شهادات ومذكرات

رشيد الخيّون: اعتقال الطَّائيّ.. الاسم والموهبة

كتب تركي الدِّخيل سيرةً أدبيّة نفيسة للدبلوماسي، والأديب، وأول وزير إعلام سعوديّ جميل الحجيلان، بمناسبة مئوية ميلاده، ورد فيه: «إذا أَعْمَلْنا المثل السَّائد: إن كُلَّاً له من اسمه نصيب، فإن للشيخ جميل من اسمه النَّصيب الأوفر، فقد كان جميلاً في خُلُقِهِ، جميلاً في مَظهَرِهِ، جميلاً في تَسَامُحِهِ، جميلاً في أَدَبِهِ وثقَافَتِهِ» (الشّرق الأوسط 8/12/2023).

سيكون اعتراضنا على القول القديم الشَّائع «إنّ لكلٍ مِن اسمه نصيب» (استخدمه مُعَظّم الدّين السَّامري/ 616هج) في كتابه «الفروق على مذهب الإمام أحمد»، باسم «الجاحظ» و«نفطويه» و«الخنساء» وغيرها مِن الذّوات، ليس كلٌ مِن اسم أحدهم نصيباً، فتلك أسماء صارت عناوين للمواهب الكبرى، غابت وراءها معاني ألفاظها.

ذلك استهلال لما نقوله في فقيدة الإعلام السّينمائي العراقيَّة اعتقال الطّائيّ (1949-2023)، نضيفها إلى قائمة الأسماء التي لا نصيب لأصحابها منها، ولا ندري إذا ما كان الاسم مِن النَّوادر وبالعراق لا في غيره مِن البلدان، كون الاعتقال سمة لأكثر عهوده. لم نفكر بمعنى اسمها «اعتقال»، وهي تطل أسبوعياً مِن تلفزيون بغداد، الذي لو قُدم في عصر انتشار الفضائيات، ما ضاهاه برنامجٌ مِن نوعه، تقديماً واختياراً وإعداداً وهدفاً ثقافيَّاً مرموقاً.

لا يحتاج البحث عن سبب اسمها «اعتقال»، فذلك لم تُسأل عنه، لأنه معروف لمَن عرف ظروف أسرتها، لم تُسأل عن قصته أو سببه، حتَّى في استجوابات مديرية الأمن لها، ولجنة التّحقيق في القصر الجمهوريّ بسبب عرض فيلم «جميلة»، ثم في المجلس الوطني، ومقابلتها لنائب الرئيس آنذاك صدام حسين (أعدم عام 2006)، يوم كان يستقبل اتصالات النّاس.

فقد الإعلام السِّينمائيَ بوفاتها، ومِن يوم حجب برنامجها الفاخر «السّينما والنّاس» (1972-1978)، إحدى واهبات المعرفة بهذا الفن، إلى جانب ذلك كانت اعتقال متعددة المواهب: نحاتة، كاتبة، مترجمة. لكنها اشتهرت عراقيَّاً ببرنامجها المذكور.

حببت السِّينما الرّاقيّة لجيل السّبعينيات، وما زال أثرها ماضياً فيه، يُميز الرَّاقي عن الهابط، في وقت لم تزل أبواب السينما مفتوحة ببغداد وبقية المحافظات، قبل تحولها إلى مخازن، وصالات مهجورة، واستثمار تجاري.

لم يبق أثر للسينما التي فتحت صالاتها مع وجود الدّولة العراقيّة الحديثة (1920): العراقيّ، الحمراء، الرَّافدين، رويال، الزَّوراء، غازي، الوطنيّ، الخيام والسندباد، علاء الدين، ووجود مكاتب لطبع الرقوق السينمائية (الأفلام)، ومكاتب استيراد السينما ولوازمها (الدَّليل العراقي الرّسمي 1936 و1960). بعدها فتحت سينما: النّصر، بابل، وأخذت تتكاثر في بغداد والمحافظات كافة، مع وجود الجوالة منها.

انتهى هذا الضّرب مِن الفن، بدايةً بالإهمال ثم الإهمال المنظم، مع تدشين «الحملة الإيمانيَّة الكبرى» (1993 وحتى يومنا هذا)، وتكاتف معها الحصار الجائر، فأعدم كلَّ شيءٍ، حتّى صار هذا الفن خارج اهتمام العراقي. ظلت أخبار السينما بالعراق طي الكتب، فحسناً فعل عباس البغدادي وأرّخ لـ«بغداد في العشرينيات» (1998)، وكان شاهد عيان على فتح دور السِّينما آنذاك، حتّى وصول الناطقة منها بغداد في بداية الثّلاثينيات. وحسناً فعل أحمد فياض المفرجي بتسجيل تراجم الرُّواد في كتيبه «فنانو السِّينما في العراق» (1981).

بدأ برنامج اعتقال الطّائي (1972) بفيلم «الحرب والسّلام» وأغلق بفيلم «جميلة» (1978)، وبين التّاريخين كان النُّهوض شاملاً. لكنَّ العقيدة الحزبيّة أخذت تتعاظم، فأخضعت الفنونَ وألسنة العراقيين كافة لها، ومَن لا يطيق عليه النّزوح، فنزحت اعتقال عام 1979، العام الذي شهد نزوج جمهرة كبرى مِن المثقفين في شتى المجالات، وكأنه عراقيّاً تجاوب مع الأحداث التي أسست لصحوة دينيّة كبرى بالمنطقة، كان فن السّينما أحد أبرز أهدافها.

أقول مع شيوع مفردات القسوة مثل «الاعتقالات» و«المعتقلات»، إلا أنّ الاسم لبس معنى آخر، شأنه شأنه «الجاحظ»، صار عنواناً لموهبة، تفجرت بهنغاريا، بينما مواهب لذوات كثيرين خوت، واستوحشت مِن أصحابها، بعد هجرهم العِراق.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم