شهادات ومذكرات

د. محمد الصغير غانم مجاهدا.. مؤرخا وشاعرًا

eljya ayshالمتتبع للمسار التاريخي والفكري للدكتور محمد الصغير غانم أستاذ التعليم العالي بجامعة قسنطينة يقف على أن الرجل ترك بصمته في مختلف المجالات، فبالإضافة إلى مشاركته في الثورة التحريرية، فهو يعد من أبرز الباحثين الأكاديميين في التاريخ القديم، من خلال مؤلفاته التي تركها، ككتابه الذي يحمل عنوان: "الملامح الباكرة للفكر الديني الوثني في شمال أفريقيا"، تطرق فيه إلى الظاهرة الدينية في بلاد المغرب القديم، فالدكتور محمد الصغير غانم يعد من الشعراء الشعبيين الذين كتبوا عن الثورة، خاصة وقد ساهم الشعر الشعبي في التوثيق والتأريخ للمقاومات الشعبية والثورة التحريرية طيلة مرحلة الاستعمار، والحقيقة أن القصيدة تحتاج إلى تلحين وتعرض كملحمة تاريخية في المناسبات الوطنية

رحل عن الحياة في صمت وعلى غفلة، ذات يوم كنت قد أجريت معه لقاءً صحفيا، ولما علم أنني من الأسرة الثورية، أهداني "قصيدة" أهداها إلى فدائي جبهة التحرير الوطني، ما زالت أحتفظ بها كأمانة، كان رحمه الله كلما التقى بي إلا ونظر إلي نظرة فيها تساؤلات، وكأنه يسألني عنها، لكنه من باب الترفع لم يسألني يوما أين هي تلك القصيدة، كان بعيدا عن الأضواء، ولم تلقى أعماله رواجا إعلاميا يليق بمستواه كمجاهد ومؤرخ، يبحث وينقب في صمت مذ عرفت بالمدرسة la medersa الكائن مقرها بشارع العربي بن مهيدي، قبل أن تخضع إلى الترميم، لقد ذكر الدكتور محمد الصغير غانم في قصيدته التي يمكن أن نسميها بـ: " النونية" عدة محطات من تاريخ الثورة في الولاية التاريخية الأولى أوراس النمامشة، وموقف الطلبة الجزائريين النبيل عندما تركوزا مقاعد للدراسة والتحقوا بالمجاهدين بجبل الأوراس، بعدما اتفقوا على فكرة الجهاد من أجل طرد المستعمر، وما وقع في 25 سبتمبر 1956 واجتماع الفدائيين بعين توتة وتصفيتهم للخونة، إذ يقول في قصيدته:

اليوم نتذكر شباب زمان .. البعض منهم مازالوا حيّين

تركوا المدرسة ما بقى تعليم .. قصدوا جبل أوراس للمجاهدين

على الواجب والجهاد كانوا متفقين .. وانضموا للثوار ضد المحتلين

نتذكر خمسة وعشرين سبتمبر .. من عام ستة وخمسين

مجموعة من الثوار والفدائيين .. في عين توتة بالأوراس كانوا مجتمعين

قاموا بعملية خطف .. وتصفية واحد من الخاينين

و يذكر الدكتور محمد الصغير غانم أسماء كثيرة ممن رافقوه في درب الكفاح بعدما التحق بصفوف الثورة الجزائرية، ومنهم المسؤول عيسى معافي، والصالح بن قوقة ولعلي صالح، ثم يتحدث في القصيدة عن نفسه ويذكر فيها نسبه والمنطقة التي ينحدر منها، إذ يقول :

عيسى معافي مسؤول .. خطط للمرتد وحضرلوا كمين

درس جميع القرارات .. والأوامر جاءت من عند المسؤولين

خر جوا وعلى الله متكلين .. وانمسيهم بسمايهم المعروفين

محمد الصغير غانم .. من أولاد زيان الوطنية والدين

الصالح بن قوقة .. جموري من التوابة الأصليين

لعلي صالح يوم عرفناه .. عضو من أعضاء الدايمين

ثم يتحدث في البيت الرابع عشر عن رفيقه الحميم، وكيف تمكن الإثنان من القبض على واحد من الخونة الذين يعملون لصالح فرنسا إذ يقول:

محمد الصغير غانم .. من الشباب بالثقافة والعلم مسلحين

رفقة الصالح بن قوقة .. تعاهدوا ومشاو للخاين قاصدين

استدرجوه بالشجاعة والإيمان .. عن أعين الحركة والبياعين

القاوا القبض عليه .. ربطوه من يديه الإثنين

يصرخ وينادي يا لصاص .. أنقذني من الفلاقة قالوا فدائيين

ثم يصف الشاعر محمد الصغير غانم في قصيدته كيف اقتيد هذا الخائن إلى المحكمة العسكرية للمحاكمة، فنجده يقول في البيت الثاني والعشرين:

