شهادات ومذكرات

حكاية حياة: أبي وعمي

ali almirhig

عاش أبي شبابه مُتنقلاً بين قلعة سكر وبغداد، ولأن أبي يروم حياة أفضل من حياة قروي بسيط، يُقلب الأرض بـ "مسحاته" ولا حُب عنده لباقايا أرض إمتص الملح خصوبتها.

لم يرغب يوماً بحياة القرية، ولم ترق له الحياة في مدينة ليس فيها سوى درابين معدودات وشارعين رئيسيين، أيام الستينيات من القرن المُنصرم، هو حالم بعيش رغيد وحياة مليئة بالإثارة، فيها من طيش الشباب وجنونه الشيء الكثير، سواء في تطلعاته لرؤية وجوه الحسان في بغداد الجميلة، أو في رؤياه السياسية التي تأمل أو ترغب بوجود مجتمع إشتراكي وفق النظرية "الماوية"، نسبة لماو توستي تونغ مؤسس الإشتراكية اللينينية الصينية. أو ما سُميت بـ "الماركسية الثالثة"، التي كانت ضد الإنغلاق العقائدي، وفك التوصيف الطبقي لمجتمعات العالم الثالث، والدفاع عن حركات التحرر بمعزل عن تطبيقها التام للنظرية الماركسية.

ولا أقول ولا أدعي أن أبي كان مدركاً لهذه الفروقات النظرية في الفكر الشيوعي الماركسي، ولكنه كان طامحاً للتغيير، ولم يكن ثورياً "راديكالياً"، بل كان عاملاً "بروليتارياً" أعجبته الماركسية لأنها تُدافع عن حقوق العمال.

لم يكن أبي في حينها يُتقن القراءة والكتابة، ولكنه وجد أن الكثير من أصحابه يُدافعون عن الشيوعية، ولم يكن يُدرك أن هناك تناقضاً بيَناً بينها وبين الإسلام، لأن الإسلام حسب فطرته، إنما جاء ليُدافع عن حقوق المُستضعفين، لا عن حقوق المُترفين، فلا شك أن في الإسلام نزوعاً نحو الإشتراكية، وكان بلال وعمار في فلم الرسالة الذي شاهده مرات ومرات ونحن معه أمثلة له وتأكيد لدفاع الإسلام عن المُستضعفين.

لذلك سعى أبي لتعليم نفسه القراءة والكتابة من دون مُعلم، كي يتمكن من قراءة بعض صحف الشيوعيين، ولا أعرف كيف، ولكن الذي أعرفه أن أبي لم يدخل دروس الكتاتيب، أو "الملا"، ولم يدخل في المدارس الحديثة، ولكني عرفته يُتقن القراءة والكتابة، ولا زال يقرأ الكتب الدينية والسياسة ليُحدثنا عن بعض لتحولات السياسة العالمية وصراع المُعسكرين "الرأسمالي" و "الإشتراكي"، والهيمنة الأمريكية بين أمس واليوم. ينتقد الأحزاب الدينية التي صارت مهمتها هي والفساد عملة بوجهين، تدين أفيوني بعبارة شريعتي، ونهب لوطن جريح، ومحاسبة لبشر لم يروا سوى وطن سُقياه الدم وحياته الألم، ولا هم لهذه الأحزاب سوى نقد ال"العلمانية" والشيوعية التي لا شاغل يشغل أصحابها غير الحُلم بوجود "وطن حر، وشعب سعيد" ، ولم يكن بمستطاعهم يوماً محاسبة المٌغايرين لهم من بني البشر في تاريخ العراق القاسمي أو ما بقيَ فيه من بعض بقايا الأثر، والشاهد على ذلك ذاكرة العراقيين التي للآن لم تستطع نُكران جميل فعل الشيوعيين في التوعية وتصحيح مسار المجتمع، ولا شاهد على فساد لهم في ماضي العراق وحاضره، والخبر عند من علم وخبر.

