شهادات ومذكرات

رحيل كاهن المعوقين عقلياً

مراسيم فريدة: حين دعته رئاسة الوزراء في فرنسا ليتم تقليده وسام جوقة الشرف الوطنية عام ٢٠١٦، لم يذهب وحده بل أصطحب معه أصدقاءه المعوقين عقلياً الذين كرس الجزء الأكبر من حياته لإخراجهم من سجن المصحات العقلية ليعيشون معه في بيته، ولم يكن أصدقاءه هؤلاء لينبهروا بتلك الأجواء الرسمية الصارمة، ولا ليلتزموا بأي بروتوكول، حتى أنهم كثيراً ما قاطعوا كلمة رئيس الوزراء (مانويل ڤالس)، وسرعان ما طالبوا بأخذ الصور معه، ولم يكن نادراً أثناء عملية التصوير تلك أن يتلقى (مانويل ڤالس) دفعة ما ليتنحى قليلاً ويفسح المجال لأحد أصدقاء. نعم، ربما لم يستقبل قصر (الماتينيون Matignon) وفداً بهذه الخصوصية. لكن ذلك هو ثمن دعوة (جان ڤانييه Jean Vanier) ليحل ضيفاً.

898 جوفه

نبي حرية المجانين

كان مانويل ڤالس وقتها يسعى لأن يترشح للإنتخابات الرئاسية، فما كان على (جان ڤانييه) أن يقول يومها في حفل تقليده الوسام: ( يريد بنو آدم على الدوام سلطة أكثر، مالاً أكثر، دائماً أكثر، أكثر، أكثر… هذا هو أكبر فرق بيننا وبين الطيور).

توفي (جان ڤانييه) قبل أيام، ونشرت مختلف الصحف الفرنسية مقالات عنه، وكانت جريدة اللوموند قد إختارت بدء مقالها عنه بحفل تقليده الوسام ذلك الفريد من نوعه وما جرى فيه من طرائف وحسناً فعلت فذلك أفضل ما يبين لنا عقلية هذا الرجل الفريد الذي قد أطلقت عليه الجريدة وصف (نبي حرية المجانين) في عنوان المقالة. 

نجده دوماً يدعو للتواضع حين يجري تكريمه، فقبل سنة من يوم تقليده الوسام، حين كان حينها يتسلم جائزة (تيمپيلتون Templeton) في بريطانية، قال: (هذا العالم سوف يقوم بتغييره أناس جرى إحتقارهم ونبذهم).

تدرب على البحرية العسكرية اثناء فترة الحرب العالمية الثانية وكان يؤخذ عليه (قلة إحترامه لرؤسائه)، وأعتقد أنه لم يتحمل عنجهيتهم. صار ضابطاً على متن حاملة طائرات كندية، لكنه سرعان ما إستقال وكرس نفسه للصلاة ودراسة الدين والتعرف على رجاله خصوصاً الدومينيكيين منهم.

السفينة

لا عجب بعد ذلك أن نعرف أن (ڤانييه) هذا إختار أن يقيم في قرية في شمال فرنسا منذ عشرات السنين حيث أنشأ مؤسسة (سفينة L’Arche) المدافعة عن المعوقين، وحيث يؤوي معه معاقين عقلياً هناك. يرجع إهتمام (ڤانييه) بالمعاقين إلى بدء إلتزامه بالعمل مع الكنيسة، لكن سنين الستينات تحديداً هي التي جعلته يهتم بشكل خاص بالمعاقين عقلياً. فقد دعي يوماً ما للمشاركة في فعالية (إشراف على إرشاد روحي) لمعاقين عقلياً، ومن ذلك اليوم تنامى إهتمامه بهذه الشريحة.

 

 إلا أن حقيقة كونه يعيش في قرية لم يعني أن يغفله الإعلام فقد كان مشهوراً ويشار إليه بين فترة وأخرى، حتى أنهم أطلقوا على كويكب كان يشار إليه سابقاً برقم (٨٦٠٤)، إسم (ڤانييه) منذ عام ٢٠١٠ تكريماً له.

تشمل اليوم مؤسسة (سفينة نوح) ١٤٧ فرعاً، ٣٢ منها فقط في فرنسا أما البقية فتنتشر في كل قارات العالم وتعرف على أنها مؤسسة (طبية-إجتماعية).

والحديث عن تجربة ڤانييه يطول لكن لنذكر أول ليلة قضاها في تجربته في (السفينة)، فقد أعترفت الدولة بمؤسسته وقررت منح تخصيص مالي بسيط لكل معاق يسكن معه في ذلك البيت الذي كان يحتوي على أبسط الأثاث، ولم يكن في البدء مزوداً بالكهرباء، فإستقبل ثلاث معاقين عقلياً كانوا في ثلاثتهم بكماً، وكان الإتفاق أن يبقون معه لمدة شهر، يقررون بعده إن كانوا سيستمرون في العيش معه أم الرجوع إلى حيث كانوا، وفي الليلة الأولى تلك هاج أحد المعاقين ولم يستطع النوم وخرج إلى خارج السكن مزمجراً، ولم يستطع ڤانييه التواصل معه فصار القرار أن يعيدوه إلى مكانه الأول، فبقي معه إثنان شاركوه في حياته اليومية، من مأكل وتسوق، وتفسح واهتمام بالحديقة، وصلاة. فبقوا معه وصاروا عائلة واحدة، ورغم ان ڤانييه كان يتوقع أنه لن يستقبل أكثر من أربعة معاقين معاً، إلا أنه حصل وأن عاش معه أكثر من ضعف ذلك العدد.

ڤانييه والعالم العربي

نجد أن رجال الكنيسة في المشرق هم أول تصدوا لترجمة أعمال (ڤانييه) للعربية، ونقرأ في مقدمة أحد الكتب المترجمة، وهو كتاب (مرافقة الآخر) الذي نقله للعربية الأب حبيب هرمز النوفلي، والذي نشر في بغداد عام ٢٠٠٦ وهو من منشورات (الكنيسة الكلدانية في بريطانيا)، نقرأ في تلك المقدمة أن المترجم كان قد إلتقى بـ(ڤانييه) في العراق قبل سبع سنين. عدا تلك الإشارة لزيارته بغداد لم أجد مصدراً آخر في تفاصيل أكثر. نقرأ في المقدمة كذلك أن هناك كتباً آخرى لـ(ڤانييه) قد ترجمت وهي كتاب (اصبح إنسانا Becoming Human) و(باب الرجاء A door of hope) وكلاهما بمشاركة الأب حبيب هرمز النوفلي.

وهناك كتابان مترجمان له نشرتهما دار الشروق في بيروت وهما (ألتقي يسوع يقول لي « أنا أحبك »)، و(لا تخف)، هذا وتذكر الويكيبيديا باللغة الفرنسية ٣٣ عنوان كتاباً من تأليفه مثل (صمتك يناديني Ton silence m’appelle) عام ١٩٧١، (كل شخص هو قصة مقدسة Toute personne et une histoire sacré) عام ١٩٩٤، (الرب يختار الضعف Dieu choisit la faiblesse) عام ١٩٩٨.

هذا ويتيح موقع الكاتب (أديب مصلح) في الإنترنيت تحميل كتابه (جان فانييه وسفينته)، وهو من كتابة (أديب مصلح) ويتكون من ٦٤٦ صفحة نشرته (منشورات المكتبة البولسية) تحت مجموعة (سلسلة النوابغ). ونجد في نفس الكتاب نبذة عن أغلب كتب ڤانييه المذكورة في الويكيبيديا.

نجد كذلك في الإنترنيت صوراً لڤانييه في عاملنا العربي، فله صورة يرقص مع المعاقين في الأردن، وصور في الفايسبوك من زيارته لسوريا عام ١٩٨٣ في افتتاح فرع جمعية (إيمان ونور Foi et Lumiere) في دمشق. ومن البلدان التي استفادت من تلك التجربة هي مصر، حيث أنشأت هناك مؤسسة تشبه مؤسسة (سفينة)، وذلك في المينا تحديداً، ويطلق عليها (أرش المينا).

ڤانييه والإسلام

نقرأ في كتاب (جان ڤانييه وسفينته) أنه حين أفتتح مركز (السفينة) في (بيت عنيا) في فلسطين، كان يشغل الطابق الأرضي والقبو لمبنى يسكن طوابقه العائليا عائلة مسلمة، وكانت أولى معاقة يستقبلها المركز مسلمة أيضاً، فطلب من أب العائلة الساكنة أعلى المركز أن يترأس إفتتاح المركز ذلك وتأدية الصلاة، ونقرأ من الكتاب: (وكانت لحظات حافلة بالوقار، والتواصل، والتوادّ، عندما تلا الفاتحة بصوت خفيض).

وتخبرنا (نايلة طبارة) نائبة رئيس مؤسسة أديان في لبنان ومؤلفة كتاب (الإسلام من وجهة نظر إمرأة) باللغة الفرنسية مع (ماري مالزاك Marie Malzac)، بأنه قال لها مرة بأن رابعة العدوية قد ألهمته الكثير من الأشياء. وتقول (طبارة) بأن زيارتها لـ(السفينة) جعلتها تفكر في موضوع (الضعف) في الإسلام، وتنتبه إلى أن القرآن الكريم يذكر ضعف الإنسان وحدود قدرته.

وفعلاً ما تقوله (طبارة) صحيح، ألم ينبهنا القرآن الكريم إلى أفضلية الضعيف، على سبيل المثال في حادثة الأعمى إبن أم مكتوم في سبب نزول سورة (عبس)، في طلبه للهداية والمعرفة، من كبراء القوم الذي استغنوا وتكبروا؟

الطب النفسي الإجتماعي

وأخيراً لو أردنا تصنيف نشاط (ڤانييه) في ضوء علم الطب النفسي فإننا سنصنفه تحت خانة (طب النفس الإجتماعي Community Psychiatry)، وهو ذلك التخصص الدقيق المهتم في إيجاد حل لمشكلة عيش المعوقين عقلياً في المجتمع. فمن جهة لا يجب تركهم يتكدسون في المستشفيات كالمساجين، ومن جهة أخرى لا يمكن ترك مسؤولية إندماجهم في المجتمع عليهم وحدهم.

رحل الرجل تاركاً وراءه تجربة يمكن أن يستفيد منها من يريد، رحل ولم تقتصر المقالات المنشورة وكلمات التأبين على جهة معينة، فالصحيفة التابعة للكنيسة (لا كروا « الصليب » La Croix)، كما صحف اليسار أشادت بجهوده، وربما لم تبالغ جريدة الـ(لوموند) حين وصفته بأنه نبي.

 

سامي عادل البدري

..........................

المصادر:

1- رابط فيه بعض المعلومات عن أرش المينا في مصر:

http://coptcatholic.net/مرور-50-عاما-على-تأسيس-الأرش-الدولي-الخا/

٢- مقالة نشرت في جريدة (الصليب La Croix)، الناطقة باللغة الفرنسية والتي تكلمت عن ردة فعل (نايلة طبارة) بعد سماعها بخبر وفاة (ڤانييه):

https://www.la-croix.com/Religion/experience-lArche-amenee-penser-fragilite-islam-2019-05-07-1201020113

٣- مقالة (اللوموند Le monde) بعد وفاة (ڤانييه) الذي أعتمد عليه كثيراً في هذه المقالة:

https://www.lemonde.fr/disparitions/article/2019/05/07/mort-de-jean-vanier-fondateur-de-l-arche-prophete-de-la-liberte-des-fous_5459218_3382.html

٤- تحميل كتاب (جان فانييه وسفينته) من موقع الكاتب (أديب مصلح):

http://www.adibmousleh.com/books/jan%20vanyeh%20wa%20safeenatuh.pdf

٥- رابط تحميل كتاب (مرافقة الآخر) من موقع (بطريركية بابل للكلدان):

http://saint-adday.com/books/2013/encountering84yt62.pdf

٦- الرابط حيث نجد صورة ڤانييه يرقص مع المعاقين في الأردن

https://www.abouna.org/holylands/’إيمان-ونور‘-47-سنة-في-العالم-و27-في-الأردن

 

في المثقف اليوم