شهادات ومذكرات

مشروع قيد الإنجاز.. سعد محمد رحيم

صالح الرزوقيفاجئنا الدهر بمخططاته ومشاريعه الفاسدة في أحلك الأوقات، وأعتقد أن خسارتنا لجيل رواد الحداثة الأول ثم الثاني هو بمثابة نكسة أو هزيمة عسكرية. إذا قطعت رأس الإنسان ماذا سيبقى منه؟.

هذا هو حال التداعيات التي قفزت إلى ذهني حينما سمعت بخبر وفاة المأسوف عليه، الكاتب المتميز والمخضرم سعد محمد رحيم.

لقد منينا بأسوأ الهزائم لأننا لم نتعظ حتى هذه اللحظة، ولأننا نضع غرائزنا فوق عقولنا. وأصغر مقاول عقارات أهم في هذا المجتمع من أكبر كاتب. وكان صديقي الإنكليزي وليام جاك وتنغتون يقول لي بمرارة: إن الأمة لا تسقط في الوحل إلا إذا احتل النجار مكان الكاتب، وسائق الحافلة مكان أستاذ الجامعة. هكذا تتحول الحياة إلى لعبة حظ وسباق على المكاسب. ونضع القعل في الإقامة الجبرية.

ويبدو لي أنه كان صائبا في هذه الحكمة.

وانظروا أين وصلنا؟.

ربيع الخراب، وليس ربيع البناء والتطوير، حتى أن الماضي أصبح هو المقياس. هذه التداعيات صنعتها الفجوة التي خلفها فينا رحيل أبي سرمد، سعد محمد رحيم، مؤلف (ظلال جسد) و(فسحة للجنون). وأخيرا (كونكان).

هذه رابع مرة أحاول أن أكتب عن تأثير رحيله ولكن أجد أن الكلام ليس بحجم الفاجع.

وعفوا لهذا التعبير.

17 سعد محمد رحيمالفاجع عندي هو كل شيء يتسبب للإنسان بالسقوط شاقوليا. وغياب أستاذ سعد من الناحية الرمزية هو بمثابة هذا السقوط. لقد جاء بعد غياب آخرين تركوا علامة أو إشارة في حياتي. وكان أولهم جورج سالم مؤلف (في المنفى) و(عزف منفرد على الكمان) ومؤلف المشروع الذي لم يكتمل وهو روايته الثانية (سفر التصدعات).

لقد ضاعت في زحمة أوراقه وفي ضجيج موته المفاجئ.

وهذا هو حال سعد رحيم. فقد أخبرني في إحدى رسائله أنه في منتصف عمل جديد ومن المقرر أن ينتهي منه في صيف 2019. وأغتنم الفرصة لأدعو أصدقاءه ومحبيه وأبناءه كي يبذلوا جهدهم في البحث عن هذه الأوراق وترتيبها. لربما يتمخض من هذا الحطام شيء نتذكر به أنفسنا. فالموت جماعي لكن الولادة شخصية. والغياب إنذار بنهاية شوط أو إهدار فرصة. فالغائب لا يمكنه أن يدافع عن نفسه أو أن يوضح فكرته.

بينما يتكاتف المجتمع لتفسير معنى وحكمة الغائب. أما الحضور فهو شيء متعين، سلوك لذات، وليس مفتوحا على التأويل والتفسير.

نعود لشخصية الراحل. لا يمكنني أن أدعي أنني من أصدقاء الدرجة الأولى. بالعكس، لقد عرّفني عليه زميله الأستاذ المسرحي صباح الأنباري. وهنا يوجد قدر من الدراما أيضا. فالأنباري يعيش في أستراليا. وأنا في حلب. والراحل كان في بغداد.

والآن أسأل نفسي. كيف التأم شمل هذا المثلث.

ولكن لماذا نستغرب؟. هناك جماعات أدبية تعيش في مجال افتراضي. وهذا هو شعار هذه المرحلة العجيبة من تاريخ الإنسان وحضارته.

