شهادات ومذكرات

أنطوان القزي: بعد مئة سنة.. عائدٌ إلى نبيّ أورفليس؟!

كلّما وجدتني هارباً من مصير البنفسجة الطموح في"العواصف"، أراني أدلف الى حديث التواضع لدى نبي أورفليس، وعندما أتساءل عمّا دهى "خليل الكافر" في الأرواح المتمرّدة، أتساءل مع المطرة عن المحبة.

وعندما تفيض مشاعري أسىً وأنا أقرأ عن مرتا البانية في "عرائس المروج"، تراني ألوذ إلى نبيّ جبران، أغمر مداركي بطيف ما أتى به هذا العبقري من ملامح خالدة تلامس الوجد وتغافل أردان المجتمع الى كلّ ما هو علويّ.

بعد مئة سنة على كتاب النبي، جئتُ أقارب الحياةِ والموت، الطعامِ والشراب، الحبِّ والزواج، جئت أستمع الى «المصطفى» الذي ظلَّ بعيدًا عن وطنه اثني عشر عامًا، وعاش بين سكان جزيرة «أورفليس» كواحدٍ منهم، منتظرًا عودته إلى مسقط رأسه .

جئت الى الكتاب الذي تُرجم إلى أكثر لغات العالم، وجعل من جبران ثالث أكثر الشعراء مبيعاً عبر التاريخ، بعد شكسبير والشاعر الصيني لاو تزه.3847 JOUBPDF

جئت اصافح المصطفى، استعيد اقانيمه الثلاثة قبلةً لأسفاري، معه اقدّس الحب، معه اؤمن بالمساواة، ومعه اطبع الوفاء لوطني وشماً على جبيني. جئت أعيش اللحظة الجبرانية التي ما خانتني ولا خنتها يوماً. جئت أسيرُ في مواكبه انسج اثواباً بيضاء لعرائس مروجه انشد الصفاء خلف ارواحه المتمرّدة جئت أعبر مع عواصفه، انحني مع اقاح الجبال معانقاً بنفسج الوهاد، جئت اسكن في ليله ارصد النجوم لأنعم بنور الصباحات، وجئت أطير بأجنحته المتكسّرة التي كسرت الصمت وحطّمت اغلال التقاليد. انا الكافر الجبراني الذي اينعت حبّة الخردل في سطوره إيماناً في نفوس المُتعبين. انا المجنون الجبراني الذي ألهم العقلاء وعصر عناقيد الحكمة في كؤوسهم وسقاهم رحيق الرحمة والتسامح. انا العاشق الجبراني الذي أفرد للوطن قلباً لا تؤرّقه مفاتن النساء ولا ينال منه غبار المسافات. انا جبران النيويوركي ابكي جياع بلادي انا جبران الانسان انسج من دمعتي ابتسامة للفقراء احمل وجع الناس أغني لعصافير الشرق. انا جبران الذي قال : لو كنت جائعاً بين اهلي الجائعين مضطهداً بين قومي المضطهدين لكانت الايام أخفّ وطأة على صدري انا لست من يقيم المؤسسات والجمعيات لأخاصم اهلي باسم المراكز والمناصب. انا جبران الرغيف على موائد بلاده والسنبلة في ترابها والثمرة في بساتينها والطير في سمائها. ولست من يسحب اللقمة من افواه الجائعين ويعقر بطونهم برماح الجشع. انا جبران لبنان والشرق وكل الطوائف جبران الذي لم يجعل للقلم هوية دينية وللحرف حدوداً ولست جبران العصبية والمناطقية والانانية والاستئثار. انا دولتي الامداء والآفاق والادمغة وليست برجاً او قصراً او مربعاً. انا جبران الوفي اردّد تحت كل سماء: «إن لم يكن لبنان وطني لاخترته وطناً لي» ولست الذي يجعل لبنانه لبنانين يفتش عن وطن سواه. محبة الوطن عندي عاطفة وضعية وفضيلة علوية وليست ادعاءً وتودّداً للرذيلة أراني لا أمتهن العداء باسم المحبة والنيرونية باسم الفضيلة. اردّد مع جبران : «ويلٌ لأمّة مقسّمة الى اجزاء وكل جزء يحسب نفسه فيها أمّة». ولا انتمي الى قوم هذا الزمن الذين يقسمون ويمزّقون ويفرّقون باسم الحفاظ على الأمة انا جبران المؤمن بالاخوة الشاملة والعدالة والحرية والمساواة والتضامن الاجتماعي وطمأنينة اللبنانيين ورفاهيتهم. انا لست لا اتنكّر للحق وامارس الظلم والطمع والكبرياء انا جبران الذي قال ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين. ولست الذي يتمذهب ويتمترس خلف الطائفة والدين وينصب كمائن الحقد لأبناء وطنه. انا جبران القائل ويلٌ لأمة تحسب المستعبد بطلاً وترى الفاتح المذلّ زعيماً وويل لأمّة تستقبل حاكمها بالتطبيل وتودّعه بالصفير لتستقبل آخر بالتصفيق والتذمير. ولست اكتب لأمة اصبحت شوارعها ساحاتٍ للتطريب السياسي وجدرانها ملصقات فتنة وابناؤها رهائن العقائد وآلهتهم ابواق المنابر ومنتهى طموحهم جوازات السفر. انا جبران البوسطني الذي قال: انا ههنا بعيد عن النكبة والمنكوبين، ولا استطيع ان افتخر بشيء حتى ولا بدموعي. انا لست من يحوّل النكبة الى تجارة مربحة ويفخر بالصفقات على حساب سعادة الناس . فمن ضميره وجع الناس يبقى خالداً ومن حليبه نجيع الثلوج يبقى ناصعاً ومَن ضلوعه غصون الارز  يزداد صلابة ومَن جبهته شموخ المكمل ومرآته وجه الله يبقى مؤمناً ومن أمّه بشري وحضنه قاديشا يبقى لبنانياً خالصاً. معه اقرأ في البدائع والطرائف قائلاً للسياسيين : «لكم لبنانكم ولي لبناني، لبنانكم موّظفون ومديرون ولبناني تأهّب الشباب وحكمة الشيوخ. فهل من ابناء لبنانكم من يمثل الفرح في صخور لبنان ام النبل في ارتفاع جباله ام العذوبة في مائه. فهل بينكم من يتجرأ على القول: اذا متّ تركت وطني افضل قليلاً مما وجدته عندما ولدت؟ هل بينكم من يتجرأ ان يقول: لقد كانت حياتي قطرة من الدم في عروق لبنان ودمعة بين احضانه او ابتسامة على ثغره؟

 أنا بريء من قوم يحسبون القحة شجاعة واللين جبانة؛ وأنا بريء ممن يتوهم الثرثرة معرفة والصمت جهالة والتصنع فنًّا

أنا مع جبران الذي يرى أن العواصف القوية تقتلع الشجر الضعيف إلا أنها غالباً ما تدفع الشجر القوي لبناء جذور أعمق."

فمن يطبّق اليوم كلام جبران واين الساسة الذين يعطون اكثر مما يأخذون، اين التجرّد والشهامة والاخلاص في زمن الانتشاء بخمرة السلطة والمركز واذلال الآخر؟ فجبران لم يسيّس الأدب، بل ادّب السياسة، حرّرها، نقّاها ورقّاها جاعلاً اياها في خدمة الشعب ومصالحه. ألمح جبران عاشقاً في بوسطن، اقرأه اديباً في نيويورك واسامره رساماً في باريس وارافقه ناهلاً للحرف في بيروت ليغافلني نبياً في اورفليس، وبين هذه وتلك يلملم الضوء سطوراً ويعلّقه ثريات في وطنٍ قمح البيادر فيه حنطة تزيّن ثغور أطفاله وليست اكياس رملٍ للفصل بين ابنائه. معه اعلق النواقيس على شرفات الكون لتبقى القرنة السوداء منارةً للعالم. معه اراقص قناديل المصطفى فوق كل موجة، ارفع الشراع مع اغنية كل صياد واغرق في مكتبات العالم سائلاً عن المطرة والمحبة والاولاد، امتطي حصاناً ابيض في حديقة النبي، اطبع جبيني بوداعة الفلاحين وانحناءة السنابل. معه أثور ليكون الوطنُ وطناً وليس مزرعة، معه اتمرّد وارسم بريشة الوفاء، اخطّ درباً الى مرقد العنزة، معه اخبز ارغفة الناس سماحاً وليس حقداً، معه يفيض لبنان خميراً ورسالة، معه جئت اليوم سفيراً لبلادي ليس كالسفراء طيراً ليس كالطيور عابراً للآفاق بدون جواز سفر، هاتفاً للقلوب بمفاتيح الرحماء وليس الظالمين، ألوّح للبيوت بمعاصم الاحرار وليس بأغلال العبيد اشقّ امواج العودة بمجذاف قدموسي وليس بعصا من حوّلوا امّ الشرائع شريعة غاب، معه جئت انتصر لأهل الحرف وليس للطلاسم. انا جبران الأبعد من الامداء والاسمى من الحلم ولست الأديب الذي حاولوا تعليبه على قياس عقائدهم. جئت اليوم افتح معكم صفحات هذا العبقري الوطنية استلهم منها وجهاً واحداً ولساناً واحداً وولاءً واحداً لأن من له وجهان يموت بلا وجه، ومَن له لسانان يموت بلا صديق، ومَن له ولاءان يعيش بلا وطن.

جئتُ أقول مع المصطفى:

"المحبة تضمكم إلى قلبها كأغمار الحنطة، وتدرسكم على بيادرها لكي تظهر عريكم

وتغربلكم لكي تحرركم من قشوركم، وتطحنكم لكي تجعلكم أنقياء كالثلج

وتعجنكم بدموعها حتى تلينوا، ثم تعدكم لنارها المقدسة

لكي تصيروا خبزاً مقدساً يقرّب على مائدة الرب المقدّسة

المحبة لا تعطي إلا نفسها، ولا تأخذ إلا من نفسها

المحبة لا تملك شيئاً، ولا تريد أن يملكها أحد، لأن المحبة مكتفية بالمحبة.

أكتفي بقول المصطفى عن المحبة لأننا نفتقدها أكثر ونخسرها أكثر ونجانبها أكثر، وما أحوجنا بعد مئة سنة الى العودة الى نبيّ أورفليس؟!

***

أنطوان القزي – رئيس تحرير صحيفة التلغراف في سيدني - استراليا

في المثقف اليوم