شهادات ومذكرات

خمس ساعات في موسكو مع د.خليل عبد العزيز (2)

ضياء نافعأشرنا في نهاية الحلقة الاولى من هذه المقالة الى بعض المسائل المهمة، التي جاءت في تلك (الدردشة السريعة!) مع خليل عبد العزيز، منها ما قاله طارق عزيز لخليل بشكل مباشر وصريح، في انه (عميل سوفيتي)، فكرر خليل في جوابه انه موظف في معهد الاستشراق السوفيتي التابع لاكاديمية العلوم السوفيتية، وانه وصل الى العراق بدعوة رسمية من الرئيس العراقي البكر، وطرح على طارق عزيز السؤال الآتي – هل ان هذا يعني، ان الرئيس البكر قدم دعوة رسمية و استقبل (عميلا)؟، ثم أضاف قائلا له – انه سيخبر الرئيس البكر غدا في اللقاء معه بما قاله له الان. سألته انا – وماذا قال لك طارق عزيز بعد ذلك؟ أجاب خليل – صمت عزيز، ثم انتقل الى الحديث عن مهرجان الفارابي. وقد قال خليل للبكر ذلك فعلا، فاخبره الرئيس (في محاولة للتخفيف من وقع كلام طارق عزيز على ما يبدو) ان صدام كان يسمي طارق عزيز في البداية – (ابو ريشة)، وتعني هذه التسمية انه من جماعة جيش الليفي التابع للانكليز، والذي اسسه الانكليز بعد احتلالهم العراق (و كان افراده يضعون على قبعتهم ريشة) . ثم اردف البكر – ان علاقتهما (اي بين صدام وطارق) كانت متوترة، ولكنها تغيرت فيما بعد، ولا يدري البكر سبب ذلك التغيّر، ولكن البكر مع ذلك(تهرب!!) من الاجابة المباشرة حول ما قاله طارق عزيز لخليل . وتذكرت ما حكى مرّة لي أحد ابناء كبار البعثيين حول طارق عزيز، اذ انه ذكر لي ان ضيوفهم كانوا يلوذون بالصمت عندما يحضر عزيز الى مجلسهم، لانهم كانوا لا يثقون به، ويظنون انه سينقل كلامهم الى (جهات اجنبية !). وقد روى لي خليل قصة لا يعرف هو نفسه مدى صحتها تقول، ان الامريكان استدعوا طارق عزيز عندما اعتقلوا صدام كي يتأكدوا من شخصيته، فلما شاهده صدام صرخ في وجهه – اخرج من هنا ايها العميل . ان هذا الموضوع شائك جدا، وسيجيب التاريخ عن كل هذه التساؤلات في المستقبل بلا شك، ولكن لنتذكر كيف تصرّف وطبان (الاخ غير الشقيق لصدام ووزير الداخلية لفترة طويلة) مع طارق عزيز بشكل وقح وغير مؤدب تماما في المحاكمات العلنية، والتي شاهدناها على شاشات التلفزيون، هذه التصرفات التي تعكس حتما الرأي الذي كان سائدا في عائلة صدام حول طارق عزيز، ولنتذكر ايضا ما قاله عزيز نفسه في اللقاء مع علي الدباغ حول هؤلاء الذين كانوا يحيطون بصدام، بما فيهم وطبان طبعا، حيث أسماهم (بما معناه) بالاميين.

النقطة الاخرى، التي جاءت في نهاية مقالتي تلك، والتي أثارت ردود فعل حيوية لدى القراء، هي ما ذكره د.خليل بشأن رواية د. سعد العبيدي حول رسالة بريجنيف الى مرتضى سعيد الحديثي في مدريد عندما استدعاه صدام . لقد قال خليل ان ذلك يتعارض ويتناقض مع المنطق العام كليا، ومع المفهوم السوفيتي للامور ايضا، اذ كيف يمكن لبريجنيف (وهو في منصبه ذاك !) ان يرسل برقية الى السفير الحديثي في مدريد بهذا المضمون ؟؟؟ الا ان د. خليل قال، ان غفوروف (رئيس معهد الاستشراق) كان مندهشا من موقف السفير العراقي مرتضى الحديثي مقارنة بموقف السفير السابق صالح مهدي عماش، اذ كان عماش يهاجم صدام علانية عند زياراته للمعهد، اما الحديثي فقد كان يدافع عنه، حتى عندما قال له غفوروف مرة، انه كان وزيرا للخارجية، وان تعينه سفيرا في موسكو يعني ما يعنيه . وتحدّث د. خليل عن تطور علاقته بالحديثي لدرجة انه دعاه مرة الى السفارة حيث كان يقيم في الطابق الثاني لتناول العشاء، ومدح تصرفاته واخلاقه، وقال انه كان السفير العراقي الوحيد الذي كان يعرف الاصول الدبلوماسية ودقائقها ويعرف ايضا كيف يتناقش مع الآخرين رغم الخلافات بينهم . واستمر الحديثي في كل زياراته للمعهد على موقفه الثابت من حكومته (انظر مقالتنا عنه في سلسلة – عراقيون مروّا بموسكو – رقم 18)، وقد استفسر غفوروف من عامر عبد الله مرة عنه، فقال عامر ان صدام يكرهه، وان مرتضى ايضا لا يوده، ولكن مرتضى لا يريد ان يعلن ذلك امامهم، وقال عامر عبد الله ان صدام سسيصّفيه ويتخلص منه في المستقبل، اذ انه من جماعة عبد الخالق السامرائي، وقد تذّكر غفوروف كلام عامر عبد الله عندما تم ذلك فعلا . وتحدّث د. خليل عن رأي سوفيتي كان يدور في اوساط المعهد بشأن مرتضى، وهو، انه في حالة استقالته من منصبه، فانهم سوف يبقوه في الاتحاد السوفيتي ضيفا معززا مكرما، ومن المحتمل جدا، ان مرتضى عرف – بشكل او بآخر – بهذا الرأي، وان ذلك هو اساس تلك الحكاية التي جاءت في رواية العبيدي، وكذلك اساس ذلك الرأي الموجود في اوساط عائلته لحد الان .

النقطة الثالثة هنا ستكون حول لقاء د. خليل مع زيوغانوف – رئيس الحزب الشيوعي الروسي، والتي تمت بناء على رجاء من أحد قادة الحزب الشيوعي العراقي، اذ لاحظ العراقيون ان الحزب الشيوعي الروسي يتجاهلهم ولا يدعوهم الى مؤتمراته واجتماعاته ولا يذكرهم حتى في بياناته . لقد نفّذ د. خليل طلب ذلك القيادي العراقي، واستطاع ان يصل الى زيوغانوف، وعندما كان بانتظار خروجه من اجتماع في مجلس الدوما، شاهده زيوغانوف وتذكره، اذ انه كان يراجع مكتب العلاقات الخارجية في الحزب الشيوعي السوفيتي، عندما كان زيوغانوف يعمل آنذاك في هذا المكتب، فقال له من بعيد جملته تلك، وهي – (لقد كنت شيوعيا يا يوسف في موسكو، فلماذا اصبحت عميلا للامريكان الان ؟) . تعجب خليل من هذا(الاستقبال!)، وطلب التحدّث معه، وقد تبين اثناء التباحث على مائدة الطعام، ان زيوغانوف يرى، ان مشاركة الحزب الشيوعي العراقي في مجلس الحكم يعني تعاون الحزب مع المحتل الامريكي، وقد حاول د. خليل ان يقنعهم بضرورة الاستماع الى وجهة نظر الحزب الشيوعي العراقي حول ذلك، وان ذلك يقتضي الاجتماع بين الطرفين قبل كل شئ، وانه (اي خليل) يقوم بمهمة ايصال هذا الامر اليهم ليس الا، وقد جرى ذلك فيما بعد . وأضاف د. خليل، ان هذا الموضوع طويل وعريض وشائك ومعقد، اذ انه يرتبط بمفاهيم مرتبكة وغير واضحة في الماضي والحاضر لدى الطرفين العراقي والروس معا.

 

أ.د. ضياء نافع

 

 

في المثقف اليوم