المهم أن أبي بقيَ مُتعلقاً بالشيوعية ببعدها الأنسني، أما إبن عمه، وهو صديقه، الذي كان شيوعياً فتحول ليكون بعثياً، فقد نصح أبي في الإستمرار في الشيوعية، وهو سيُظهر ولاءً للقوميين البعثيين، أيام "الجبهة الوطنية"، فإن إنتصر الشيوعيون، فمن الواجب على أبي تخليص عمي، وإن حصل وإنتصر البعثيون "القوميون" فسيكون عمي كفيل بتخليص أبي، ولكن أبي، لم يكن مُناضالاً وثورياً أويمتلك رؤية "براجماتية" بمثل ما حسبها عمي المعلم في المدارس أيام السبعينيات.

مرت الأيام وأبي بقيَ لا يُدين للقوميين بولاء، ويستهزأ بكل من كان ديدنه الولاء لـ "القومجية" "البعثية" بما فيهم عمي، وإن كانت العلاقة بينه وبين عمي علاقة حميمة ملأى وثكلى بذكريات الماضي المُشترك بكل ما فيه من ألم وفرح، بأكل "الخريط" من القصب الآتي من الأهوار، و "الزاهدي" من تمر العراق الذي لا يُقبل عليه سوى الفقراء من أبناء أمة محمد.

تمكن نظام صدام حسين من الحكم وإنهاء مرحلة "الأب القائد" !! أحمد حسن البكر التي إتسمت ببعض السكينة والهدوء، ولكن صداماً لا يقبل بغير "الكونة" كي تكون إعلاناً لطيش المُحاربين البدو، كي يستبيحوا أرضاً ليست أرضهم، ليجعلوا من الشر سمة عراقية، بعد أن كانت سمتهم صناعة الكتابة، فحلَ جدب الصحراء بديلاً عن دفق المعرفة العراقي، حتى ظن الكثيرون أنه جدب متأصل في النفس العراقية، فأصبح شعارنا "القلم والبندقية فُوهة واحدة" فحينما تعجز اللغة وتخبو جذوتها ستنطق البندقية بلغة الرصاص كي يكون بديلاً عنها، فكلما عجزت اللغة وغابت القدرة على التعبير، سيخرج (بلا شك) مارد العنف من قُمقمه، وسيُعلن الحرب.

سأعود لأبي الذي لم يكن يحسب للنظام كثير حساب، فكنَا نمر عبر سيطراته، وأبي مُلتح، يكتنف لحيته بعض الشيب، لكنه لا يخاف ولا يخشى بطش النظام وقسوته، وكنتُ ولا زلتُ أعجبُ من رباطة جأشه وتماسكه في مثل هذه الظروف العصيبة وغيرها، وأذكر مرة أننا كنَا في سيارته "اللاندكروز" نوع "تويوتا" حمراء، موديل 1972 أو أكثر بقليل، وكانت هناك سيطرة، فمرَ عليها وهو "واثق الخطوة، يمشي ملكاً"، وسلم علي الشباب "الجنود بطريقته الخاصة "شلونهم ولد أُختي"، وكان في حينها هارب من مواليد 1945، الذين إستدعاهم النظام، أيام حرب الكويت، للخدمة العسكرية لمدة شهرين كما أظن، فكان جنود السيطرة يفرحون ويتفاعلون مع إطرائه لهم وسؤاله الأبوي عن صحتهم وترحيبه بهم، فينسون أنه من الممكن أن يكون من الهاربين، فيقولون له "فوت سالم حجي".

في المُقابل كان هناك عمي الذي لم يُنجب سوى إبنة واحدة، وكان أبي مُحباً لها لأنها ولا زالت وحيدة أمها وأبيها، إلَا أن أبي كان يرغب بأن تستمر سُلالته، فيكون لها أخوة، فحاول بشتى الطُرق إقناعه بالزواج بأخرى، غير أن عمي كان له حساباته وضمان العيش بكرامة لأنه يعرف مقدار التحولات المجتمعية في العراق سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، فرفض كل عروض أب المُغرية للزواج، لا لأنه يرفض الفكرة تمسكاً بزوجته، ولكن لأنه كان يحسب لكل مُتغيرات الحال مما هو ممكن ومُحال.