لا يمكنني أن أنكر ما للأستاذ سعد من أياد بيض على نشاطي في السنوات الأخيرة. فقد نشر لي في بغداد عددا كبيرا من النصوص. وأولها قصة مترجمة لكاتبة أمريكية رقيقة هي "ديلاني نولان". والقصة بعنوان (صوفيا). وهي عن وقائع ورشة كتابة اشتركت بها في بلغاريا.

أيضا بلفتة كريمة منه أطلعني على مسودات أعماله الأخيرة. ومنها (ظلال جسد) الفائزة بكتارا عام 2016 ثم (فسحة للجنون) التي صدرت من شهور قليلة عن دار سطور. و(كونكان) التي صدرت من أيام عن نينوى دمشق.

وتوقعت في حينه لـ (ظلال جسد) نجاحا باهرا, وأتوقع لــ (كونكان) أن تحصد مكاسب استثنائية. فهي درة أعماله في القصة. ولم أطلع على مثل هذا المستوى الفني الرفيع منذ سنوات. وأضع هذا العمل بموضع منعطف أدبي أو ظاهرة فنية، فهو يساوي أهمية (دنيا الله) لنجيب محفوظ.

إنها قصص متأنية، تبني عالمها بتمهل، وتعطي لكل شيء حقه، ولا تترك في الذهن فراغات، ولكنها تحرض القارئ على التساؤل .

لماذا لا نتعلم من الطبيعة، ونهمل دروس الماضي، ونأكل أكبادنا، ونعيش بمستوى واحد؟..

لقد دخلت المجموعة في مخاض، ولا شك أن سعد رحيم بنى آماله عليها. فقد اختار لها أولا عنوان (صورة رجل). ثم بدل رأيه وأعطاها عنوان (أولاد المدينة). واختار في النهاية (كونكان).

وأعتقد أنه راهن عليها. لقد ألقى بكل أوراقه على طاولة اللعب. وكان واثقا أنه يحمل ورقة رابحة. لقد رسمت القصص عالما له حدود من خارج مجاله. وكانت المدينة مجرد رمز على دايستوبيا فاضلة. وهذه هي النقطة التي أضافها الكاتب الراحل. لقد عرف كيف يجعل الدايستوبيات تلغي نفسها (كما هو الحال عند جورج أورويل وزامياتين وبرادبوري).

ولا أريد أن أضخم أو أن أبالغ. وأدعو كل المهتمين بفن القصة للاطلاع على هذه التجربة.

ولأختم هذه الكلمة الودية أريد أن أنوه. أنني كنت أقرأ في مجلة الجديد قصة لسعد رحيم حينما أخبرني الأستاذ ماجد الغرباوي بالنبأ.

سعد محمد رحيم.

غادر دنيانا يوم الإثنين 9 نيسان 2018.

وكان معه مازن لطيف في مستشفى السليمانية لعدة ساعات. حتى يئس الطبيب من إنعاش قلبه.

حين قرأت النبأ لم يخامرني أي شعور. مثل أي مصاب برصاصة. في اللحظات الأولى لا يعرف أنه جريح.

تركت المجلة. ولم أتابع القراءة وشردت في هذه الصدفة. كم لدينا من مصادفات محزنة. وبالتدريج بدأت أنتبه لهذا المشروع. مشروع سعد محمد رحيم. لقد وضع حدا له ما نسميه بهادم الملذات ومفرق الجماعات.

إنه الموت الزؤام.

نعم.

لقد مات واحد منا.

من (صوفيا) ديلاني نولان وحتى (صورة رجل) توجد محطات كثيرة ومحكوم عليها الآن بالتواري. ولكن الروح الحية التي تكلم عنها فاضل العزاوي في كتابه المعروف لا بد أنها تبحث اليوم عن صورة لها. وسعد رحيم سيواصل مشواره معنا . وهذا مكتوب في سجل كل المفقودين الذين غابوا برغم إرادتهم.

وإذا انتصر الموت في جولة يبقى للحياة جولات وعدة أشكال ومنها الذكريات.

تستطيعون قتل إنسان ومحو صورة ولكن كيف يمكن إلغاء ذكرى.

 

صالح الرزوق

 

في المثقف اليوم