شهادات ومذكرات

وداعا ويليام ستانلي ميروين

766 وليم ستانليالشاعر الأمريكي الحاصل على جائزة بوليتزر مرتين والمدافع عن الحقوق البيئية يغادر العالم عن عمر 91 عاما

ولد ميروين في مدينة نيويورك عام 1927، وترعرع بين تقاطع زاوية الشارع الرابع وشارع نيويورك في يونيون سيتي بولاية نيو جرسي، إلى حدود 1936 حين انتقلت أسرته الى مدينة سكرانتون بولاية بنسلفانيا. كان مهووسا بحب الأشياء التي تذكره بالماضي وبسحرِ الكلمات منذ نعومة أظافره ، وكان والده قسّاً في الكنيسة البروتستانتيّة حيث بدأ ميروين بنظم الترانيم لكنيسة والده وهو في سنّ الخامسة. شجّعته مدَرِّسةُ لغة إسبانية على كتابة الشعر، وحثّتهُ على أن يجرّب ترجمة الشاعر الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا.

بالرغم من أن الحالة المادية لأسرته لم تسمح لها بإرسالِه إلى الجامعة، إلا أنه نالَ منحة دراسيّة من جامعة برينستون، هناك عمل نادلاً في مطعم للنّخبة تابعٍ لأحد نوادي الجامعة، مما ساعده على دفع تكاليف المعيشة. في برينستون، تأثّر بالنّاقد والشّاعر الشهير ر. ب. بلاكمور ومساعده في الجامعة نفسها الشاعر جون بيريمان الذي ظهر أول مرة بالجامعة وهو يلبس قبعة فطيرة الخنزير. بعد الحرب العالمية الثانية، وبالضبط في سنة 1946، سافر الى مستشفى سانت اليزابيث بواشنطن العاصمة كي يزور الشاعر إزرا باوند الذي أوصاه بتعلم اللغات والترجمة التي ستفتح له مجالا أوسع للاطلاع على الثقافات الأخرى وتمنحه اختيارات واسعة. عاد ميروين الى برينستون ليتابع دراسته وتسجل في قسم الّلغات الأوروبية، ويعدّ نفسه لمهنته المستقبلية كمترجمٍ للآداب الفرنسية والإسبانية والإيطاليّة، وبدا بأشعار فدريكو غارسيا لوركا والنصوص الاسبانية القديمة مثل القصيدة الملحمية Poem of Cid.

و بعد التّخرّج من الجامعة، تزوج ميروين زوجته الأولى دروثي جين فيري وانتقل الى أوروبا حيث عمل مترجما ومدرسا خصوصيا لأبناء العائلات الموسرة بالبرتغال وجزيرة مايوركا الاسبانية حيث درس ابن الكاتب البريطاني روبرت غريفس Robert Graves. بعد ذلك بفترة قصيرة ، سيشتري منزلا قديما بمزرعة مهجورة في وادي دوردوني بجنوب فرنسا ، ويصلحه على مدى سنوات عديدة. في مايوركا سيلتقي ديدو ميلروي التي أشرف معها على كتابة مسرحية وتزوجها بعد ذلك وانتقلا للعيش معا في لندن حيث ربط صداقة مع كل من سيلفيا بلاث وتيد هيوز بعد عودته من اقامة فنية بمدينة بوسطن التي كان يشرف منها على تحرير الشعر لمجلة "الوطن". في عام 1968، عاد ميروين الى نيويورك بعد أن انفصل عن زوجته الثانية وفي السبعينات رحل الى هاواي وتزوج من باولا دنوي. على مدار الخمسة والستين عامًا التالية ، انخرط ميروين في واحدة من أكثر التجارب الشعرية تميزا بعد الحرب، حيث ترجم من مجموعات شعرية متنوعة من لغات متعددة مثل الفرنسية ، الألمانية ، الروسية ، الإسبانية ، الكاتالانية ، البرتغالية ، الإيطالية والصينية والرومانية واليونانية والأيرلندية والكيشوان والإسكيمو ولغة أمازيغ الجزائر، على سبيل المثال لا الحصر. نُشرت مجموعة أخرى من هذه الترجمات في ربيع عام 2013 ، جنبًا إلى جنب مع نسخة جديدة من الهايكو كتبها يوسا بوسون.

جاء في مقدمة كتاب بعنوان «قصائد مختارة» للشاعر الاميركي الكبير و.س. ميروين، من منشورات دار الجمل ومن ترجمة الشاعر العراقي الراحل سركون بولص، أن ميروين قطع أشواطاً بعيدة في مسار الشعر أكثر من أي شاعر أميركي أو بريطاني آخر حيث أبان عن صوت شعري مختلف يصبو الى الانسلاخ عن التقليد، بالرغم من أنه حافظ على خصائص الحساسية الشعرية المعاصرة في ديوانه الأول بعنوان «قناع لجانوس» (1952) والذي تميز بغنى في اللغة وتنوع في الشكل مما دفع بالشاعر W. H. Auden الى اختياره كأحسن عمل في مسابقة الشعراء الشباب التي تنظمها جامعة ييل.

