شهادات ومذكرات

طالب عبدالعزيز شاعر بطعم البصرة

علي المرهجالشاعر والكاتب البصري طالب عبدالعزيز لا شك أنه يُمثل امتداداً لجيل الكبار من شعراء العراق والبصرة الفيحاء، عطاؤه ثرَ مثل تمر نخيلها، وآبار نفطها نعيش نحن العراقيون على ريعه، والبصرة كما هو طالب يأنان معاً.

يشكو طالب بصرته فلا ماء حلو ولا بساتين باقية، بل يحلم أهل البصرة بلحظة أمن وأمان، أو بقية عيش بلا هوان.

ينعى طالب وكل مُثقفي البصرة بصرتهم ويتحسرون على أيام سبعينيات القرن المُنصرم وما قبله، حينما كانت البصرة قبلة لمن يروم أن يترس خرجه وعقله من مدينة الجمال والموسيقى والطرب.

قف إنها البصرة.

قف إنها ميناء الحضارة.

قف إنها مدرسة اللغة وعلم الكلام.

قف وتمهل وقدم رجلك اليُمنى فتباشير الفرح في ألق البصرة في علمها وفقه عُلمائها وطُرقها الندية وبساتينها الغنية، التي يتغنى أهلها بماضيها، لفرط ما يعشون فيه من مأساة في يومنا هذا.

قف أنك في حضرة الحضرة، بصرة الثورة، وثورة (الزنج).

قف إنك تجني معرفة في البصرة، لأن فيها (أبو الحسن البصري)، ومنها بدأ الحُلم وتفسيره بإبن سيرين، ومنها بدأ علم العروض، في مُعجم الفراهيدي (العين).

الجاحظ ينشر معارفه بعلم الحيوان وبعلم التوحيد، أو الأصول (علم الكلام) من البصرة.

البصرة بصرة السياب والبريكان، وجُلَ كبار مُثقفي العراق، فأن وطأت أرجلنا أرض البصرة فلمنشي الهوينا لأن في أرضها نطق الكبار شعراً وفقهاً وعلماً، فكل الموجات الصوتية في البصرة التي تسبح في عالمها الأثير، إنما تشي بأن هُناك ربات الجمال تحف بها وإن كره الكارهون.

سأعود لطالب عبدالعزيز الوريث الشرعي لهذه التركة هو ومن يعرف من مُجايليه ومن هم بعده قيمة البصرة.

همّ طالب عبدالعزيز بصريٌ بامتياز، فـ "البصرة موروث لا يُدركه الزوال" باستعارة من عنوان لكتاب يعشقه طالب عبدالعزيز لمؤلفه (علي أبو عراق).

وكما يرغب هو بتسمية مُريديه له بأنه "أحد سدنة البصرة"، وأظن أن طالب عبدالعزيز لم يقف قليلاً عند مفهوم (السدنة) فهم من يُزينون لسُلطان الجور أفعاله، ولمن يرغب بمعرفة المزيد عن سلبية وصف (السدنة) فاليقرأ كتاب عبدالجليل الطاهر: "أصنام المُجتمع"، وهو من أصل بصري وأستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد، ولا أظن طالباً ولا مُريديه يرومون هذا القصد، لأنه يروم أن يكون سادن البصرة في نقائها وعودتها للأصل الذي يُشكك بوجوده كل من يعيش في المدينة، فدعوة الأصل والعودة له لا مُغايرة فيها لنزوع الأقليات والأعراق الأثنية في الإنزواء والخروج عن كابينة الدولة للعيش في (دوغمائية) الأصل.

أحسب أن طالباً "يحلم ببصرة يتأمل بها نخلة ساعة ولد الموت"، خصيبي يحلم بالعيش، وخصيبي ينتظر الموت بشرف كفارس لا تليق به الحياة إلَا وهو على صهوة الحصان.

إنها صهوة الشعر، ولجام النثر الذي لا يكتبه إلَا وفق نسقين: ظاهر ومُضمر، ظاهر يليق بفارس شاعر، ومُضمر يليق بناثر يعرف زمان لجم الكلم والكشف عن درر الحكم.

إن كانت "الآلهة صامتة في البصرة" بتعبير طالب، لكن فيها هو وبعض من أهل البصرة من المُثقفين لا يصمتون.

لا أحد يشعرُ بك أنك حياً، كما أنت الآن

...

لا أحد، إلاك يسمع الريح بأغصانها.

"البصرة نخل وبمبر وصُبور وشط العرب"...

أول الصيف بمبر ثم ينهمرُ

قلق أنت (يا طالب) لا تُنكر ذلك، كما يقول فاضل السراي.

تكتب في (مباهج الطين) وكأن تُعيد انتاج كتب (مباهج الفلسفة) لويل ديورانت، بطبعة عراقية، فنحن حضارة الطين، وكل نتاج الفلسفة المُتراكم إنما يستمد حضوره من (مباهج الطين) السومري الذي يمتد يسيح بألواحه فكراً وحضارة من تخوم واسط في شمالها إلى دلمون، والبصرة امتداده في البهجة والزهو الحضاري.

 

د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم