيرٌ لبعض من حيرته في البحث عن أصل الوجود.

دافع "مظهر" عن هذه النظرية، وجعلها خط سير له في ترك التهور وإتباع منهج ونظرية التطور، فترجم كتاب "أصل الأنواع" لدارون عام 1918، وأصدر مجلة "العصور" عام 1927 التي تبنت الدعوة لنشر مُعطيات هذا المنهج العلمية، والبحث لها عن تبريرات تتوافق مع نزوع "مظهر" الديني، ودفاعه عن الإسلام، ورفض القول بتناقضه ونظرية التطور(!!).

إسماعيل مظهر هو محمد عبد المجيد. والده هو المهندس محمد بك عبد المجيد إبن المهندس إسماعيل باشا رئيس مجلس شورى القوانين. ولد بسوق السلاح بالدرب الأحمر بالقاهرة. كان جده لأمه هو "محمد مظهر باشا" أول ناظر للمعارف، وهو صاحب أعظم المشاريع الهندسية في القرن التاسع عشر، مشروع (القناطر الخيرية)، الذي وضعه بالإشتراك مع المهندس الفرنسي "موجل".

الشائع أن إسماعيل مظهر من أصل تركي، لكن الحقيقة هي غير ذلك فهو من عائلة كان جدها الأكبر لأبيه تاجراً كبيراً من الإسكندرية يرجح أنه قدم من المغرب. أما جده لأمه "مظهر" فهو من أصل شركسي وأم مصرية من الجيزة .

إهتم بالفكر العلمي الجديد وألم به إلماماً جيداً، فهو الذي ترجم كتاب "أصل الأنواع" لدارون وأردفه بكتاب ليشرح به هذه النظرية هو "ملقى السبيل في مذهب النشوء والإرتقاء، وأثره في الإنقلاب الفكري الحديث" والكتاب في مجمله رد على نزعة "شبلي شميل التطورية" وهي في الوقت نفسه نقد لما كتبه الأفغاني في كتابه "رسالة في الرد على الدهريين". حتى صار من الصعب ذكر نظرية التطور في الفكر العربي من دون ذكر إسماعيل مظهر. هذا فضلاً عن تأثر مظهر أيضاً بأوجست كونت وبفلسفته العلمية "الوضعية".

إشتغل في الصحافة، فأصدر وهو طالب جريدة "الشعب" عام 1909م، ثم جريدة "المنبر".

إشترك هو ومجموعة من المفكرين منهم "فؤاد صروف" في تأسيس المجمع العلمي للثقافة المصرية عام 1927م وأنتخب سكرتيراً دائماً له.

عُنيت مجلة "العصور" التي أشرف "مظهر" على رئاسة تحريرها بالعلم بكل ميادينه، وبالديانات، وبالفلسفة، وبالأدب والتجديد. وفيها تجلى خطابه النهضوي المبني على مجموعة منطلقات أهمها:

1ـ الدعوة للعلم والأخلاق ومعرفة كل ما هو جديد في العلم. لا سيما ما يتعلق بالعلم التجريبي العملي، ومذاهب اليونان في الفلسفة، ومذاهب الأدب العربي، والأخذ بهذه الأسباب يكون قد حققة النهضة المرجوة، لأنها كما يرى مظهر "أساس نهضة الشرق العربي" .

2ـ التجديد في اللغة والأدب.

