شهادات ومذكرات

اسياخم: الرسام الذي فقد ذراعه

645 اسياخاممن أين نبدأ بقصة الرسام الجزائري محمد أسياخم؟ من ولادته في قرية جزائرية؟ أم من قصة تلك الرمانة اليدوية التي عبث بها، وهو فتى فتفجرت وأحدثت كارثة ستظل آثارها حية في نفسه لأمد طويل؟ أم نبدأ من صداقته لكاتب ياسين؟ أم نشرع بإثارة أوجه الشبه بينه والبطل المتخيل في رواية (ذاكرة الجسد) لأحلام مستغانمي؟ أم… أم أننا تورطنا معاً في قصة شائكة أشواكها كنبات الصبار المنتشر هناك في جبال الجزائر، حاملاً بين أشواكه فاكهة التين-البربري الطيبة، رامزاً في الوقت نفسه للقسوة وللجمال؟

ومهما يكن من أمر، فإن محمد اسياخم (1928-1985) صار يعد أحد أهم رواد الرسم الحديث في الجزائر. وقد نشأ في عائلة بسيطة وعاش طفولته سعيدة نسبياً، فكان يأكل حتى يشبع، في وقت كان كثير من الجزائريين لا يجدون كسرة الخبز، وظل يذهب للمدرسة التي نظر إليها وقتها بوصفها ترفاً بالنسبة لأسر أطفال يرزح وطنهم تحت وطأة احتلال مرير.

ويذكر أن إدارة المدارس في تلك الفترة كانت منوطة بالإحتلال الفرنسي، فالمناهج تشيد بعظمة فرنسا، فرنسا التي كانت في ذلك الحين محطاً لأطماع الألمان الساعين لاحتلالها، إلى أن نجحوا في مسعاهم بداية الأربعينات. وذات يوم لا يختلف كثيراً عن باقي الأيام نظمت المدرسة التي يدرس فيها اسياخم مسابقة لرسم بورتريه يجسد (الماريشال بيتان)، وهو عسكري فرنسي صار رمزاً للدفاع عن استقلال فرنسا عن ألمانيا (انتخب بعد ذلك رئيساً للجمهورية)، فكان الفائز بالجائزة الأولى لأفضل بورتريه، هو بطلنا اسياخم، وقدّر لذلك الرسم الأول أن ينتشر في الحي الذي يقطنه، مبشراً بولادة موهبة حقيقية، فتقدم إليه كثير من قاطني الحي حاملين تصويرات بأيديهم طالبين منه أن يرسمها لهم بالألوان.

غير أن الأمور لا تسير دائماً وفق ما نبتغيه، أو نحلم به، وهذا ما ينسحب على اسياخم أيضاً، ففي عام 1943 يجد الفتى اسياخيم رمانة يدوية قرب معسكر قريب ويجلبها للبيت، ومن غير سوء قصد انفجرت لتسبب بوفاة اختيه الصغيرتين وطفل، هو ابن اخت له ايضاً، أما اسياخم فخسر ذراعه اليسرى وطرف سبابة يده اليمنى. ترى ما الذي يمكن أن يحدث لفتى واجه موقفاً كالذي مر به اسياخم (مقتل اختيه، مقتل ابن شقيقته، فقدانه لذراعه، سوء وضعه الصحي ومكوثه في المستشفى لسنتين، فضلاً عما قيل عن غضب أمه تجاهه، وتحميله مسؤولية الحادث)؟

من المتوقع في ظل حدث مأساوي كهذا أن يترك آثاراً سلبية في نفسية اسياخم تعيقه عن مواصلة الحياة السوية، فما بالك بالإبداع الفني؟ غير أن اسياخم سيقول لنا امرا آخر. إذ بعد عشر سنين، لا أكثر، من ذلك الحادث، بدأ "اسياخيم" دراسة الرسم في باريس نفسها، وفي المدرسة العليا للفنون الجميلة تحديداً، وما أن تعلم الرسم على أصوله الأوربية حتى عاد ليرسم مواضيع اجتماعية: تصور معاناة الفرد الجزائري، وكان أغلب أبطال لوحاته، هم عمال جزائريون وأمهات جزائريات بأزياء تقليدية، نعم أمهات!