قصائد ميروين تسبر أغوار العالم المعقد في قالب فنّي فريد من خلال مواضيع وأساليب لها علاقة بتجربته الشخصية، كما أنها تبحث في علاقة الفرد بالمحيط السياسي والطبيعي. كان مروين واحدًا من أعظم شعراء العالم الذين انشغلوا بالفقدان، وكان يؤرخ للظرف الإنساني ويندد بالتدمير الذي يطال البيئة بسبب التصنيع المفرط، وكان يعبر عن ذلك بإحساس مفرط في الزهد، وهو ما يعكس ممارسته للبوذية. على مدى مراحل عديدة من حياته، انسلخ ميروين من التقاليد القديمة التي فرضها التيار الشكلاني على الشعراء كي يتمكن من بناء فهم جديد وتقاسم رسالة تناسب العصر الذي يعيش فيه، ولذلك كان يتوق الى جعل شكل قصائده امتدادا للمحتوى عن طريق الاشتغال على مجال الكتابة. وبالرغم من أن بعض النقاد يميلون إلى تصنيفه كشاعر سابق لأوانه، إلا أنه صرَّح ذات مرة بقوله: «لم أؤسس أي نظرية جمالية حتى الآن، كما أني لا أعرف إن كنتُ أنتمي إلى أي حركة شعرية». يتميز أسلوبه في الشعر الحر برسم الصورة فوق الصورة دون علامات ترقي، وفي غالب الأحيان، يبرز مروين في شعره كيف أن البشر لا يؤدون دورهم بشكل صحيح في العالم وأنهم يعتقدون بأنهم أكثر أهمية من الكائنات الأخرى في خطة الخلق، وهو موضوع لا يمكن استكشافه بالكامل داخل الحدود الذي وضعها الحداثيون لأن الأشكال التي استخدموها في شعرهم تحد من استكشافاتهم. إلا أنه حتى التغيير في الأسلوب والموضوع لم يرضيه، فواصل البحث عن طرق جديدة لاستحضار معنى أسمى أو مختلف في شعره. فكان التغيير التالي هو الابتعاد عن اللغة المصممة والمتأثرة بالأشكال التقليدية، وبدلاً من ذلك ، بدأ في استخدام "القواعد النحوية" التي تركز على جوهر الأشياء من خلال البساطة المتأصلة في الوصف والانسجام المسموح به من خلال عبارات غير محددة . في هذه الصياغة والتركيب الغير المحددة ، لا تسعى الكلمات لتحل محل جوهر الشيء، بل تسمح للقارئ بدلاً من ذلك ، بالاستغناء عن الأشياء بالطريقة التي تناسبه، مما أجبر القراء على التفحص والتعليق ومسائلة الموضوع بانفسهم (ديفيس ، 42)، ولكي يشجع على تأويل أكثر حرية لشعره ، اختار أخيرًا التخلي عن استخدام علامات الترقيم.

سُئل ميروين ذات مرة عن الدور الذي يلعبه الشاعر في أميركا، فأجاب بقوله: «أعتقد أن للشاعر أملًا ميؤوسًا منه، فهو يريد –بيأسٍ كاملٍ- أن ينقذ العالم. يحاول الشاعر أن يقول كل ما يمكن قوله من أجل الشيء الذي يحبه ما دام الوقت لم يفت بعد. أعتقد أن هذا دور اجتماعي، أليس كذلك؟ إننا نستمر في التعبير عن غضبنا وحبنا ونتمنى –رغم استحالة ذلك- أن يكون له تأثير. لكنني تجاوزت هذا اليأس والرؤية البكماء والحرقة التي كنت أشعر بها بعد صدور ديوان «القمل». لا يمكن لأحد أن يعيش اليأس والحرقة دون أن يحطم تدريجيًّا هذا الشيء الذي أغضبه. العالم ما زال هنا وفيه الكثير من المظاهر الحياتية التي لا تؤذي أحدًا، وهناك حاجة ماسَّة لأن ننتبه للأشياء التي حولنا ما دامت حولنا؛ لأننا إن لم ننتبه لها فسيكون هذا الغضب محض مرارة لا أكثر». (المجلة الإلكترونية "بويتري فاونديشن".