3ـ دعوته لنقد الإستبداد وتحرير العقل والفكر وتخليص الفكر الديني من الخرافات على قاعدة "حرر فكرك من كل التقاليد والأساطير الموروثة، حتى لا تجد صعوبة ما في رفض أي من الآراء أو مذهب من المذاهب إطمأنت إليه نفسك، وسكن إليه عقلك إذا ما إنكشف إليك ما يُناقضه". وإيمانه بأن الإسلام هو "رسالة الإنسان الحر"، فـ "لا إكراه في الدين"، وهو لا يرى في الإسلام مجرد دين فقط، إنما هو حضارة إنسانية "بشرت بجميع حقوق الإنسان أساساً لحياته السياسية والمدنية". لذلك ينبغي علينا بحسب رأي مظهر أن نصوغ الإسلام بمعدنه الثمين بوصفه "دين سمح، ودين عالمية، وحضارة وإنسانية، حضارة تعترف بحقوق الإنسان، وتطبيقها بما يتطلب هذا التطبيق من بر وتقوى ورحمة وإسلام". وقد "جُعل الإسلام من أجل الإنسان، ولم يُجعل الإنسان من أجل الإسلام". وقد ميز مظهر بين ما في الإسلام من رحمة ومغفرة وبين ما يظهر من إستبداد وفساد عند حُكام المسلمين والمسلمين أنفسهم حتى خاطبهم بقوله "إنما الإسلام عزة أذللتموها، ورجولة فقدتموها، وقوة ببدتموها، وحرية نبذتموها، وشورى قوضتموها، وتقوى نسيتموها، وسماحة دفنتموها، ومساواة لحدتموها، ورسالة ضيعتموها، وشريعة وأدتموها ودولة أفسدتموها".

4ـ دعوته لتعليم المرأة ودفاعه عن حريتها. فالإسلام قد حرر المرأة وأعطاها حق الإختيار عند الزواج وحق الملك وحق التعامل أخذاً وعطاءً، بل إنه أنقذها من الوأد. فلمرأة في الجاهلية كانت سلعة تُورث، كما يُورث حُطام الدنيا، فإذا بالإسلام يردها إنساناً . برى مظهر "أن المرأة عامل من أعظم العوامل المؤثرة في بناء المدنية الحديثة" . حتى أنه إعتقد بحق المرأة في المشاركة في الحياة السياسية منتقداً برأيه هذا ما ذهب إليه روسو الذي أنكر حق المرأة بالمشاركة السياسية وقصر مهمة تعلمها على تربية الأولاد وتعليمهم، وتحقيق رغبات وملذات الرجل، ولم يُجز روسو للمكرأة تغيير عقيدتها الدينية، "وألاَ يكون لها دين غير دين زوجها" .

تمثل موقف إسماعيل مظهر من المرأة بالمواقف التالية:

ـ إيمانه بضرورة تثقيف المرأة وتعليمها ودورها التربوي في التنشأة الأسرية الصحيحة، المبنية على الإيمان بالعلم والثقافة ودورهما في صقل موهبة الأولاد.

ـ إيمانه بالمساواة بين المرأة والرجل لأنها النصف الثاني من المجتمع، وهي الأم والأخت والزوجة.

ـ دعوته إلى ضرورة مشاركة المرأة في الحياة السياسية حالها حال الرجل.

ـ إيمانه وقناعته بتميز المرأة في مجال العمل وهي ندٌ للرجل إذا أتحنا لها الفرصة للتعبير عن قُدراتها، لذلك هو يؤمن بضرورة مشاركة المرأة في بناء الحياة العملية للدولة ولا يبق دورها مقصوراً فقط على الأسرة.

ـ رفضه وتحريمه لتعدد الزوجات، رغم تجويز الشرع الإسلامي له، إلا أنه يعتقد أن الإسلام أعطى للمرأة الكثير من الحقوق التي حُرمت منها في زمن الجاهلية. "فالمرأة في زمن الجاهلية كانت شيئاً أما في الإسلام فقد أراد أن يُعاملها ككائن بشري. ولم يفت مظهر تحول المرأة عند كثير من الخلفاء المسلمين إلى أمةٍ وجارية وكثير منهن في قصور السلاطين يعشن لا هُنَ بالزوجات ولا هُنَ مُحررات، سُمين بالمحضيات. وإذا بلغ بها الكبر إنقلبت مُستجدية. لذلك نجد مظهر يؤكد أن حال المرأة في مجتمعاتنا واحد لا تختلف فيه ساكنة القصر عن ساكنة الحضيرة، لأن المرأة في قناعات جل المتصدرين للمشهد والرجال العاديين، إنما خُلقت للبيت!!.

ـ دعوته إلى إحترام المرأة المهتمة بجمال مظهرها على ألاَ يخرج هذا الإهتمام عن حدود الذوق العام. وبما يجعل جمال المظهر مساوقاً لجمال الخُلق. فأول "جمال ظاهر" والثاني "جمال خفي". والجذب يكون أولاً من خلال "الجمال الظاهر" ومن ثم يأتي سعينا للكشف عن "الجمال الخفي" لأننا كائنات مادية نؤمن باللذة والألم.

5ـ نقده للشيوعية ودفاعه عن الحرية الاقتصادية، لأنه يجد في الشيوعية هي نهب لأموال المجتهد وإعطائها لمن لا يستحق ممن لا يعملون من الكُسالى والمتهاونين. فالشيوعية بتطبيقها لهذه الرؤية إنما هي تعمل بكل الوسائل على إضعاف القدرة والإقدام وبذل الجهد الحر، وتمنع من التعويل على النفس، وتشوه النزعة الإستثمارية، وتحول دون الإقتصاد الفردي، وتقمع الشخصية. إن الشيوعية برأيه هي "رغبة الذين هم في القاع، لإستلاب من هم في القمة من ذوي النعمة والثراء" . وأبغض ما في الشيوعية برأي (مظهر) أن قادتها "مكروا بالطبقة الكادحة، فوعدوهم برفع الأغلال عنهم، بعد أن خدعوهم زوراً أنهم لا يفقدون بتحطيم الرأسمالية إلا أصفادهم، فإذا هم في ظل الشيوعية في أصفاد أقسى، بعد أن فقدوا الكثير من حقوقهم المدنية في النظام الرأسمالي، إذ فقدوا حريتهم وإنسانيتهم وكرامتهم وأمنهم وأرزاقهم، وإنقلبوا آلات شيوعية لا تُفكر ولا تعقل، ولكن تعمل آلياً، وتُلزم بحصص من الإنتاج تصل إلى حد الإرهاق القاتل في بعض الأحيان، ولا يأكلون إلا ببطاقات تُحدد موادها الدولة حسب أهواء ذوي السلطان..." . وكأن هذا الشكل من أشكال إستغلال الإنسان لم يحصل في الأنظمة الأرستقراطية، ولم يحصل في الإسلام على طول تأريخه، والغريب أن (مظهر) حينما ينظر للإسلام بإيجابية نراه يقتنص النصوص والحوادث التي تُدعم وجهة نظره، لكنه حينما يقرأ الشيوعية، إنما هو ينظر للسلبيات باحثاً ومنقباً عن النصوص والأحداث التي تُؤيد وجهة نظره، إنها قراءة "مغرضة" وليست بريئة بعبارة ألتوسير. إنها قراءة بروكستية على قاعدة "ويل للمصلين"، إنها قراءة إنتقائية مبنية على أساس المعرفة العقائدية والاجتماعية التي حتمتها طبيعة نشأة (مظهر) في جو عائلي ذو طبيعة دينية الألتزام الشكلي والطقوسي أساسي في حياة هذه العائلة، فضلاً عن معيشته الأرستقراطية، فهو من عائلة "باشوات" من جهة الأب ومن جهة الأم، فقد عاش في بيت مليء بالخدم والحشم والعبيد والخصيان والقيان والجواري !! أولاً، ومن تأثره بنظرية التطور ثانياً التي يؤمن بها (مظهر) والتي يحقق الإنسان ذاته فيها من خلال التنافس والصراع والبقاء يكون حينها للأصلح. ليصل مظهر لنتيجة مفادها: "أن الشيوعية والإسلام نقيضان لا يجتمعان، وشتان ما بين ما يقوم على العدمية وحرب الطبقات والإستبداد الفردي في أخبث صوره، ونظام يقوم على حرية الفرد والشورى والتقوى والعدل والمساواة بين الناس كافة، مهما إختلفت عقائدهم أوأجناسهم أو ألوانهم. شتان ما بين نظام يهدم كل المعنويات والكرامة الإنسانية، ونظام يقوم على ترسيخ معنى "الإنسان" بإعتباره إنساناً حراً مُريداً، له في الحياة حق، وله في الحرية حق، وله في التفكير حق" . (!!)

نقد اسماعيل مظهر لشبلي شميل

تأثر شبلي شميل ـ كما هو معروف ـ بالفلسفة التطورية، فضلا عن تأثره بالروح العلمية التي سادت أوربا في القرن الثامن عشر، فكان ناقداً للشعر وكل ما يمت للأدب بصلة لأنه كما يعتقد "بعيد عن الحقيقة، قريب من الخيال" فثار ضد الآداب والفلسفة الكلامية، "لأنها لاتستند الى شيء مما يقع تحت الحس، وغضب على المباحث اللاهوتية لأنها مثار العقيم من المناقشات ولأنها الباعث على التعصب..." .

يعتقد مظهر بأهمية النزعات الأدبية والكلامية، بل وحتى الفلسفية واللاهوتية كونها تدفع بإتجاه الانسان وحيويته بوصفها محركات للفكر كي يتطلع الى ماوراء المنظور، "فلكل أمة روحاً أدبية تظهر متجلية في كل دور من أدوار نشؤها وتطورها، فالعلوم الأدبية ربيبة الفكر الانساني... شأنها في ذلك شأن العلوم الطبيعية، ومحاولة إنكارها في الحقيقة إنكار لجهود الإنسانية طوال قرون عديدة " . وهنا نجد أن إسماعيل مظهر على النقيض من شبلي شميل فالآداب برأيه أساس العمران ومرجع الفضائل والإنسان يحتاجها كما يحتاج العلوم الطبيعية و"الانسان بطبعه متوثب الى إستيعاب المعاني الخفية... إن المعاني الأدبية وحب الجمال صفات نفسية ثابتة وأنها الباعث على الإنصراف إلى العلوم والخيال الذي كثيرا ما ينقلب الى منطلق صحيح والفرض الذي كثيراً مايصبح حقيقة واقعة" .

الموقف من الدين بين شميل و مظهر

يفسر شميل نشؤ الديانات في ضوء تأثره بالنظرية الدارونية إذ يرى أن "الديانات المختلفة كالأنواع تنشأ من أصل واحد وتتحول بعضها من بعض وتنازع نظيرها، وكما أن الفائز في هذا التنازع هو الأنسب للأحوال الخارجية، هكذا الفائز من الديانات أيضا هو الأنسب لأحوال الزمان". (ملقى السبيل، ص26)

أحد أهم أسباب نشوء التدين، كما يرى شميل، هو حب الإنسان لذاته هذا الحب دفعه للبحث عن خلوده "وطالما أن الانسان مدرك أن له جسد والجسد مصيره الفناء والموت، فإنه سمع همسا يقول له "لن تموت فإتبعني" فتصور أن هذا القول مصدره قوة عاقلة لها عليه سلطان مطلق فبعثه هذا الخوف على أن يتذلل لها، ثم تطرف الى أن جعل هذه القوة روحاً ثم جعل الروح الها ثم تصور آلهة كنفسه تغضب لما يغضب وترضى لما يُرضيه فنحر لها الهدايا وقرب القرابين، وتقرب لها بالمناسك والمشاعر وحلل وحرم ثم تأصل فيه هذا الميل بحكم الوراثة الطبيعية وإنتقل هذا التقليد الى نسله بحكم التقليد"(ملقى السبيل، ص22ـ23)  

سبب آخر من اسباب نشوء التدين يراه شميل كامناً في طبيعة البناء النفسي والعقلي للناس إذ الغريب في هذا التكوين "أن الناس لا يصبرون على بيان الحقيقة بالأدلة والبراهين إذا كانت مخالفة لآرائهم غايرة لأهوائهم، بل ينقضونها بالقوة".(ملقى السبيل، ص25).

