شهادات ومذكرات

اعترافات عبر سيرة ذاتية

علي المرهج

كنت قد تحدثت مراراً وتكراراً مع صديقي الأعز د.عصام العسل الذي كتب كتاباً عن السيرة الذاتية، فأسأله، لماذا لم يكتب مفكراً أو كاتباً عربياً اعترافاته في سيرته الذاتية، مُستثنياً شكري، بطريقة نُصدق بهذه السيرة؟.

وهو بطريقته المعهودة يُجيبني مُتجهماً "إشبيك علي" ليش أحنا نكدر نسولف على روحنا سيرتنا".

عصام يكتب مُنظراً لا باحثاً ولا شارحاً لسيَر المفكرين، منهم جان جاك روسو في اعترافاته، ومنهم أدورد سعيد في (خارج المكان)، ومنهم من قبل الغزالي في "المنقذ من الضلال" وبعده أوغسطين في كتابه "الاعترافات" الذي إستعاره مني نسخة قديمة فلم يرده ليَ، ولكن شكراً له، لأني تعلمت منه بعض من فن "السيرة".

ورغم أني لست بمستوى هؤلاء من المفكرين الذين ذكرتهم، فأنا كاتب مغمور، ولكن لطعم الرواية عن الذات بصدق، طعم المعالجة النفسية والتنقية الروحية.

بالتأكيد لم ولن أستطيع المصارحة بكل ما عشته، رغم أن كل ما فيه ليس مُثيراً ولا تظن أن فيه كثير من المفاجئة أو الغرابة، ولكن فيه بعض من عبرة لمن يظن أن النجاح صعب المنال لمن يعيش شظف العيش، فمن طلب العُلى سهر الليالي.

يقول روسو "أن تسجيل اعترافاتي لربما تكون حيلة ماكرة مني لتجميل ذاتي" في محاولة منه بحسب عبارته لممارسة "الاعتراف التجميلي"، ولكن ماذا في ذلك، فكل منا يسعى لتجميل بعض تقاسيم الزمن المرسومة على وجهه، فالنساء اليوم أكثر حظاً ومقبولية من الرجال في تجميل الجسد، وربما يكون هناك بعض من الرجال جملوا بصبغ الشعر أو بملبس أنيق بعض من أسى أيامهم.

لم أحاول تزويق ماضي ما عشت، ولربما يكون في هذا النزوع صناعة للتجميل خارج المألوف، فكثير منا يستلذ بصدق راو عن عيشه، ولكنه لا ولن يضع نفسثه موضع ذلك الراوي من حيث جرأته في الفصح والاعتراف عن تاريخ حياة مليئة بالبؤس.

لم أتحرر يوماً من نزواتي، ولم أكن مثالياً في رغباتي، فأنا إنسان أعيش عمري الماضي والآتي كما ينبغي أن يُعاش بحسب السن، بصباه وشبابه، والكهولة.

لم أندم ولن أندم على ما مر بي وما عشته بخيره أو شره، فمن نجاحاتي، إن كان في حياتي بعض من نجاح أنني عشت تحولات العمر، فصبايا (دعبل) و(جعاب) وصور (غرندايزر)، وشبابي (طلائع وفتوه) وعين على العراق بحزبه وحربه وقائده و (النخوة).

لم أكن شيطاناً رجيماً، كما حاول روسو أن يُظهر نفسه، ولم أكن ملاكاً من ملائكة الرحمة. كنت إنساناً له شغف في المعرفة، وله صراع ومحبة وتباغض وله نزوة.

حاولت الإيفاء بِدَين التربية لأمي، واجتهدت بالايفاء بحق الأبوة لأولادي، ولي مع والدي ذكريات وذكريات، فيها قساوة وبعض من الآهات، ولكن فيها صدق في الحوار وتقبل مني ومنه للنقد لعيشة صاغها هو بعيداً عنَا، بعد أن وُضعنا في صالة الانتظار، هي ليست بصالة إستقبال سوى لمن كانت حالته تحتاج الطوارئ، فكان أبي طوارئ حاجتنا حينما نكون في صالة الطوارئ، وبعدها يعيش حياته في الطول والعرض والإكرام والبذخ على كل قريب أو صديق عارض أو طارئ.

لم أفقد صديقاً يوماً، منذ الوعي بلحظات الطفولة، فمن لعبت معه (لدعبل) لا زال لي تواصل معه، ومن قرأت معه فلسفة وفكراً لا زال صديقي.

ولا أجمل نفسي ولا أمدحها، فلي خلافاتي وانتقاداتي لكثير ممن وجدت فيهم خُداع ونزييف في المعرفة، ولا أنقدهم كذوات، بل أنقد ما اهتموا به بسذاجة تبني أو شرح لموضوعات، ومنهم زملاء، وبعضهم فرضهم الزمن، فكانوا أساتذة لي درسوني، ولكنهم لا يفقهوا من الفلسفة شيء، إلَا أنني أشهد لهم بضِعة نفوسهم وبحفظهم لوصايا "القائد الضرورة" وتنظيراتهم لفكر البعث، ولكنهم درسوني، ولبعضهم خُلق وتواضع قلَ نظيره.

حاولت ألَا أكون نزقاً معهم، فنقدت تصرفاتهم وتحولاتهم من اليمين إلى اليسار، ولكنهم لم يتقبلوا صراحتي، وأعتبرها البعض تجاوز على ذواتهم، وأنا أصر أنها نقد لموضوعاتهم وطبيعة تحولاتهم الفكرية في الدفاع عن فكر القاتل حينما يكون القاتل حاكماً، والدفاع عن القتيل بأمر من الحاكم القاتل، حينما صار أصحاب القتيل بععد سقوط الحاكم القاتل قادة للحكم!.

لم أكن ناسكاً ولا صوفياً يوماً، فأنا الباحث عن تحقيق ذاتي، أشعل شموع القدرة التي في شبابي لتُنير بعض من ظُلمات وطن عشت فيه وتنسمت كثيراً من نسماته وعبيره وآهاتي، بل وحتى أحزاني وحسراتي.

لم أكن يوماً "خارج المكان" كما كان أدوارد سعيد، إنما كنت أنا المكان، وربما المكان أنا. أُُنطق المكان الذي عشت فيه، يحاورني وأحاوره، وأصنع منه مكاناً مُريحاً للعيش وإن أبى، فالمكان أنا، وأنا من يُصيغه ليُعيد تصميمه ألماً أو فرحاً، وحاولت، وفي محاولتي بعض من نجاح في تحويل المكان إلى خليل لي وصاحب يروم ما أروم ويحب ما أحب وفيه بعض البغض لما أبغض.

المكان هو العراق، وبعض من أجزائه أنطقتها وأخرجتها عن صمتها، قلعة سكر مدينتي العاشقة لضفاف نهر الغراف، وبغداد الذي عشقتها دجلتها، وأنا الحالم الآتي من رافد الغراف لدجلة، إلى "دجلة الخير" الأصل والأصالة، فكنت من بعض بقيا طيننتهما وعذب الماء فيهما، فلم يكن لي في الفرات سُقيا، فكل سُقياي دمع دجلة الذي كنت أظنه لا ينضب، ورافده الغراف الذي منه وبه أرتوي ولجرفيه ناظر عاشق مُستطيبُ.

سأستمر بكتابة سيرة هامشي، عاش على ضفاف نهرين، دجلة الأصل، وغراف الفرع، لربما، أو من المؤكد، سيكون للهماش بعض من حضور وتلقي لحكاياته عند من كانوا ولا زالوا يظنون أن "المتن" هو أصل، هو البداية والعمق ونهاية الحكاية.

لا تُكتب الحكايات اليوم عن سيرة ملك أو ملكة مثل الإسكندر، أو زنوبيا، ولا سيرة فارس مثل عنتره، إنما تُكتب عن الذين لم يُدون لهم الرواة من سدنة و"وعاظ السلاطين" سيرهم وحكاياتهم.

لا تحلو الحكايات اليوم عن "الجنية" و"النسورة"، وما أخبرتنا به جداتنا لنعيش في عوالم الخوف والدهشة المُفتعلة والرعب المجاني، ولا تحلو الحكايات عن هارون الرشيد ومجالسه، وبغداد التي تجني غلال أرض العالم، فهذه حكايات مللناها، إنما تحلو الحكاية عن عازف رام لقاء هارون الرشيد، فلم يستطع بسبب أفاعيل الحُجاب ورفضهم للقاء سلطان الأرض بفقير فِطرته خرق المألوف موسيقياً بفعل ما وهبته السماء.

وستحلو الحكاية حينما تكون عن "طباخ الرئيس" الذي لم ينل حظه من الوجود في الحكاية، سوى في الفلم المصري.

واليوم أنا فرح حينما أجد بعض أصدقائي ممن يظنون أن لا قيمة لرواية بعض من مُعاناتهم بدأوا يروون بقايا ذكرياتهم.

كانوا يمتنعون عن الروّي وإستذكار سيرتهم لأنهم يظنون أنهم من الذين وسمهم الله بأن يكونوا هامشاً، ولكنهم قبلوا أخيراً بروي حكاية صراعهم وكدهم وتعبهم كيف كانوا إلى أن صاروا أُناس فاعلين في الوسط الاجتماعي أو السياسي أو الأكاديمي الذي هم فيه.

 

د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم