شهادات ومذكرات

طُلَاب الوطن ووطن الطالبين

علي المرهجكان هناك كثير من طلبة المحافظات الجنوبية والفرات الأوسط، يدرسون ببغداد، ولم يكن من بينهم طلبة من البصرة سوى القلة القليلة، لوجود جامعة البصرة، التي تقبل كثير من أبنائها وأبناء الجنوب، ولم تكن في الفرات الأوسط وذي قار وميسان جامعات، فقد تأسست جامعة الكوفة في 1987، ولم تكن تحوي سوى كليتي الطب والتربية للبنات.

أما طلبة الموصل او نينوى، فقد كانت لهم جامعة عريقة، ولربما يشترك مع طلاب الجنوب أبناء الغربية، من طلاب الأنبار وصلاح الدين، بل وحتى ديالى، لم تكن في محافظاتهم جامعات أو كليات، وفي هذا الأمر محاسن ومضار، فمن محاسنه حُسن التواصل والتعارف بين أبناء هذه المحافظات على اختلاف مذاهبهم، ومن مضاره كثرة المناكثاة والصراعات بين الأصوليين والسلفيين، سنة وشيعة من طلبة هذه المحافظات.

في هذه السنوات والتي تلتها من سوء حظ الطلبة، لم تكن هناك أقسام داخلية (حكومية)، فلم يكن من خيار أمام هؤلاء الطلبة القادمين من هذه المحافظات غير البحث عن سكن يُلائمهم كل حسب دخل عائلته، فأبناء الغربية بحكم غناهم وتحسن مداخيلهم اختاروا السكن في أرقى الشُقق في كرخ بغداد أو رصافتها.

ولأن الفقر صديق وحبيب لأغلب الطلاب الذين قدموا من الفرات الأوسط وجنوب العراق، فلم يكن متاح لهم الكثير من الاختيارات، فكان الكثير منهم يبحث عن سكن واطئ الكلفة له في أزقة وحارات بغداد القديمة في "الميدان" و "شارع الرشيد"، وفي مدينة (الثورة) أو مدينة صدام، في زمن النظام المقبور، وهي اليوم مدينة الصدر.

لقد عاش وخبر أغلب هؤلاء الطلبة كل أنواع الحرمان والبؤس والتقشف في العيش.

فمن عاش في أزقة بغداد القديمة وبيوتاتها الآيلة للسقوط، كان يلتحف برطوبة أرض هذه البيوتات التي تُظلل شرفاتها وشناشيلها بعضها بعضاً، ولربما يكون هذا الأمر نافع بمقدار في الصيف، كي يتقوا حرَه اللاهب، ولكن شتاء هذه الخرائب التي تُسمى بيوتاً، كانت موطناً للتعفن الذي تنشط به البكتيريا، وانتشار الإنفلونزا، وانخفاظ درجة حرارة الجسم!!.

بعض من الطلبة فضلوا العيش في مدينة الثورة، أو مدينة الشعلة، هاتين المدينتين التين تأسستا، من فقراء فلاحي الجنوب من الذين ضاقت بهم أرض التكوين الحضاري فيما "بين النهرين"، فشح ماء دجلة والفرات بها، فكانت الملوحة والتصحر، مآلها في العراق الملكي، ومن عادات بغداد وأهلها الإيثار، ومن إيثارهم أن تجعل من أطرافها ملاذاً لهؤلاء النازحين الذين يأسوا من جدب الحكم الملكي، فكانت الصرائف ملاذهم للعيش في العراق الجمهوري.

يال لبؤس هذه المدينة التي خطط معالم هندستها نظام عبد الكريم قاسم، و بعد أن كانوا يعيشون في صرائف، تجرأ قاسم للعمل على إنصاف هؤلاء الفقراء، فمنح كل عائلة مساحة من الأرض تُقدر بـ 144 متراً مُربعاً، فخُطت طُرقها ومسلكنها، فسُميت مدينة الثورة، التي تغيرت أسماؤها مع مُتغيرات شكل الحكم، فمع صدام صار أسمها "مدينة صدام"، ومع مُتغيرات الحال بعد الاحتلال صار أسمها مدينة الصدر.

في أواسط الثمانينيات وجتى سقوط الصنم كان أسمها مدينة صدام، ولكن صداماً ونظامه كان يتعامل معها وفق مبدأ الشك بتوجهات أبنائها في الولاء لنظامه، لأن سُكانها من الأغلبية الشيعية، وصداماً كان لا يثق بكل الشيعة الذين لا هم لهم سوى إظهار الولاء لآل بيت الرسول وشيعة علي!.

سيطول الحديث بي عن معاناة نحن أبناء الجنوب من طلاب الجامعات أيام نظام صدام، ولكن ما أروم الاشارة إليه أن هناك الكثير منا قد اختار من مدينة الثورة سُكنى له، واللطيف الجميل والجميل الغريب، أن أغلب من قدم من هؤلاء الطلبة ممن قدموا لعاصمة الدنيا، لم يكونوا يعرفون بغداد، ولربما لم يتسن لأحد منهم زيارتها قبل تاريخ قبوله بجامعاتها، ولم يكن يُدرك حجم العمران الذي فيها، ولم يدر بخُلده أن تكون بغداد سوى مدينة لا تعدوا أن تكون سوى مدينة أكبر من مدينته، لربما تكون فيه شوارع عدة وسكان كُثر، ولكنهم لم يتصوروا أنها مدينة تحتاج للتنقل ورؤية معالمها لا مشياً على القدمين، بل لركوب سيارة أو حافلة لنقل الركاب، لأن كل مدن الجنوب والفرات، يمكن لك أن تعد محلاتها ومحالها سيراً، فلم يكن فيها سوق مُسقف وشارع رئيس، مسافته لا تتجاوز الكيلو متر الواحد، يتجول فيه أبناء المدينة جيئة وذهاباً، وهناك حديقة أو حديقتين، في الرئيسية منها جدارية مبنية من الآجر و "ملبوخة بالإسمنت" مرسوم بداخلها صورة لـ "القائد الضرورة"!!.

بعد سقوط نظام الدكتاتور، أستبدلت صور جداريات القائد الضرورة بصور السيد محمد محمد صادق الصدر، أو صور السيد محمد باقر الحكيم، لا لأن آل الصدر أو آل الحكيم قد أمروا بذلك، بل لأن هناك من المُتملقين الكثير ممن كانوا من البعثيين الصداميين في هذه مناطق ممن لا يُتقنون المحبة للوطن بقدر اتقانهم فن التحول في تبني الرؤية العقائدية وفقاً لقرائتهم للسائد القدسي وطبيعة الولاء الجمعي للقائد الرمز الذي يستهوي نفوس الجماعة أو المكان الذي يعيشون فيه، وهؤلاء القرقوزات يُبدلون جلدون حيثما يقتضي التبديل والتحويل، لا لأنهم عرفوا وأدركوا خطاياهم في مرحلة ولاؤهم العقائدي السابق، بل لأنهم كانوا وما زالوا يُجيدون فن اللعب على سيرك "التملق" وخداع الجمهور، واللعب على عواطف الجمع، فهم من كانوا وما يزالون يُتقنون العزف والتلحين لموسيقى الهيام والإنتظار للمخلص الذي كان من قبل "صداماً ونظامه"، ولكن تغير الحال، لا يعني أن هناك أمر مُحال، "فكل واحد ياخذ أمي يصير عمي"!.

لم يكن الكهنة من قبل اخناتون سوى مُطبلين ومُزمرين أو مٌزينين لأفعال المُستبد بكل ما يمتلك من جبروت وطاغوت، ولكن حينما نجا يوسف المرمي في غياهب الجب، أعاد للمُعذبين كثير من الأمل، فما كان يوسف سوى مثال للذين يأسوا، أو مثال للذين فقدوا الثقة بقدرة الإنسان على صناعة الحياة لمن ظن أَلَا أمل يُرتجى بعد محن، الذي قلب مُعادلة الربح التي كانت دائماً لقارون وأنصاره، فصارت خسارة لهم، وربحاً لضعفاء الأرض، لكنه يوسف الذي أنقذه الرب كي يكون مثالاً يُحتذى للأمل، وكم نحتاج لمثل يوسف الذي هدم جدار الفساد، المُتمثل برجال الدين من من "وعاظ السلاطين"؟.

إنه يوسف الجمال الذي يُحتذى كمثال للخير والعدل. يوسف التدين هو سقراط الفلسفة الذي جرع السم، كي يُعيد للحق بريقه، بعد أن صوره تلاميذه والأخوان أنه لهم عدو مُبين!.

