شهادات ومذكرات

ذكريات في مستشفى الراهبات

جواد عبد الكاظم محسنلظروف قاسية جدا كنت أمرّ بها تدهورت حالتي الصحية، وكان الإهمال جوابي لها حتى تفاقم الحال، فهبّ ثلاثة من أخوان الوفاء، فحملوني عنوة إلى عيادات الأطباء ومختبرات الفحص، واتضح أن حالتي في غاية الخطورة وتتطلب عملية جراحية بأسرع وقت ممكن، إذ حصل ورم خطير كاد أن يغلق القولون، فاتصلت بأخي وفاء رابع في بغداد وأرسلت له تقاريري الطبية كافة، فاختار لي طبيبا جراحا بارعا هو الطبيب رامز سامي المختار  للقيام بإجراء هذه العملية الجراحية فوق الكبرى، وعرض عليه تقاريري الطبية، وصحبني إليه، وأدخلت على عجل إلى مستشفى الراهبات في كرادة مريم، وأعيدت الفحوصات كافة، وتأجلت العملية يوما واحدا لأن فحص الدم أظهر وجود نقص كبير فيه، فأعطيت على الفور قنينتين، ثم ثالثة في العملية ورابعة وخامسة بعد إجراء العملية .

رافقني في المستشفى طوال أيام رقودي المحامي في المستشفى الصديق المحامي ثامر جواد المغير، وهو من أخوة الوفاء ومن عائلة كريمة ومشيخة عشيرة ألبو حمدان في المسيب، وقد أحاطني بجهده وكرم أخلاقه طوال أيام رقودي الخمسة في المستشفى، ولم أغب عن رعايته ونظره ساعة واحدة، ورفض رفضا باتا أن يساعده أحد في هذه المهمة وخاصة في المبيت، كما أن عددا غير قليل من الأصدقاء الأعزاء والأقارب تقاطروا عليّ، ولم تنقطع عيادتهم لي في نهار أو ليل، وقد تحولت معظم تلك الزيارات إلى ندوات أدبية ماتعة، قرئ فيها الكثير من عيون الشعر، ورويت أخبار الأدباء السالفين، فخففت من آلامي، وأنعشت روحي، وأرغمتني على المشاركة فيها أحيانا !!

ومن تلك الزيارات الأدبية الجميلة عيادة وفد الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق – المقر العام، في اليوم الثاني للعملية، وقد تكوّن الوفد من الأساتذة إبراهيم الخياط الأمين العام للاتحاد، ورفعت مرهون الصفار من لجنة العلاقات الاجتماعية وعلي شبيب من إدارة الاتحاد، وقد حملوا باقة ورد طبيعية جميلة، وفيه بطاقة كتب فيها:

((الأستاذ جواد عبد الكاظم

أمنياتنا بالشفاء العاجل والعودة لأهلك وصحبك واتحادك وإبداعك

اتحادك

اتحاد أدباء العراق

الأحد 19/8/2018))

وقد سررت بهذه الزيارة على قصرها، وكان الأمين العام إبراهيم الخياط قد ختمها ببيت الشعر:

أدب العيادة أن تكون مسلما      وتقوم في إثر السلام مودعا

ومن الزيارات الأدبية الجميلة عيادة الدكتور سعد عبد الجبار العلوش وشقيقه المحامي أياد العلوش، وكان الشاعر أحمد شوقي رابعنا إذ هو محور الحديث في الزيارة، ويحفظ الدكتور سعد العلوش الكثير من روائع شعره كما شقيقه المحامي أياد ..

وعادني الكثير من الأصدقاء الأعزاء وفي مقدمتهم الأدباء من بغداد والحلة والهندية والمسيب وسدة الهندية، وغيرها، وكان لزملاء الأمس في الشركة العامة لصناعة الحرير موقف لا ينسى، إذ جاءني الحاج داود سلمان الأعظمي في يوم العملية حاملا هديته وهدية الأستاذ الكبير صباح رشيد العبيدي المقيم حاليا في مدينة أريزونا في الولايات المتحدة، والمهندس خالد الشمس المقيم حاليا في أربيل، وقد ظلوا جميعا متابعين لحالتي الصحية يوما بيوم، كما زارني من زملاء العمل الأستاذ صبيح محمد الوهيب ونجله فراس الأستاذ في الجامعة المستنصرية ..

ومن الزيارات المؤثرة زيارة الدكتور عباس القويزي على كبر سنه وضعف حالته الصحيه إلا إنه أصر على أن يأتي لزيارتي، ويستقل المصعد بصعوبة إلى الطابق الثالث ليتفقدني ويجلس ويجلس معي بصحبة نجله علي .

*  *  *

من المصادفات السعيدة أن مدير مستشفى الراهبات الأستاذ غالب منصور ساوا، وهو نجل زميل قديم وصديق عزيز راحل في الشركة العامة لصناعة الحرير، وما أن علم بذلك، حتى اهتزت مشاعره، وانبعثت ذكرياته، وأولاني اهتماما خاصا على كافة الأصعدة ما أعجز عن شكره، وكان الدكتور عبد الرضا عوض قد ذكر صداقتي مع أبي غالب في كتاب صدر له قبل سنوات عنوانه (وتلك الأيام ..)، وقد عرج عليها من خلال تجربة عاشها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، إذ كتب:

(أما اليوم الثاني الذي لا أنساه من عملي الوظيفي حينما نقلت قسراً من معمل نسيج الحلة إلى معمل حرير السدة بسبب مشاكل راحت تتفاقم وتتراكم أساسها إلقاء القبض على شقيقي الشيخ عبد الحليم بتهمة انتمائه لحزب الدعوة الإسلامية اللذان خيبا آمالنا تماماً (الحزب وشقيقي)، فقد وصلت الشركة يوم 3 نيسان 1981، والحرب بين العراق وإيران على أشدها، وبعد إجراءات روتينية بسيطة ترك الخيار لي لكي اختار القسم الذي يمكنني العمل فيه، فكانت محطتي الأولى في قسم يرأسه رجل متوسط العمر طويل القامة يظهر عليه علامات الجد والحزم ينادونه الناس (أبو غالب) وأنا بتُ أنادية (راعي الغلابة) اسمه منصور ساوا أو هكذا !، من الطائفة المسيحية، كنت قد إلتقيته مرة واحدة في معمل نسيج الحلة قبل التحاقي في معمل حرير السدة،غاية في الأخلاق والنبل والصدق، وفي ذلك اليوم حان موعد الاستراحة، فحضر شقيقه لأمر ما فصرفه بطريقة ذكية، وقال أنت ضيفي، فقلت له أرجو أن تتم أوراق المباشرة وسأعود إلى الحلة الآن فألح علي وجلسنا لوحدنا في غرفة صغيرة . فقال لي:

أنا أعرفك وأنت من الكوادر الفنية التي يشار لها، لكن لماذا نُقلت إلى هنا؟ سيما وانك مصر على إبقاء أسرتك في الحلة، فقلت له بما هو واقع ! إن سبب نقلي هو ما حدث لشقيقي بانتمائه لحزب الدعوة، وما أن سمع هذه العبارة حتى سقطت الملعقة من يده وغارت عيناه، وقال لي وهو يتلفت يميناً ويسارا بطريقة الناصح الصادق، اسمع يا أخي في الإنسانية – هذه العبارة لا يقولها إلا من اكتوى بالظلم ـ، هذا النظام البعثي ظالم ومجرم، هذه المرة تكلمت معي بدون عوائق لكن إياك.. إياك .. أن تعيد الكلام هنا في هذه الشركة، فهذه تهمة وجريمة قد تجرك إلى مصائب !! فقلت له حتى (ح.ج) - وكان هو المتنفذ في الشركة بحكم منصبه الوظيفي- فهو صديق الطفولة والصبا، فقال لا تأمن أياً كان هنا !!، وبما أن الخيار لك في العمل أينما ترغب ولك حب للثقافة والأدب فلن يتواءم معك في هذه الشركة غير شخص واحد اسمه (جواد) يكنى (أبو اعتماد) وهو غير موجود الآن ويعمل في قسم الهندسة المدنية، وحذاري أن تكرر حديث شقيقك، وقدم توضيحاً لما هو الحال في الشركة بما اختزل عليَّ أمور كثيرة، وفعلاً التقيت جواد بعد فترة فكانت معرفتي به خير صحبة فأنا مدين لذاك الرجل الفذ (راعي الغلابة)، منصور الذي ضاع أثره، ولم أعرف له طريق كي أقدم له جزيل شكري وامتناني لأمرين:

- الأول باختصاره سبيل معاناة قد أدفع لها ثمنا باهضا ..

- الثاني كونه سببا لمعرفتي بالأستاذ الجواد المحسن).

* * *

قبيل دخولي إلى صالة العمليات ظهيرة يوم الأحد 18 أيلول 2018م اكتظت غرفتي وخارجها بالأصدقاء من بغداد والمسيب وسدة الهندية والحلة وغيرها، فكان لذلك بالغ الأثر في نفسي ورفع معنوياتي، ودخولي إليها بنفس راضية، وقد رددت الشهادة وأعلنت لنفسي قبولي مقدما بما قسم الله لي، وابتسمت لما سيأتي، على الرغم من رؤيتي لقلق البعض وعيونهم الدامعة وقد رافقني أصحابها إلى باب الصالة، وبعد ربط الأجهزة كان آخر ما سمعته كلمة (أوكسجين) ثم غبت عن الوجود، وقيل أن عمليتي استغرقت ساعتين ونصف الساعة، أخرجت بعدها إلى غرفتي، وبدأت تدريجيا أفيق من البنج العام، وأشاهد الوجوه الطيبة التي أحاطت بي ورافقتني، واستمع لتهانيهم لي بالسلامة .

تقاطر الأصدقاء الأعزاء لعيادتي طوال الأيام التالية، وهم يعرضون خدماتهم عليّ، وأنا أتوجه بالشكر والامتنان لهم، كما أن الاتصالات عبر الجوال لم تنقطع نهارا أو ليلا ممن كانوا بعيدين عني .

في اليوم الثالث من العملية عانيت من انبثاق سوائل فضلات من أنبوبي (الدرين) حتى غرقت بها لأكثر من مرة .. بعد انتهاء الدوام كانت هناك ممرضة خافرة تدعى جانيت اعتنت بكل المرضى بشكل مائز ومنهم أنا، وكانت تناديني ب(عمو) وقالت إني مثل ابيها الذي توفي بعد مرضه ..

بعد أن أكملت جانيت عملها مع المرضى الآخرين وقد ﻻحظت ما حل بي استدعت العامل البنغالي جان وحملتني معه عنوة إلى الحمام وأجلستني على كرسي ووضعت راسي فوق المغسلة وغسلته بعلبة شامبو وجففته ثم خلعت كل ملابسي وراحت تغسل جسمي جزءا بعد آخر بواسطة الخاولي والشامبو ثم تسكب الماء بمساعدة العامل البنغالي، ولما أتمت ذلك أحضرت ملابس العمليات وألبستنياها وأعادتني إلى سريري وجددت ضماد جرح العملية وأحضرت علبة بودرة ﻻ تتسبب بالحساسية ونثرت محتوياتها على المناطق الحمر المحيطة بمنطقة جرح العملية للتخفيف من آثار الحساسية والألم ..

وضع المرافق الذي معي مبلغا من المال إكرامية في جيب جانيت فرفضته بشدة وأرسلنا لها علبة حلوى فرفضتها بتهذيب أيضا، وعندما ﻻحظت انكساري قالت إنها ستأخذ زهرة من الباقة التي حملها وفد اتحاد الأدباء لي واختارت أصغر زهرة ووضعتها في قدح على منضدتها وبقيت ترعاني حتى صباح اليوم التالي ..

