شهادات ومذكرات

في شارع المتنبي

علي المرهج

بدأت حكايتي مع شارع المتنبي في عام 1991، حينما كنت في مرحلة البكالوريوس، سبقني أخي سعيد ببيع كتبه على قارعة الطريق، كان سعيد قارئ محترف للرواية والشعر والأدب يجمع الكتب ولا زال، يتنقل في سُكناه مُستأجراً، وجل هم أخوتي سؤاله من كثر معاناتهم في رصف الكتب وحملها، هل قرأت كل هذه الكتب؟، فكان جوابه: "خويه واهسي واهس مطيرجيه، همهم حب الطيور لأن فيها كثير من الجمال يُنبؤك عن جمال يُبهرك تعدد ألوانه وأنواعه، والكتب طيور تُحلق في عوالم الفكر فيها ما هو جميل وفيها ما هو أقل جمالاً، لكنها طيور تمنح السماء بعض من ألقها وبهائها".

لم يكن هنا باعة كُثر في ذلك الشارع، وكان الشائع عن بيع أنها في"سوق السراي"، وهو السوق المحاذية لشارع المتنبي، يبدأ من نهاية هذا الشارع من جهة شارع الرشيد بكشك يبيع الكتب القانونية، من جهة اليمين، وبداية الشارع كبة أبو علي الشهيرة من الجهة اليُسرى.

عُرف سوق السراي ببيع القرطاسية بعد أن تآكلت فيه المكتبات بداية التسعينيات، ولم تكن فيه سوى مكتبات قليلة، أهمها كانت مكتبة الفلفلي، ومكتبة (أبو رائد)، ومكتبات أخرى لا أتذكر أسماؤها، ولكنها مكتبات كانت تهتم ببيع كتب التراث، وبعض الروايات، والسير القديمة، مثل سيرة "سيف بن ذي يزن" و سيرة "عنترة ابن أبي شداد" ومعاجم اللغة وكتب التواريخ القديمة، مثل الطبري والقرطبي وابن كثير، وكتب الأحاديث والسنن، مثل البخاري ومسلم وسنن أبي داوود وسنن إبن ماجة والترمذي والنسائي والبيهقي والدارقطني والمُستدرك، وهي كتب تروي تاريخ ذا بعد واحد للإسلام هو الإسلام السُني، بحكم طبيعة النظام التي كانت تمنع كل ما يشي بحديث أو رواية عن التاريخ الآخر للإسلام، ألا وهو التاريخ الشيعي الذي كانت له كتبه التي يعتد بها مثل: الكافي في الأصول، وتهذيب الأحكام للطوسي والإستبصار للطوسي ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، يُضاف لها بحار الأنوار للمجلسي، وهي كُتب قد نالت حضها في البيع والشراء سراً عند من هم مؤمنون بأن في ترويجها نجاة لأولي الألباب من باعة الكتب من الشيعة الذين آمنوا أنهم بترويجهم لمثل هذه الكتب وتوفيرها للمحب والطالب إنما ينالون فيه رضا الله وآل بيته، ولهم فيها مكسب في الدنيا والآخرة، فكان شارع المتنبي مكمنهم وحافظ سرهم.

لم تكن هناك مكتبات في شارع المتنبي سوى مكتبة المثنى التي إلتهم الحريق عبق ذكرياتها، وكانت هناك المكتبة العلمية ومكتبة حياوي ومكتبة الخاقاني التي أبت البقاء لتُزين فرعاً نابضاً بالفكر من فروع شارع المتنبي.

من جهة أخرى كان كل ما هو مُتاح في الثقافة من أدب ورواية الفكر فيما قبل التسعينيات في سوق السراي إلَا ما ندرهو ثقافة تُحاكي رغبة النظام وسياسة الحزب القائد.

في المقابل كان هناك مثقفون قد ذاقوا الأمرين، مُرَ سياسة الكبت والإستبداد، ومُرَ الحصار، فأضطر بعضهم لاختيار المنفى، وآخرون اختاروا الوطن سُكنى لهم وتحدي نظام الطاغوت، إما لعوز مادي أو لرغبة منهم في التحدي، سياسياً في رفض النظام علانية واختيار طريق المعارضة الصريحة أو سراً، وهذه السرية عبر عنها البعض بالترميز، شعراً أو نثراً، وعبر عنها آخرون بالصمت والسكوت، فكثير من السكوت صراخ كما قال أستاذنا مدني صالح حين طالبه بعض المتملقين الكتابة في السياسة، وكانوا يقصدون الكتابة عن مآثر الحكم ودُررالكلم عن أقوال السيد القائد وسياسته!!.

بعض من المثقفين الذين اختاروا الوطن منفى، لم تكن عندهم هناك كثير من خيارات العيش بكرامة سوى إفتراش رصيف شارع المتنبي ليُعلنوا عن بداية عصر جديد للوَراقين، هو عصر الذين لا يكتبون ولا يخطون قول المنشئ للقول، بل عصر الذين هاموا في فيافي العيش، فآثروا العمل في ما أتقنوا قراءته وحكايته، وبيع بعض مما رغبوا بامتلاكه من كتب، ولكن الزمن الصعب له حساباته، فأختاروا العمل ببيع الكتاب وشرائه لأنه هوايتهم وغوايتهم، وهو ما به يستطيعون دك حصون حاكم أرعن لا يفقه من جمال اللغة إلَا المدح والتصفيق والتهليل الذي إنبرى بعض ممن يُقال عنهم أنهم مثقفون كي يكونوا الشعراء والطبالين والزمارين ممن يُتقنون الرقص على حبال سلك التملق للسلطان "الحاكم الفيلسوف الفاضل"!!.

لكن هناك مثقفين آخرين ممن آثروا العيش في منفى الوطن، ولكن عقولهم لا نفي لها، ولن تستكين، فآثروا العمل في شارع يُنبأ عن وعي جديد، لم يكن معروفاً من قبل ولا شهرة له، إلَا إسم من سُميَ به، وهو المتنبي "مالئ الدنيا وشاغل الناس"، فصار الشارع أحق بإسمه مالئ الدنيا بأخبار الثقافة والأدب العالمي والعراقي وشاغل الناس بتنوع اهتمام باعته ومريديه، بل أستطيع القول أن شارع المتنبي كان أجرأ من شاعره، ولم يُهادن كافور الأخشيدي ولا سدنته من حيث إصرار باعته، لأنهم يكونوا باعة كلام ولا باعة أمل بقدر ما كانوا طُلاب حق يُرتجى، مُثقفون يرسمون بعملهم مكاناً للتعبير الحقيقي لرفض لسياسة كم الأفواه بعد أن عجزوا عن بناء تصور حالم للتغيير في عوالم المثال، فكان المتنبي شارعاً وطريق حُبلى بتنوع ثر لعقل عراقي لا ينضب ولا يهدأ، لأن من أسسوا الشارع يحلمون "ببناء وطن حر وشعب سعيد" وإن كان بعضهم لم يجعل من هذا الشعار هوية له، ولكنهم جميعاً شعراء وروائيون ودارسي فلسفة وعلوم ومُريدي تصوف ولغة، وآخرون إستهوتهم علوم السلف، سنة يمن الإسلام، وشيعة يسار الإسلام، يحملون هذا الهم، فكانوا يتسامرون ويتحاورون ذوي اللحية الكثة (اليمين واليسار) مع ذوي الياقات البيضاء من اليمين "البرغماتي" برؤية لا اتفاق فيها مع كلا الطرفين، وهناك آخر "يساري" بروليتاري حانق على كل توجات هؤلاء فكراً يتواصل معهم إنسانياً ينقض قول هذا وذاك وهؤلاء ليعصف بالجميع ناطقاً باسم فقراء أرض العراق، وهناك في شارع المتنبي أشياء وأشياء تُخبرنا عن عراق مُصغر جميل فيه تنوع وثراء يقبل بعضه بعضاً إنسانياً ويختلف فيه الآخرون فكرياً على قاعدة "لا يُفسد في الود قضية".

 

 

 

في المثقف اليوم