شهادات ومذكرات

محمد حسيني أبو سعده: مُعلم المنهجيات في الفلسفة الإسلامية

محمود محمد عليهناك رواد تنحسر عنهم أضواء الشهرة من أساتذة الفلسفة الإسلامية؛ وبالأخص في مصر بسرعة لافتة للنظر، مع  أنهم أسهموا قدر استطاعتهم في الارتقاء بالبحث والدرس في مجالها، وعملوا قدر طاقتهم علي أن ينقلوا ما عرفوه إلي تلاميذهم، وعلي أن يبدعوا في أكثر من مجال مثل أقرانهم الأكثر شهرة الذين كان عليهم الإسهام في كل مجال من مجالات الفلسفة الإسلامية المختلفة (سواء في علم الكلام أو في التصوف أو الحكماء العرب)، استجابة إلي تحديات الركود الفكري في مجتمعهم ورغبة في الوقت نفسه في الارتقاء بهذا المجتمع من خلال نشر التنوير.

ويعد الأستاذ الدكتور محمد حسيني أبو سعده (أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب – جامعة حلوان بجمهورية مصر العربية)، واحداً من رواد الفلسفة الإسلامية الذين انحسرت عنهم أضواء الشهرة ؛ حيث أنه قلما يذكر اسمه في المؤتمرات والمحافل التي تهتم بالفلسفة الإسلامية في مصر وفي العالم العربي، مع العلم بأن هذا الرجل كان واحداً من الأساتذة الجامعيين الذين يقومون بتدريس الفلسفة الإسلامية من وجهة نظر إسلامية خالصة، بعد أن كانت تُدرس من خلال الدرس الإستشراقي الذي ربط الفلسفة الإسلامية بالتراث اليوناني، وأهم من نادوا بالبحث عن أوجه الأصالة والابتكار في الفلسفة الإسلامية، وهو بالإضافة إلي ذلك نموذج للأستاذ الجامعي كما ينبغي أن يكون سواء في التزامه بأداء واجباته الوظيفية الاكاديمية علي أحسن ما يكون الأداء، أو في ارتباطه بطلابه في علاقة إنسانية رفيعة المستوي في هدي من التقاليد الجامعية التي يحرص عليها كل الحرص، إذ هي دستوره في كل معاملاته مع كل من هو في الوسط الجامعي .

كما كان واحداً من كبار الرواد في دراسة الفلسفة الإسلامية في مصر، والعالم العربي الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في الفلسفة الإسلامية من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارمة إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

يشهد علي ذلك زملاؤه بكلية الآداب فرع سوهاج جامعة أسيوط (سابقاً) التي شهدت مولده الوظيفي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي (قبل أن ينتقل إلي مثل وظيفته بكلية الآداب– جامعة حلوان)، بل ويشهد علي ذلك طلابه الذين أشرف عليهم وأزعم (ولي الشرف في ذلك) أنني واحداً منهم .

نعم لقد كنا نري في الدكتور أبو سعده نعم الرجل المتوحد الشامخ: سراجاً هادياً، عالياً كالمنار، وارفاً كالظل، زاخراً كالنهر، عميقاً كالبحر، رحباً كالأفق، خصيباً كالوادي، مهيأ كالعلم، لا يرجو ولا يخشي، طاقته لا تنضب، كأن وراءها مدداً يرفدها من سر الخلود .

والدكتور أبو سعده من مواليد 1943 بمحافظة القاهرة – المرج – الخصوص، حيث تم تعيينه مدرساً للفلسفة الإسلامية سنة 1988 بكلية الآداب بسوهاج – جامعة أسيوط (سابقاً)، وترقي لدرجة أستاذ مساعد سنة 1992، ونقل إلي مثل وظيفته إلي كلية الآداب بجامعة حلون سنة 1994، ثم حصل علي درجة الأستاذية سنة 1995، وعين رئيساً لقسم الفلسفة سنة 1996، وأخيراً قد وافته المنية في صيف عام 2003 بسبب مرض انتشر في ظهره .

وللدكتور أبو سعدة كتابات كثيرة في الفلسفة الإسلامية، نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: كتاب "الله والعالم بين الاتجاه المشائي والاتجاه الإشراقي عند مفكري الإسلام : دراسة مقارنة، وكتاب الوجود والخلود في فلسفة أبي البركات البغدادي، وكتاب الآثار السينوية في مذهب الغزالي في النفس الإنسانية، وكتاب الإستشراق والفلسفة الإسلامية، وكتاب المنهج النقدي عند الباقلاني، وكتاب الشهرستاني ومنهجه النقدي دراسة مقارنة مع آراء الفلاسفة والمتكلمين،  وكتاب النفس وخلودها عند فخر الدين الرازي ... الخ.

كانت أول بداية علاقتي بالدكتور أبو سعد سنة 1992، حين أشرف علي رسالتي للدكتوراه، والتي كانت بعنوان " المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة "، حيث كان مشرفاً مشاركاً مع أستاذنا الدكتور عاطف العراقي (رحمة الله عليه)، وكان دخوله علي في الإشراف من خلال الدكتور عاطف العراقي الذي أخبرني أنه سيفيدني كثيراً، وبالفعل ذهبت لمقابلته بمكتبة بقسم الفلسفة بكلية الآداب بسوهاج، حيث كان سيادته آنذاك أستاذاً مساعدا ً للفلسفة الإسلامية، وحين قابلت وتحدثت معه أدركت للمرة الأولي أنني أمام شخصية متميزة لأستاذ أكاديمي، تختلف عن شخصيات كثيرين غيره من الأساتذة، شخصية تتوفر علي سمات ومقومات وأبعاد، تنتزع بذاتها الاحترام وتفرضه، وتستأهل التقدير وتثير الإعجاب، وتغرس في النفوس حبا تخامره رهبة، وأملا يواكبه شعور بالتفائل، وانتماءً بصاحبه شعور بالزهو بالإشراف علي يديه .

كثرت لقاءاتي به خلال إشرافه علي رسالتي للدكتوراه، وهنا اكتشفت بعداً آخر في شخصية الدكتور أبو سعده، حيث كنت أشعر في حضرته دون ثالث لنا بالأب الحاني والأستاذ القدير، الناصح والموجه والمرشد، لا يفرض توجهاً معيناً، ولا يستبد برأي، ولا يلزمني بوجهة نظر خاصة، وإنما يحاور ويناقش ويوجه، ويفتح أمامي أفاقاً جديدة، ويعرض آراءه وافكاره ورؤاه، ثم يترك لي حرية الاختيار .

لقد كان له فوق ذلك ومعه، تواضع وحنو يذهبان عني كل رهبة دون افتقاد الاحترام والهيبة ويشجعاني علي طرح المزيد من الاستفسارات والتساؤلات، مما يطيل الحوار معه، ولم ألحظ منه قط ضيقاً أو امتعاضاً أو مللاً، ولا استعلاء وتكبراً، ولا أسمع منه إلا كلمات التشجيع بما يعزز الأمل عندي ويبعثني علي مضاعفة الجهد وبذل أقصي ما في الوسع عن رضي واقتناع .

ومما جذبني في الدكتور أبو سعده حبه العميق للغة العربية، فقد كان عاشقاً لها، غيوراً عليها، حفياً بها – وقد انعكس ذلك كله علي أسلوبه في كتاباته؛ حيث كان أسلوبه جذلاً، فيه رصانة وطراوة، وإغداق وإثمار، وفيه عذوبة تشد الآذان إليه لسهولته، وإن تكن من نوع السهل الممتنع . فعباراته قصيرة، لكنها واضحة الدلالة؛ وتنتظم في حلقات من سلسلة تشبه جواهر منظومة في عقد، تجسد الفكرة، وتقدمها للمتلقي في سياق يصعب أن تحذف منه كلمة، أو تضيف إليه كلمات، وتكاد تشعر أنك مع شاعر مبدع يعزف علي أوتار كلماته لحناً عذباً رائعاً يستلب القلوب، ويأخذ بمجامع العقول، فيشيع فيها امتاعاً  وأنساً مع شئ من الحماسة تضطرم به الأفكار، غير أنك لا تكاد تسمع منها في الأعماق إلا همساً . ومع هذا أسلوب علمي يتضمن صياغات في ثوب أدبي - رفيع - قشيب.

إن الدكتور أبو سعد حين تقرأ له أي كتاب من كتاباته في الفلسفة الإسلامية،  يشعرك بالمتعة، وأقصد بالمتعة متعة الأفكار، وهي تغزو عقلك في زحف هادئ، لكنه معزز بالدليل والبرهان، فيرغمك علي تقبلها باقتناع، ومتعة الروح التي تتسرب إلي كيانك من رقة الأسلوب وعذوبة الكلمات وسلاسة العبارات . كل ذلك يعكس مدي قدرة الأستاذ علي توظيف قدراته اللغوية وثقافته الوسيعة لخدمة أغراضه العلمية التي تجسدها بحوثه ودراساته .

وثمة بعد آخر في شخصية الدكتور أبو سعده العلمية، ويتمثل في منهجيته في البحث، تلك المنهجية التي تكشف عن اقتدار وكفاءة عالية في الالتزام لقواعد المنهج العلمي وضوابطه، لا حظت ذلك بجلاء خلال فترة الإشراف علي في الدكتوراه في طرحه للموضوعات وإثارة المشكلات وطريقة تناولها ومعالجتها . فهو قد علمني كيف أفصل المجمل، وأكشف عن المستور من المعاني التي تخفيها ظواهر النصوص، وأُوضح الغامض من الأفكار، كما علمني بألا أترك شاردة ولا واردة تتصل اتصالاً وثيقاً بالموضوع إلا ويجب علي أن أذكرها أو أشير إليها في بحثي .