سألت جانيت عن أهلها قالت إنها من الكرادة وقد تشتت أهلها وأقاربها في المنافي بعد مضايقة الإرهاب لهم ومحاولتهم خطف شقيقتها الصغرى !! وسألتها ثانية وأين تقيمين يا جانيت اﻵن ؟ قالت أقيم في دير للأيتام يجاور المستشفى أرعاهم وأبيت فيه !! في دفتر ملاحظاتي كتبت عنها كي ﻻ أنساها ولن أنساها ما حييت: (جانيت ابنتي التي ليست من صلبي)!!

 

*  *   *

أما على صعيد عالم الفيسبوك فكنت قد نشرت على صفحتي فيه يوم الأربعاء 15/8/2018 خبرا للأصدقاء جاء فيه: (أصدقائي الأعزاء: من المقرر إجرائي عملية جراحية في مستشفى الراهبات ببغداد يوم الجمعة 17/8/2018 لاستئصال ورم في القولون .. احتاج دعاءكم)، وقد وردني ما يقرب من ثلاثمائة تعليق تضمنت أصدق الأدعية ويرجون لي الصحة والسلامة والشفاء العاجل .

وكان عدد من الأصدقاء قد نشروا على صفحاتهم خبر دخولي إلى المستشفى أو زيارتهم لي، ومنهم الإعلامي عبد عون النصراوي، والنسابة علي حسن علوان، والباحث حسن عبيد عيسى الذي عادني إلى المستشفى في اليوم الثاني للعملية مع الدكتور عبد الرضا عوض.

ونشر الصحفي العراقي الرائد محسن حسن جواد نداءً وفيا على صفحته الشخصية يوم 30/8/2018 جاء فيه: (بعد مضي أسبوعين ولم نسمع خبرا عن صديقنا الباحث التراثي جواد عبد الكاظم، أجريت عدة محاولات للاتصال به لمعرفة حالته الصحية بعد العملية التي أجريت له لاستئصال ورم في القولون يوم 17 آب.

وأنا في لبنان أرسلت له رسائل بمختلف الطرق للاطمئنان على صحته ولاطمئن مئات الأصدقاء والمتابعين وأتمنى له الصحة والسعادة بمناسبة عيد ميلاده يوم 28 آب كما كنت افعل كل عام.

أخيرا رد الصديق جواد وقال انه بخير شاكرا السؤال عنه وقد زاره وفد من اتحاد الأدباء ثم مجموعة من أدباء محافظ بابل.

تمنياتنا له بالشفاء).

ونشر الأستاذ الدكتور سعيد عدنان يوم 10/9/2018 كلاما طيبا عني قال فيه: (عرفته على صفحة هذا العالم الأزرق ؛ فعرفت فيه القلم الرصين، والخلق الرفيع . أحبّ المعرفة وتزوّد منها الزاد الوفير، وكتب في التاريخ، والأدب ما يقوم على حسن التحقيق والاستيعاب ...

منّ الله على أخينا العزيز الأستاذ جواد عبد الكاظم بالصحة والعافية وردّه إلى أصحابه ومحبيه سالماً معافى).

*  *  *

أمضيت في مستشفى الراهبات خمسة أيام وسط رعاية دائمة، وكانت مغادرتي لها يوم الأربعاء 22/8/2018 بعد الظهر، وقد طلبت المرور بمدينتي المسيب لدقائق معدودة لرؤية البيت والأحفاد، ومنها مضيت ومن معي إلى موطن الأهل والأجداد في قرية هادئة من قرى ناحية أبي غرق لقضاء فترة نقاهة فيها بعد إجرائي لتلك العلمية فوق الكبرى وحاجتي الملحة إلى الراحة والهدوء ..

 

جواد عبد الكاظم محسن

 

في المثقف اليوم