وبالعودة للوحات اسياخيم (شاويّة، الشمس السوداء، قيامة الشهيد….) سنجد أنه بالرغم من تفضيله رسم أناس بسطاء من عامة الناس كالعمال اليدويين مثلاً، فإن تركيزه ظل منصباً على تقديم أوجه النساء بطريقة رمزية غالباً ما تكون فيه المرأة حزينة. والسبب في ذلك صار واضحاً فيما نعتقد، وهو ما أكدته ذات مرة الكاتبة الجزائرية نادية أقسوس في مقالة لها باللغة الفرنسية عن فن أسياخم قائلة بأنه حين "رُفض من جنة الأمومة" بقي في "بحث أبدي يترقب رجوع الأم لتعترف به، تلك الأم بعباءتها الثرية بالألوان.". ومن الواضح ان هذا التفسير يستند لمأساة شخصية في حياة اسياخم، ولكن هل ثمة تفسير آخر ينأى عن الشخصي ليقارب العام، يلامس الأحداث العامة التي مرت بها الجزائر؟

فلقد استمر الاستعمار الفرنسي في محاولاته لاقتلاع جذور الهوية الجزائرية، تلك التي أنكرها السياسيون الفرنسيون بعنصرية، وأنانية مفرطة، إذ كانوا يروجون لفكرة أن الجزائر لم تكن شعباً يوماً ما. إن هوية اي شعب تبرز في عاداته وتقاليده، وفي طرق التعامل التي يتبعها افراده، وفي الملبس الخاص والمأكل وطراز العمارة والفن والفلكلور الشعبي، إلى غير ذلك من مكونات الثقافة التي تستند إليها الهوية، وجميع ذلك متحقق فعلاً عند الجزائريين. أما أن ينتبه الفرنسيون لزي المرأة الجزائرية، مثلاً، فلا يروق لهم، فتلك مسألة أخرى، وإن كانت تقوض نظريتهم بصدد هوية الشعب الجزائري. ينسحب هذا أيضاً لا على زي المرأة فحسب، وإنما على دورها في إدارة الأسرة، وطرق معيشتها أيضاً، وإن يكن الفرنسيون قد دسوا أنوفهم عنوة في خصوصيات الشعب الجزائري، لكنهم كانوا يبغون من وراء ذلك بشعور، وبلاشعور أيضاً، دفع الإنسان الجزائري للإحساس بالخجل، والعار من عاداته وتقاليده، أي من هويته ذاتها. وهذا في اعتقادنا هو السياق العام الذي جعل اسياخم يصرف كثيراً من وقته مركزاً على رسم المرأة الجزائرية بلباسها التقليدي.

ولاحقاً وجد اسياخم لنفسه مكاناً ضمن شرائح المثقفين الجزائريين الطليعيين، ذوي الحس الوطني، ونكتفي هنا بالإشارة لصداقته لواحد من أكثرهم شهرة، وهو (كاتب ياسين)، صاحب رواية (نجمة). وقد قدر لفنان والأديب أن يتعاونا في أعمال عديدة. فرسم اسياخم كثيراً من الرسوم التي زينت النسخ المطبوعة لأعمال صديقه، ورسم أيضاً لوحات مستوحاة من أعمال كاتب ياسين. ويكفي الإشارة هنا إلى لوحة (المرأة المتوحشة) ولوحة (إمرأة على قصيدة شعرية)، تلك التي حين أكملها اسياخم طلب من صديقه أن يقوم بتوقيع اللوحة، فتحايل عليه ياسين ولم يفعل ذلك.

وما أن تحقق الإستقلال، وتعين على الجزائر أن تصدر عملة وطنية خاصة بها حتى تمت الاستعانة بأسياخم ليصمم رسمها، وفوق ذلك ظهرت الطوابع البريدية الجزائر، وهي مزينة بأعماله، وطلب منه الإشراف على لوحة جصية في مطار الجزائر. ويبدو من ذلك انهم في الجزائر انتبهوا لبراعة فنانهم في استخدام الرموز في رسوماته لتجسيد هوية البلاد.

هل كان الأثر الأكبر في فن اسياخم عائداً لحادثة فقدانه ذراعه؟ هل كانت هذه المرأة التي ظل اسياخم يرسمها طوال حياته هي أمه بالفعل التي يشتاق لحنانها أم هي المرأة الجزائرية على نحو عام؟ ما سر تلك الصداقة القوية بين اسياخم وكاتب ياسين؟ لماذا أطلق الكاتب الجزائري (بنعمّار مدين) على اسياخيم وكاتب ياسين لقب (توأما نجمة) في كتابه عنهما؟ هل يمكن أن تلهم حياة فناننا ذي اليد (المعاقة) بكل ما تحمله هذه الكلمة من فجاجة، وألم أيضاً، أحلام مستغانمي فتتقصد جعل بطل روايتها (ذاكرة الجسد) صورة قريبة إلى حد بعيد عن اسياخم (موهبة الرسم، اليد المعاقة، الحس الوطني)؟ لقد بدأنا مقالنا هذا بأسئلة، ونفضل أن نختمه بأسئلة أخرى، فلنتركه هكذا، غير منته، غير مقفول، مثله مثل قصة أسياخم مع ذراعه، مع أمه، مع فنه، ومع وطنه الجميل الجزائر.

 

سامي عادل البدري

 

في المثقف اليوم