والنحل والديانات وماشاكلها أصلها واحد وقيامها في الدنيا إنما هو لعاملين حب الرئاسة في الرؤساء وإرتياح المرؤوس إلى حب البقاء وكلاهما لما في الانسان من محبة الذات، فسطا دُهاة الناس على ساذجي العقول فتسيد البعض وسُيد على البعض الآخر(ينظر: ملقى السبيل، ص21)

لا يخفى أثر النظرية الماركسية أو حضور بعض رؤاها حتى وإن كانت بشكل غير مباشر في فكر شميل لا سيما في موقفه من الدين بوصفه ممثلا للنزعة الأرستقراطية ومكرساً لروح الطبقية إذ يقول: "الشريعة ألَا تُقبل من أيدي الآلهة، بل من أيدي البشر، أي يجب ألاَ تُقبل من أفواه الرؤساء والأمراء ولكن من لسان الصعاليك والفقراء حتى تكون أقرب الى الانسانية أي إلى إقامة العدل الصحيح منها إلى تنقيذ الأهواء والأغراض النفسانية" (ملقى السبيل، ص36) وعلى الرغم مما في هذا النص من نقد للعلاقة الوثيقة التي تكون عادة بين الدين ورجاله والرؤساء، إلاَ أن شميل هنا يُعطي تلميحاً بإمكانية قبول الدين إذا كان نصوصه وأقوال وأفعال رجاله هي للدفاع عن الفقراء "الصعاليك". وكأن النص في طياته يحمل نقداً للدين في بُعده السماوي المُتعالي، ليبحث عن دين في الأرض يُدافع عن حقوق المغلوبين المقهورين. ألا يعطينا هذا تبريراً على أن في هذا النص دفاعاً عن رؤيا الماركسية القائمة على الدفاع عن حقوق "الشغيلة" الفقراء من طبقة "البروليتاريا".

مما يبدو في ضوء ما أشرنا له من آراء حول موقف شميل من الدين والتي يُشير جُلها وبوضوح لنقد أهم أركان الفكر الديني، ألا وهو الإعتقاد بوجود قوة عاقلة مدبرة للكون والعالم، الأمر الذي يترتب عليه ايمانه بقوة المادة والطبيعة على الإيجاد إذ يقول شميل بحسب ما ينقل عنه مظهر: "أن الانسان هو وكل ما فيه مُكتسب من الطبيعة، وهذه حقيقة لم يبق سبيل إلى الريب فيها اليوم ولو أصر على إنكارها من لا يزال مفعول التعاليم القديمة في ذهنه رسوخ النقش في الحجر. فالإنسان يتصل إتصالا شديداً بعالم الحس والشهادة وليس في تركيبه شيء من المواد والقوى يدل على إتصاله بعالم الروح والغيب"(ملقى السبيل، ص18) ونجده في موقع آخر يتسائل بالقول: كيف جاء تصور القول بوجود قوة أبدعت العالم من لا شيء، وهذا التصور لا تبرره الحجة الكبرى بأن لكل علة معلول، وقد فاتهم أن في هذا الدور المتسلسل لا بد لهم من الوقوف عند نقطة يثبتون فيها الوجود بمعجزة" (شبلي شميل: الحقيقة، ضمن كتاب فلسفة النشوء والإرتقاء، المصدر السابق، ص264)" وإذا كان من المقرر أن القوة لا تقدر أن تظهر إلا بالمادة، فلا تكون القوة إذاً سوى الصفة المتصلة بالمادة وكل صفات المادة كائنة فيها جوهرياً" (ص262، المصدر السابق).

موقف إسماعيل مظهر من الدين ونقده لشبلي شميل

من خلال ما تقدم يمكننا أن نستنتج موقف كل من شميل ومظهر من الدين، فموقف شميل هو الرفض للدين وإن كان يعترف بأن الإنسان كائن اجتماعي، أما مظهر فإنه وإن كان يتفق مع شميل في أن الإنسان كائن اجتماعي، إلَا أنه لا يتفق معه في الموقف من الدين، إذ يرى مظهر أن الإنسان كائن معتقد بفطرته، أي أنه ذو عقيدة بصحة شيء وبطلان ما ينافيه، فالإعتقاد الفطري كما يرى مظهر "تكأة الدين، كما أن الخوف والجهل منشؤه" (ملقى السبيل، ص36) والجهل بأسباب حوادث الطبيعة يدفع بإتجاه بناء معتقد إزاء كل حادث من حوادثها و"أصل الدين فكرة مرتكزة على الاعتقاد" (ملقى السبيل، ص39).

يقول مظهر"نسوق الكلام في الدين من حيث هو حقيقة أدبية إرتكزت أصولها في صميم الاعتقاد الإنساني، أفضت إلى بلوغ حد فرق به بين الخير والشرمن تلقاء نفسه. نبحث به من حيث أنه صلة تربط بين الفرد والمجموع... "(ملقى السبيل، ص39ـ40) وطالما كان الدين هو التضحية بالنزعة الفردية لصالح المجموع وطالما كان سعيه أخلاقي لمعرفة الخير والشر فهو بالتالي أحد أسس بناء الحضارة الإنسانية والنظام الاجتماعي" وأنك تجد في النظام الاجتماعي قوتين متاضدتين تتنازعان بقاءه، قوة مفرقة وقوة مؤلفة، فالقوة المفرقة يُمثلها عقل الإنسان الفرد المحب لذاته، والقوة المؤلفة يمثلها المعتقد الديني يستمد مما بعد عقلية الفرد وتنحصر وظيفته في أن يحتفظ في تطور الجماعات بإخضاع مصالح الأفراد ومطامعهم لصالح الكل الاجتماعي، الذي هو أكبر من مصلحة الأفراد، وأطول بقاءً. وإن الدين في ذاته ضرب من ضروب المعتقد يُهيء الإنسان بوازع ما بعد عقليته يضبط سلوكه نحو المجموع، إذا تعارضت مصالح الفرد ومصلحة المجموع" (ملقى السبيل، ص52 ـ 53).

من هنا يتبين لنا أن مظهر يتعامل مع الدين بوصفه ظاهرة اجتماعية صرفة بعيداً عن أبعاده الغيبية واللاهوتية، وإن كان هو ذاته مؤمن بهذه الأبعاد إلى أنه لا يعدها دليلا برهانياً على تأكيد وجود الله من عدمه، لذلك نجده يعتمد أولا: على القول بالفطرة، بمعنى أن الإنسان بأصل وجوده مجبول بالفطرة على التدين، وثانياً: أن وجود التدين الفطري، يقابلها وجود الشهوات، وهذه الشهوات والغرائز طبيعية أيضاً موجودة في أصل وجود وطبيعة الإنسان. هنا تنشأ الأديان والسبب في ذلك، هو قوة الشهوة، مهمة الأديان هي إيقاض الدين أو الإيمان الفطري، و"لا يقمع الشهوة ـ بحسب ما يرى مظهرـ سوى الإيمان في الدين، لأن الدين بلا إيمان لا أثر له في خارج النفس..." . وهذا لا يعني أن إسماعيل مظهر بدعوته للإيمان أنه يسبعد الشك كأساس للوصول لليقين، إذ يرى أننا "بقدر ما نحتاج إلى الإيمان نحتاج الشك. لأن التسليم بلا شك قاعدة فاسدة الأساس" .

أما القدرة الأدبية والاجتماعية ببعدهما الإنساني فهما المتكئ الثالث لتبرير وجود الدين الذي هو عنده ضرورة من ضرورات الفكر الإنساني وجزء أساسي من طبيعة الوجود البشري، لذلك نجد مظهر يعطي أولوية للدين بوصفه شريعة أدبية ويهمل فكرة أن الدين قائم على الإعتقاد بقوة مدبرة حكيمة عاقلة سرمدية لا تدرك حقيقتها العقول البشرية، ويرى أن هذه الفكرة هي ليست جوهر الدين، وإنما جوهره مثلما ذكرنا سابقا التمييز بين الخير والشر وتنمية القوة المؤتلفة التي تقوي الصلة بين الفرد والمجموع.    

 

د. علي المرهج – أستاذ فلسفة

 

 

 

في المثقف اليوم