صدرت له أعمال شعرية عدة من أهمها: "القمل" و"قناع جانوس" الذي يرمز إلى إله الأبواب والبدايات عند الرومان -1952، و"الدببة الراقصة" الذي استلهم عنوانه من عمل فلوبير الشهير «مدام بوفاري» – 1954، و"مسرحية شعرية" 1963، "الدريئة المتحركة" -1963، و"ثلاث قصائد" 1968، "حامل السلالم" – 1970، و"العثور على الجُزر" 1982، و"انفتاح اليد" 1983. بالإضافة إلى هذه الأعمال أنجز ميروين ترجمات شعرية لبابلو نيرودا، مندلشتام، أعمال ومسرحيات لوركا، رينيه شار، جوزف برودسكي، بورخيس، مختارات من الشعر الصيني واليابانيو اليوناني والروسي، بالاضافو إلى جلال الدين الرومي، وبول إيلوار.

في مجموعته الشّعرية "القمل" التي صدرت عام 1967، عمّق ميروين اتجاهه التجريبيّ في الشّعر، في تبنّيه المعاييرَ المخالِفة للسّائد والتي عرضها في مقالتِه المثيرة للجدل "في الصّيغة المفتوحة On Open Form." تناولت بعض قصائد هذا الديون حرب فيتنام التي كان مشتعلة آنذاك كما ركزت على عنف وتلاشي الحياة، وبدا الشاعر وكأنه عازم على التخلي عن جنسيته في سبيل انتماء قبلي أكبر من بلده، وعندما نال جائزة بوليتزر للشعر عام 1970 عن مجموعته "حامل السّلالم"، انتهز المناسبةَ ليشهر معارضته لحرب فيتنام. وفي السبعيناتهذا وبالرغم من تقدمه في السن، لم يتخلى ميروين عن مناهضته للحرب والاضطهاد، ففي عام 2003 عاد إلى واشنطن العاصمة مُفَوَّضاً من قبل "شعراء ضد الحرب" للتظاهر ضد الغزوّ الأميركيّ للعراق.

في منتصف سبعينيات القرن العشرين ، انتقل ميروين إلى ماوي بهاواي لدراسة Zen مع روبرت أيتكين ، الذي شجع ميروين على شراء قطعة أرضية فوق الجزيرة حيث بنى منزله وبعد فترة وجيزة التقى بزوجته بولا دوناوي وبدأ الاثنان يزرعان البذور في قطعتهما الأرضية في وادي بيهاهي على الشاطئ الشمالي لمدينة ماوي في هاواي. بعد فترة وجيزة، تحولت من "أرض قاحلة" إلى غابة نخيل مزدهرة تبلغ مساحتها 19 فدانًا، ظل ميروين عضوًا عزيزًومتفانيًا في خدمة المجتمع البيئي، كما أسس الزوجان في وقت لاحق منظمة غير هادفة للربح تسمى ميروين كونسيرفانسي من أجل الحفاظ على منزلهما ومناظره الطبيعية المتنوعة بيولوجيًا التي تضم أكثر من 3000 نخلة ، بالإضافة إلى نباتات نادرة ومهددة بالانقراض. في عام 2015 ، كان مروين، الشاعري والبيئي ، موضوع الفيلم الوثائقي "حتى وإن كان العالم كله يحترق."

شملت أعمالُه النّثرية كتاب "نهاية الأرض"، مجموعة مقالات في الطبيعة والاستكشاف. وفي سنة 1994 أصبح أوّل من تلقّى جائزة تانينغ التي تبلغ قيمتها مائة ألف دولار الممنوحة من أكاديمية الشّعر الأميركيّ. جُمعتْ قصائده التي كتبها في الخمسين عاماً الأخيرة في مجلّد عنون ب"ارتحال: قصائد مختارة 1951-2001"، هذا المجلّد الذي نال جائزة الكتاب الوطنيّ. في 1999 عُيِّن مستشاراً شِعريّاً لدى مكتبة الكونغرس، وسُمّيَ أمير شعراء مهرجان ليالي ستروغا الشّعريّة في ماسيدونيا، ثم نال جائزة الشّعر الدّولية، جائزة الإكليل الذّهبيّ، جائزة لانان للإنجاز على مدى الحياة، وجائزة روث ليلي الشّعريّة. حصل ميروين على جائزة بوليتزر مرة أخرى عام 2009 عن مجموعة قصائده الجديدة "ظلّ النّجم الكلب." تم نشر ديوانه الشعري الأصلي المعنون ب "وقت الحديقة" Garden Time في عام 2016 ، ومجموعتان: الطبعة الخمسون لديوانه " القمل" The Lice وThe Essential W.S Merwin في عام 2017.

مات ميروين في نومه بمنزله في هاواي عن عمر كان 91 سنة ، وتم الإعلان عن نبأ وفاته من قبل ناشره Copper Canyon Press يوم 15 مارس 2019. ما تزال أخته Ruth Moser ، وأبناءه Matthew Carlos Schwartz وJohn Burnham Schwartz من زواج آخر على قيد الحياة.