سلموه للجبهة والمجاهدين .. المحكمة العسكرية وأكبر المسؤولين

الأحكام واضحة ما فيها تخفيف .. قاسية على الحركى والبياعين

الواد والسكين معاه .. سهم القومية والمرتدين

و يذكر الدكتور محمد الصغير غانم عن هزيمة الجنرال ديغول وكيف رحل خائبا في 1962 :

ديغول واكبار الضباط امعاه .. رحلوا عام اثنين وستين

ويختم قصيدته بالثناء على نسبه الشريف فيقول في الأبيات الثلاثة الأخيرة:

من جمورة أصلي .. زياني وأهلي مجاهدين

للتاريخ نكتب صفحات .. تقراهم لجيال أو تعرف أنا مين

وايقولوا بن الطيب قال: .. للثورة تاريخ يبقى للجايين

المتأمل في القصيدة النونية يجد أن الشاعر ركز على الأوراس، وهذا إن دل على شيئ، فإنما يدل على أن النص الشعبي أصيلا في منطقة الأوراس، حيث جمعت بين الصورة واللغة والعاطفة والوزن، حيث كانت العاطفة متفاوتة الحرارة، وأوراس كما يقول الباحثون في الشعر الملحون تأتي بين ثاريست وايس أراس وارذيس، وهي كلمات شاوية (أمازيغية) تؤدي معاني مختلفة، والأرجح أن تكون الكلمة الأولى ثاريست هي التي تعني اوراس وهي تعني التربة البيضاء، والكلمة الثانية ايس أراس تعني الفرس الأصيل، أما الكلمة الثالثة وهي أرذيس معناها الأسد، فيما يذهب البعض إلى أن كلمة أوراس هي كلمة عربية فصيحة مكونة من كلمتين هما: ذري وراءس وتكون قد صاحبت الفتح الإسلامي، وأطلقت على جبل الأوراس لوجود قمم متعددة ومنها قمة شيليا.

ولا شك أن قارئ القصيدة سوف يتأثر أيما تأثير لعمق الكلمات، فقد نفذ الدكتور محمد الصغير غانم بهذه الكلمات إلى أعماق الوطن، وفي كلماته نلمس صدق الرجل وحماسته المطلقة في النهوض بالوطن وحماياته من الخونة والمرتوقة فكرا وثقافة، ولا يدخلنا الشك في ذلك لأن الرجل معروف بأخلاقه وصفاء سريرته ويشهد كل من عرفه وعايشه، وهو المجاهد المعروف بوطنيته، ثم أنه كان يعمل في صمت بعيدا عن الأضواء، وبغيابه تكون الساحة الوطنية والفكرية قد خسرت قامة كبيرة عظيمة عظمة الثورة الجزائرية، وبرحيل هذا القلم ينخفض منسوب الجمال الإبداعي، ولعل كل منّا يشعر بحجم الفراغ الذي تركه الفقيد وهو يودع يوميا صوتا من أصوات الثورة، فإلى جانبه بحوثه العلمية في التاريخ القديم،فالدكتور محمد الصغير غانم يتمتع بعاطفة جياشة وأحاسيس متدفقة، حيث استطاع أنت يجعل الشعر قرينا للكرامة الإنسانية.

فقد حمل في هذه القصيدة النزعة الثورية التي لا يمكن أن تنتصر إلا بعروة وثقى، حيث استعمل في القصيدة حواسه الخمس وااف لها الحاسة السادسة، بدليل اننا نلاحظ أن الكلمات ترافقها نبرة الإيقاع، وكأنها موسيقى تتسرب ألحانها إلى النفس المتعطشة للحرية، وتهز الوجدان، خاصة وأنها كتبت بالعامية التي تدخل إلى قلب القارئ مباشرة ودون استئذان ودون عناء أو تكفل، كونها تحمل معاني الصفاء، والسؤال الذي يمكن أن نطرحه هو: لماذا لجأ الدكتور محمد الصغير غانم إلى الشعر الشعبي أو الملحون كما يطلق عليه وهو المثقف العربي الملتزم بقضايا اللغة العربية، والجواب هو أن الدكتور محمد الصغير غانم وبحكم اختصاصه العلمي في التاريخ القديم جعله أكثر ارتباطا بالتفكير اليوتوبي الذي هو قديم في التراث الثقافي، والحقيقة أن الدكتور محمد الصغير غانم كانت له مواقف ثابتة بلغت حد التقديس في الكثير من القضايا الحساسة.، كانت آخر صورة التقطتها له بمعرض الصور الخاص بالاحتفال بالإذاعة العربية أقيم ببهو جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قسنطينة، رحم الله الفقيد واسكنه فسيح جنانه.

 

علجية عيش

 

في المثقف اليوم