غادرت موضوعي وربَ في مُغادرتي للموضوع عذر أو أعذار، فالحديث حديث شجون، وأفراح تترى، وأتراح لا زالت تُروى.

ولي في باب المعظم ذكرى، وفي شارع الرشيد، وفنادقه ذكريات وحكايات عن طلَاب الكليات الذين قتروا واقتصدوا وعملوا ليلاً في المقاهي والمطاعم والحانات، وافترشوا الطرقات بالبسطيات، منهم من يبيع العطور، وآخر يبيع اللفات، لفات البيض أو الفلافل مع بعض المقبلات، كي يوفروا لهم لقمة عيشة هنية، ويخلصوا أهلهم من هم المعاناة في توفير مصروفهم أيام دراستهم في الكليات أو الجامعات.

لو ينطق الجسر المعلق في باب المعظم، ولو نطقت مقاهيه ومطاعمهه المُقابلة لكلية الهندسة التابعة للجامعة المستنصرية، ولو نطق شارع الرشيد الذي كان ينوء بحمل ثقيل، حمل وقع أقدام المحرومين ممن سكنوا فنادقه الهرمة، وبُكاء الطلبة الذين غسلوا أرصفته بدموعهم الثكلى من فرط احساسهم بالحرمان.

كانت أزقة شارع الرشيد ملأى بأبناء المحافظات، ولجُلَهم ذكريات دموع من ألم وحسرة لا تُعد بالأقدام أو الأمتار، إنما تعدها آهات على طول هذا الشارع: من سوق هرج حتى نهايته حين لُقياه بشارع أبي نؤاس.

والشاهد على ذلك شربت زبيب زباله!، عجيب شربت زبيب زباله، ولا تجد لك "محط رجل" أو قدم، وبعد إنتظار سيصل لك "السره" كي تشرب "كلاص" أو قدح، لكنه ليس القدح المُعلى، إلَا لمن ذوت نفسه وروحه بحب تاريخ بغداد، فيشرب نخباً من الزبيب، ليكون هارون الرشيد الذي كلما أمطرت غمامة في أرض عاد خرجها إليه!.

يا لي هذا العصير، أو شربت زبيب "زبالة" الذين يُسكرنا، وننتشي به، نشوة تفوق بها من ينتشي بـ "واين فرنسي"، وبسكرة صوفي تجلت روح الله في نفسه الزكية، وكأنه "أكسير" العشق العراقي الذي لا تكتمل نكهة التمتع بنشوى المحبة لبغداد إلَا بسبع رشفات كاملات من قدح صنعته أيدي عراقية بتسمية غريبة هي أقرب للإستهجان لمن يدعي "تفرنجاً"، ولكنها عراقية خالصة لمن يعرف أن تاريخ التسميات العراقي، فلرب شخص سُميَ "زبالة" وفقاً لمعتقد قديم، أن من لم يهبه الله ذرية، فعليه اختيار أسوء الأسماء، لأن في اختيارها خلاص من تهديد عوالم الجن الأشرار.

ويغلبني الحديث فلا أستدرك، فيضيع القصد، فحديثي عن طلبة المحافظات الذين سكنتهم بغداد، فما قدروا الخروج من بطون أزقتها وأشجارها الوارفة بالمحبة، وبغداد هي بغداد، فمثلما كان لمدينة الثورة، أو "مدينة صدام" حصة!، ولشارع الرشيد الذي كُنا نعد دكاكينه ومحلاته بالخطوات، فهناك سينا الوزراء، وهناك سينما ريكس كما أتذكر التي تحولت فيما بعد لسينما ومسرح النجاح، وسينما علاء الدين. ولم يكن شارع الرشيد يُتقن وصفه طلبة المحافظات، ولا شارع المتنبي، ولا سوق السراي، بل صاروا يُتقون وصف مكانات السهر والسحر في الميدان والصابونجية محلة الذين لا سُكنى لهم، تكل المحلة و هذه "الدرابين" التي غادرها كل رجال تاريخ الحكم الملكي الذين كانوا قاطنين لها، فرحين بوصفها، كما جاء في كتاب أمين المميز "بغداد كما عرفتها"، بغداد التي إستقبلت أم كلثوم عام 1932 في مسرح فندق الهلال في ساحة الميدان.

ضيعت الحديث، ولكني أنا القادم من الجنوب، طالب في كلية الآداب، بُهرت ببغداد، فكانت قلعتي، بعد أن غادرت "قلعة سكر"، فبعد أن كانت عندي "قلعة سكر" قلعة المحبة وسريان الروح "وي روجات الغراف"، وجدت في بغداد توهج النار في القيود وكعبة المجد والخلود.

وغلبني الحديث، ولا تلوموني، فهناك بعض مني يلهج بجنوب الحرف والكلم، وبعضي يلهج ببغداد موطن الحكم.

ولكن سأُجبر نفسي وروحي على العود، "عود أبدي" له جذوره في قيثارة العزف السومرية، ولكن له أزهاره من الرازقي والنرجس والحدائق البغدادية.

له طعم الهجرة من بلاد تاريخها أبدي "سومر"، لمدينة تاريخه أبجدي، فكان لباب المعظم البغدادي، أبواب فتح معرفي، أرتقي به وأرتجي منها التريث في التعليم والتطريب لي، فأنا ابن من عزف القصب بعض من شجنه، ولكني شغوف بمدنية فيها وتري السومري يعزف ألحاناً فيها معروف الكرخي بعض من ىشعره في الزهد، لينطق فيما بعد حلاج التصوف بروح حلولية مؤمنة:

والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مغروس بأنفاسي

..........

وإذا أبصرته أبصرتني أبصرته وإذا أبــــصرته كـان أنــا

روحه روي وروحي روحــــه من رأى روحين حللنا بدنا

وسأترك الزهد والروح الصوفي لأزيد الألم ألماً، لأعود لتذكيركم ذكرى عيش لنا كان لطهاة وطباخي باب المعظم ممن يُتقنون الترحيب بطلبة المحافظات طعم التذكير لهم بأمهاتهم التي نزفت دماً لا لأنها كانت تحلم بوصولهم لأرقى مدارج المعرفة، وإن كان هذا من مُبتغاها، ولكنها، كانت تولول، وتزيد نشيج الحزن حُزناً، لعل ولدها الذي غادر حضنها يعي أن هناك أمهات قد فقدن فلذات أكبادهن في الحرب، فأم (أحمد) لا تبكي على ابن جارتها الذي فقدته بفعل غطرسة الشيطان "الحاكم"، وإن كانت تقضي الليل والنهار لطماً ونعياً حين تذكره، هو "كريم" الذي كان كريماً في محبته لها، هو ابن لأم (أحمد) في التربية، هو ابنها الذي وبخته لأنه أهمل القراءة والكتابة، فكان مصيره أن يكون جُندياً في جيش (صدام حسين)، وبعد حين، سمع (أحمد) صراخ أمه، ولم تشق "زيجها" خجلاً، يتذكر (أحمد) ذلك الحدث، فيقول: "كلتها ها يمه شبيج، خير"، "كالت يمه (أحمد) "إكريم" راح، كلتلها "وين راح" كالت يمه "إكريم" إستشهد"، "إكريم" إبن أم (أحمد) الذي لم تلده، صاح (أحمد)، بكى، صرخ أحاااااه، "إكريم" مات شتريد يصدام، وظلت أم (أحمد)، وظل (أحمد وياها، ينحب على "إكريم" اللي أخذته الحرب، وهنيال العراق، وهنيال إيران، حررنه القدس!!. البعثيون يلهجون بالقدس، والإسلاميون الإيرانيون يلهجون بإسم القدس!!.

عفيه القدس، (أحمد) يقول: "خسرنا كل تاريخنا القُدسي، وبقيت القدس بيد "إسرائيل"!!.

والعربي ميعوف سالفته، (أحمد) كان طالب بكلية الآداب بجامعة بغداد بباب المعظم، وبكل حربنا وي إيران هو طالب، وخلصت الحرب، وفرح، (أحمد) وفرح كل العراقييين، بس أحمد ما تهنا وتذكر أيام حرب صدام وي الكويت، وكال، "وطكنا صدام بحرب وي الكويت، وضاع الحساب وضيعنه الفرصه من إدينا".

كمل (أحمد) دراسته، واشتغل سايق جيب بقلعة سكر، ولم يتصل بأحد من زملائه، من طلاب الكلية، إلَا بعد سقوط النظام، فعلم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، أن منهم، من مات، ومنهم من صار مسؤولاً كبيراً في أحزاب السلطة، ومنهم من جُنَ، ومنهم، ومنهم،...!

 

 

في المثقف اليوم