بعض قصائده من ترجمتي:

مكان

في اليوم الأخير من العالم

أود أن أزرع شجرة

 

من أجل ماذا؟

ليس من أجل الفاكهة

 

الشجرة التي تحمل الثمرة

ليست هي التي زرعت

 

أريد الشجرة التي تقف

في الأرض لأول مرة

 

بينما الشمس

في طريقها إلى الغروب

 

والماء

يلمس جذورها

 

في الأرض المليئة بالأموات

والغيوم تمر

 

فوق أوراقها

واحدة تلو الأخرى

عندما تنتهي الحرب

 

عندما تنتهي الحرب

سنكون فخورين بالتأكيد  سيكون الهواء

في الأخير جيدا للتنفس

ستكون المياه قد تحسنت  سمك السلمون

وصمت السماء سيهاجران بشكل جيد

سيعتقد الموتى بأن الأحياء يستحقون كل هذا العناء

سنعلم من نكون

وسننضم جميعًا مرة أخرى إلى الجيش

 

 شكرًا

شكرًا

نقولها حين يجيءُ الليلُ

حين نتوقف على جسرٍ عالٍ ونرى الأسفل السحيق

حين نهربُ من الغرف الزجاجية

حين نضع في أفواهنا لقمة

نرفع بصرنا إلى السماء ونقولُ شكرًا

نقولها للماءِ

للنوافذ التي نقف خلفها ونحن نحدّق في الطريق الـ”سنمضي إليه”

شكرًا

نقولها حين نعود من المستشفى الذي ألِف وجوهنا

حين نعود من عزاءٍ ونجد بيوتنا مسروقة

حين نسمع عن موت أحدهم

عرفناهم أم لم نعرفهم سنقول دائمًا شكرًا

على امتداد المكالمات الهاتفية

عند عتبات الأبواب أو في الحقائب الخلفية للسيارات أو في المصاعد

نتذكرُ الحرب وأصوات رجال الشرطة وهم واقفون على أبوابنا

قلوبنا وهي تدقّ بقوة على السلالم

لكننا نقولُ شكرًا

في البنك نقولها

وفي أوجه القادة والأثرياء

وكل الذين لن يتغيروا مهما حدث

نكملُ طريقنا ونقول شكرًا

حين تموتُ البهائم من حولنا

ويموتُ معها شيئًا فشيئًا إحساسنا

نظل نقول شكرًا

حين تسقط الغابات بسرعة كما تسقط الدقائق من أعمارنا نقول شكرًا

حين الكلمات تنفد منا كما تنفد خلايا الدماغ

حين تصبح المدن أكبر منا

نقول شكرًا نقولها أسرع من أي وقتٍ مضى

حين لا يسمعنا أحد نقولها

نقول شكرًا ونمضي نلوّح

رغم كل هذا الظلام

***

ربيع أخير

أدخلُ الغرفة العُلْويّة مرّة أخرى بعد سنوات

بعد محيطاتٍ وظلالِ تلالٍ وأصواتِ أكاذيب

بعد خسائر وأقدام على السّلالم

 

بعد بحثٍ وأخطاء ونسيان

أستديرُ هناك متفكّراً لأجدَ

أن لا أحدَ هناك غير الذين أعرفهم

أخيراً أجدكِ

تجلسين في الأبيض

تنتظرين

 

أنتِ التي سمعتُها

بأذنيّ منذ البداية

التي لأجلها

فتحتُ البابَ أكثر من مرّة

ظنّاً منّي بأنّك لستِ بعيدة

 

كلمة

في اللحظةِ الأخيرةِ وقفتْ

تلكَ الكلمة التي ستقولُ الآنَ ما لم تقله من قبل

لن تعيدَ كلمتها بعدَ الآنَ ولنْ يتذكَّرها أحدٌ بعدَ ذلك

كلمة كانتْ كأيّ كلمة في المنزل

يستخدمونها في الحديثِ اليوميّ المعتادِ في الحياة

ليستْ جديدةً طارئةً ليستْ ذاتَ ماضٍ معتبَر

ليستْ للتعليقِ على شيء

لطالما ظنت الكلمةُ أنها

وحدَها منذ البدء تعبّرُ عنْ نفسِها

في كل استعمالٍ وسياق

لتقولَ آخر الأمرِ معناها الخاصّ بها

المعنى الـتي ظلَّت وحدَها تعبّر عنه

رغم أنه يبدو أنَّ أي كلمة ستعبّر عنه الآن

***

إعداد وترجمة الحبيب الواعي

شاعر ومترجم من المغرب

 

في المثقف اليوم