ولم يكن أبي يوماً مُقتنعاً بوجود قواعد للتربية، تلك القواعد التي سيَر عمي حياته على وفقها، فهو تربوي ومُعلم عتيد يُشار له بالبنان، ولكنه لم يجني خيرها، وغادر الحياة وهو مُسجى بين يدي أبي، ويبدو أن فوضوية أبي وعبثيته في العيش على قاعدة "إصرف ما في الجيب، يأتيك ما في الغيب" قد إنتصرت على نظام البرهان وحياة النظام وهدمت قواعد التربية التي سار على نهجها عمي، فقد كسب أبي ما كان عمي يرغب بكسبه من محاسن العيش الهانئ، وخابت كل حسابات الاقتصاد والتنظيم للحياة عنده، وهو الذي عرف خبايا السياسة وتكهن بمتغيرات حال العراق بما مر به وما سيمر به من مرار، بحكم قراءة عمي وإطلاعه على بعض آراء فلاسفة التنوير والتربية أمثال روسو وديدرو وفولتير.

لم يبق لعمي سوى إبنة واحدة، هي من بقيته الباقية على هذه الأرض، حرص على تعليمها وتدليلها، وما كنت أنبهر به هو مقدار وعي جنوبي مثله لحقوق المرأة، فكان يُقدر وجودها إن كانت زوجة أو إبنة، ولربما ما كان يُسعف عمي في إستشرافه هذا لقيمة المرأة هو جذوره المدنية ونزوعه الماركسي القديم، وإن ترك الماركسية وصار يؤدي فرائض الإسلام بالتمام والكمال.

ولكن أبي الذي لم يُتقن التعامل مع تاريخ علوم التربية وفلسفنها، قد تسنى له أن يكون شاهداً على الوداع الأخير لعمي حينما أصر على الإتيان به إلى مُستشفى "الكاظمية"، كونه عانى الأمرَين من "الجلطة" لأكثر من مرة، فحينما سمع أبي بمرض عمي ذهب للإطمئنان على صحته في مدينة الرفاعي، فوجده مُتعباً غاية التعب، فآثر وهو المُحب له، جلبه لمستشفيات بغداد، عله يستطيع أن يُعيد له بعض من بريق الحياة، وكنَا أنا وبعض من أخوتي نتبادل الأدوارفي المبيت قُربه، ولكن القدر إختط له طريق الوداع، فلم يكن لنا نحن أبناء أخيه الذين تعلقنا به أيام مرضه، ونطقت ملامح وجهه الشاحب بتعابير المحبة لنا، ولكن القدر لم يكتب لنا وله غير شغف محبة متأخرة إكتشفنا فيها وعشقنا التحاور معه، ولكن بعد فوات الأوان، فودعنا بنظرات التشكر والأمل المرسوم على مُحياها بمستقبل أفضل لنا.

رغم هولنا بفجيعة فقده، ولكنَا دهشتي ودهشة أخوتي لا زالت تُسائل نظريات التربية وفلاسفتها والقدر، مالكم، ومالك يا قدر لا تُنصف من كان للحياة يحتسب، ولكن على ما يبدو أن من يحسب لأيام قادمة، ربما لا يجني منها سوى التعب، وربما صح قول الشاعر:

دع الأيام تفعل ما تشاءُ   وطب نفساً إذا حكم القضاءُ

ومن لا يحسب أيامه ولا يعد فيها ما هو حزينٌ منها ومفرحُ، لربما سيعيش زمناً طويلاً، ذلك هو أبي الذي له من الأولاد الكثير، ممن يؤثرون على نفسهم ويتنفانوا في المحبة فيما بينهم والتسابق على تقديم ما هو أفضل لبعضهم البعض، فتباً لكل نظريات التربية وتب، فكسب أبي وخسر من كان للحياة مُنظم ومُحتسب.

فهذا أبي تجاوز كل رؤى الفلاسفة، ولم يشغل باله يوماً بتقريب وجهات النظر بين أبنائه، لكنه كسب، فخرج من نسله أربع دكاترة من أساتذة الجامعة المُميزين، وتخرج آخرون من الكليات، منهم خريج لغات وآخر مهندس ومعهد فنون، وأبنة مُتميزة تخرجت من كُلية القانون، وهناك بعض من أخوتي شغلتهم التجارة وعوالم الربح والخسارة، مقاولون شُطار في عملهم مُثابرون.

 

    

في المثقف اليوم