كما علمني أيضاً كيف أعُول علي أمهات المصادر والمراجع، ثم أدلي بدلوي في الموضوع، مدعماً آرائي وأفكاري بمنطق البرهان، وكيف أكون حريصاً علي أن أنتقد بعض وجهات النظر من منظور النقد، بحيث لا أقتصر علي بيان السلبيات والعورات، وإنما علي أن أتوسع ليشمل أيضاً تبيان الإيجابيات التي تتضمنها مشيداً بصاحبها، فلا أبخسه حقه في الابتكار والإبداع، التزاماً من جانبي بالموضوعية والتجرد، بحيث أجعل العقل يعمل وطأته منفصلاً عن بقية النوازع الإنسانية.

وثمة بعد آخر علمني إياه الدكتور أبو سعدة وهو كيف يتسني لي أن أحدد موضوع البحث تحديداً دقيقاً، وأن أعمد إلي إبراز أهم عناصره ومحاوره وأبعاده،  ثم أستعرض الآراء  التي قيلت بخصوص كل عنصر، وأن أردها إلي أصولها ومصادرها الأصلية، بحيث أكشف  بهذا عن مدي تأثر اللاحق بالسابق من الفلاسفة والمفكرين والباحثين؛  ثم أتابع الفكرة في تناميها وتطورها منذ نشأتها، حتي تصل إلي منتهي ما وصلت إليه لدي من تناولوها بالدراسة؛ بحيث أكشف عما طرأ علي الفكرة أو النظرية من انتكاسة، أو إضافة، أو تجلية، أو دعم، أو هجوم نقدي، أو تأصيل عقلي وفكري، وأن أضع ذلك كله في منظومة علمية تبث الروح في النظرية، وأن تثير في القارئ ميلاً عقلياً إلي احتضانها أو النفور منها، بمبررات عقلية – منطقية في كلتا الحالتين، بحيث تفرض عليَ أن أتخذ موقفاً ما، دون الاقتصار علي مجرد التلقي أو السرد والحكاية . فأين من هذا كله أساتذة هذه الأيام (وأخص بالذكر الأساتذة غير الشرفاء الذين لا يخافون الله ولا يحترمون أنفسهم) هؤلاء الذين يريدون أن يحلبوا الباحث حلباً ليعطيهم الدرهم والدينار نظير أن يكتبوا له رسالته ويناقشوه (ماجستير أو دكتوراه) نظير مبلغ كبير من المال !!

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة، وهي أنني قد تعلمت علي يد الدكتور أبو سعدة الكثير من قضايا المنهج العلمي، ومنها قوله لي (الذي لا أنساه) بأن علة ضحالة وهشاشة معظم الكتابات الفلسفية في ثقافتنا العربية المعاصرة ترجع في المقام الأول إلي افتقار أصحابها المنهج – أي – ذلك الطريق الواضح والخطوات المنظمة التي يخطوها الكاتب في التصنيف والتأليف والترجمة والتحقيق. وتعلمت منه أيضاً أن مثل هاتيك الكتابات غالباً ما تتسم بالغموض في الأسلوب والركاكة في الصياغة والاضطراب في عرض الأفكار، والتناقض في الاستنتاج، وذلك لأن صاحبها غير مؤهل للكتابة لكونه من أشباه الدارسين وأنصاف الباحثين الذين حرموا من ملكة الابداع والنزعة النقدية . والسمات الذاتية التي تميز أصحاب الأقلام عن دونهم من المقلدين ومنتحلي الأفكار والآراء.

كما لا أنسي قوله لي كثيراً ومراراً بأن الكاتب الذي لا يعي منهجه ولا يستطيع قراؤه التمييز بين أسلوبه وأسلوب غيره من الكتاب يجب أن يتوقف عن الكتابة لأنه من لم ينتقل بعد من طور التتلمذ، فعليه أن ينتظر حتي تكتمل شخصيته وينفرد قلمه وينضج ذهنه.

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الأستاذ الدكتور محمد حسيني أبو سعده بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكر فلسفي وعالم لغوي، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته بطولها وعرضها لخدمة الفلسفة واللغة والثقافة العربية، وأثري حياتنا الفكرية بكل ما قدمه من جهود، وما تركه من آثار تجعله الحاضر بيننا رغم رحيله عنا، الغائب في عنا رغم تواجده وحضوره في عقولنا وقلوبنا. وبين حضوره وغيابه درجات لا تكاد تبين، فهو لم يغب عنا ولن يغيب.

رحم الله الدكتور أبو سعده، الذي صدق فيه قول الشاعر: وليس موت امرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان.. والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه.. إذا يعزوه فقدان في كل يوم .. ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.

 

د. محمود محمد علي

مركز دراسات المستقبل : جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم