شهادات ومذكرات

محمد محمد مدين: رائد الفلسفة التحليلية

محمود محمد علييعد الأستاذ الدكتور "محمد محمد مدين" من أكثر المتخصصين الذين اهتموا بالفلسفة التحليلية المعاصرة في مصر، وناقش قضاياها وأطروحاتها المختلفة، حيث بذل جهداً كبيراً في كتابة الكثير من الدراسات والأبحاث الأكاديمية حولها، له منهجية متميزة في توضيح معالمها وأركانها، فهو واحداً من المفكرين المصريين الذين اغترفوا من جورج إدوارد مور، وارتشف جون ديوي، ونهل ألفريد يونج، وشرب ديفيد هيوم، وارتوي والتر ستيس حتي أصبح رائداً من رواد الفلسفة التحليلية في مصر والعالم العربي، ورائداً للقضايا المتخصصة في التصورات الميتأ أخلاقية، وأحد المفكرين المصرين الذين لهم باع طويل في الكتابة عن نظرية القيمة والكتابة عن الحركة التحليلية في الفكر الفلسفي المعاصر، وقد وصفه " تلميذه الدكتور "سعيد علي عبيد" (في دراسة له عن منطق التصورات الأخلاقية في الدراسات العربية " محمد محمد مدين أنموذجا) بأنه : "إذا كان بالمر Palmer أحد أساتذة جورج سانتيانا في هارفارد يقول عن أستاذه (سانتيانا) أنه يحتفظ بهيوم داخل عظامه، وبصورة أخص يمثل الدكتور مدين الحدسية الأخلاقية وتوجهاتها الميتا أخلاقية في الدراسات العربية" .

كما وصفه أيضا ً "د. السيد علي عبد الفتاح جاب الله" بأنه" أحد أبرز رواد الفكر التحليلي علي الصعيد العربي في الوقت الراهن، فالقارئ لكتاباته ودراساته الأخلاقية لا يجده مجرد عارض موضوعي لفكر الآخرين، بل يجده محللاً وناقداً قوياً من نقاد الفكر الفلسفي المثالي (وذلك في دراسة له عن: مدين" محمد" المنهج التحليلي في الدراسات الأخلاقية).

لقد أكد محمد مدين أن النقد هو روح الفلسفة وقلبها النابض، وهو الباعث الأساسي لتحولاتها المتتابعة منذ نشأتها العقلية والمنهجية الأولى عند الإغريق حتى صورها وأشكالها المختلفة عند المحدثين والمعاصرين، فقرر أنه لا يمكن أن يكون هناك مفكر أصيل بدون موقف نقدي، فالموقف النقدي هو بمثابة نقطة الانطلاق، كما أنّه ليس ثمة معرفة مقبولة إلا بعد بحث وفحص وتمحيص، فالنظرة النقدية تكون الحافز والدافع للباحث لسبر غور موضوعه، ولولا النظرة النقدية للظواهر الكونية ولفكر السابقين لما وجد لدى الباحثين والعلماء والمفكرين موضوعات للبحث والدراسة، ولأصبح الإنسان تابعاً لا مبدعاً، مقلداً لا مجدداً، وبدون هذه النظرة أيضاً تموت روح الابتكار والإبداع.

ولد الدكتور محمد محمد مدين في محافظة الدقهلية (في دلتا مصر) في الثالث من شهر يناير لسنة 1947م، حيث التحق بكلية الآداب – جامعة القاهرة، وحصل علي ليسانس بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف، وعين معيدا بقسم الفلسفة سنة 1969م وسجل درجة الماجستير في موضوع بعنوان فلسفة القيم عند جون ديوي تحت إشراف د. يحي هويدي سمة 1976م بتقدير ممتاز، والدكتوراه في موضوع بعنوان النظرية الأخلاقية عند جورج مور تحت إشراف د. أميرة حلمي مطر سنة 1983 بتقدير مرتبة الشرف الأولي، ثم تدرج في سلك التدريس بجامعة القاهرة حتي حصل علي درجة الأستاذية عام 2003م وأعير للتدريس بجامعة السلطان قابوس بعُمان من 1987- 1991م، ثم استاذا زائراً بجامعة الإمارات العربية المتحدة في سنة 1992، وترأس قسم الفلسفة بآداب القاهرة سنة 2003م، كما تولي الإشراف علي قسم الفلسفة والاجتماع بكلية التربية جامعة الفيوم، وكذلك الإشراف علي قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة الفيوم (فرع جامعة القاهرة سابقاً)، والآن يترأس قسم التفكير العلمي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا.

ومن مؤلفاته : كتاب جورج إدوارد مور: بحث في منطق التصورات الأخلاقية، وكتاب الحدس الخلقي: الإطار النظري والمنهجي، وكتاب الحركة التحليلية في الفكر الفلسفي المعاصر "دراسة في مشكلة المعني، وكتاب الحدس الخلقي "مقال في المنهج الأخلاقي"، وكتاب منطق البحث "دراسة في منطق الفيلسوف الأمريكي جون ديوي "، وكتاب فلسفة هيوم الأخلاقية، وكتاب ألفريد يونج : دراسة في منطق النقد الأخلاقي، وكتاب مقدمة في الفلسفة العامة، وكتاب دراسات في النظرية الأخلاقية الحديثة، وكتاب الاكسيولوجيا في الفكر الفلسفي المعاصر، وكتاب نظرية القيمة عند ديفيد هيوم "بحث في إعادة بناء رسالة في الطبيعة البشرية "، وكتاب التوجهات الميتا أخلاقية للنظرية المعيارية، وكتاب النظرية الطبيعية في الفن، وكتاب التعادلية في القيمة، وكتاب المنهج التحليلي في برنكيبيا مور، وكتاب النظرية الأخلاقية عند برتراندرسل .

كما له عدة دراسات منشورة في المجلات العلمية، ونذكر منها : دراسة بعنوان : نقد الخطاب الوضعي في خرافة الميتافيزيقيا "دراسة في وضعية زكي نجيب محمود "، ودراسة عن " الواقعية في فكر يحيي هويدي "، ودراسة عن "قراءة في فكر محمد مهران التحليلي، دراسة عن الاستخدام السياسي للغة الدينية منشورة ضمن أبحاث في مؤتمرات علمية للجمعية الفلسفية المصرية والعربية، وبحث بعنوان نظرية السببية عند ديفيد هيوم "قراءة لغوية تحليلية " منشورة ضمن الجمعية الفلسفية، ودراسة بعنوان الإرهاب "دراسة مفهومية" ضمن منشورات الجمعية الفلسفية "، ودراستان عن الحركة التحليلية، والمنهج التحليلي ضمن الموسوعة الفلسفية التي أشرف عليها الدكتور معن زيادة.

كما أن له العديد من الترجمات، ومن أبرزها : ترجمته وتقديمه لكتاب مشكلة القيم في فلسفة هارتمان ولويس تأليف، وترجمة كتاب " حل المشكلات اليومية بالمنهج العلمي: كيف نفكر مثل العالم "تأليف ماك دون (وأخرين)، وترجمة كتاب عن " النزعة الإنسانية، وكذلك ترجمته لكتاب " الفلسفة  الفرنسية في القرن العشرين ... وغيرها.

وقد أسهم الدكتور محمد مدين  بعضويته في كثير من المؤسسات العلمية، ومراكز البحث العلمي العالمية، وألقي العديد في بحوث في مؤتمرات وندوات محلية ودولية، منها أبحاث في متخصصة نشرت في دول عربية، كما حاضر عن فلسفة التحليلية والفكر الغربي المعاصر في جامعتي السلطان قابوس بعمان والإمارات العربية المتحدة.

وقد اتسم إنتاج محمد مدين بالغزارة، وعمق الفكر، ووضوح اللغة وبساطتها؛ فمؤلفاته تجعل الفلسفة قريبة إلي أذهان ومشاعر المثقف المصري والعربي،وجمع أسلوبه في الكتابة بين الأسلوب المباشر والعميق في ذات الوقت، وهو ما يمكن تسميته بالسهل الممتنع في الكتابة الفلسفية والعلمية. واتسمت كتاباته الفلسفية بالصياغة الإشكالية للموضوع فمن يقرأ له يعيش في إشكالية الموضوع،وأسئلته المختلفة المركزة واتسم أسلوبه أيضا بالتماسك فهناك ترابط ونسقية محكمة بين أجزاء الموضوع وهو لا يميل إلى المقدمات المطولة التي تصيب القارئ بالملل والضجر (كما قال الدكتور ناصر هاشم في دراسة له عن الفلسفة التحليلية في الدراسات العربية " محمد محمد مدين أنموذجا).

جمع مدين بين الأفق الفلسفي الواسع، والرؤية العلمية المحددة، والبعد الديني وهنا يتضح عدم تعصبه لمذهب بعينه من المذاهب الفلسفية المعاصرة،فلم يكن وضعياً ولا برجماتياً ولا وجودياً،ولا متمذهبا بأي حال من الأحوال فموضوعتيه غلبت عليه فى كل أحكامه،وأراءه وعندما يوجه سهام نقده لأى من هذه المذاهب فهو لا ينكرها أو يريد هدمها أو نقضها، إنما يطالب بإعادة النظر إليها لاشتمالها علي نقائض وعيوب، كما يهتم بصياغة المصطلح صياغة فلسفية، وعلمية دقيقة ويظهر التفرقة الواضحة بين الصياغتين، وهو ما نراه في تفسيره لموقف والتر ستيس من مصطلح المعطيات الحسية – ومصطلح الصورة ومصطلح التصور، ومصطلح العالم؛ فنراه يتفق مع رسل فى أن المعطيات الحسية هي المفردات الأساسية، وأن الموضوعات الفيزيائية هى دالات لمعطيات حسية، وأنها بناءات منطقية من معطيات حسية يمكن أن تنحل إليها، وهو ما يمكن تسميته ميتافيزيقا الذرية المنطقية، وان هذه المعطيات الحسية موضوعية وليست ذاتية، وهى لا تظل بعد أن ينتهى كونها معطيات، فالقول بذاتيتها ناتج عن عدم التمييز بين المعطى الحسى و" الاحساس" الذى هو الواقعة التي تعتمد على وعى الذات بالمعطى الحسى، والاحساس شئ مركب تكون فيه الذات مكونا من مكوناته (كما قال الدكتور ناصر هاشم)  .

هكذا تمتع محمد مدين بالروح الفلسفية التي تتميز بالرغبة العارفة في البحث والسعي نحو المعرفة، والتفلسف عنده إنما يعني ثمة أشياء لا زال علينا أن نراها أو نقولها – وأثبت لنا أن الفيلسوف لا يملك سوى أن يعيد وضع المشكلات لحسابه الخاص مدركاً في الوقت نفسه أنه مهما فعل فإنه لن يكون سوى مجرد مبتدأ دائماً أبداً. رغم اهتمامه الشديد بالفكر والفلسفة الغربية إلا أن روح الإسلام السمح المستنير لا تفارقه أبداً وتطل في كل أفكاره ومواقفه .

كان مدين يري " أن الإلمام بالتحليل يُعد أمراً حيوياً لفهم الموقف الفلسفي اليوم، وذلك علي كل مستويات الفاعلية الإنسانية من منطق، ونظرية معرفة، وأخلاق، ولغة، ... إلخ. ويري أن من الخطأ القول بأن الفلسفة التحليلية مدرسة واحدة وكأنها فكر متجانس. وأن فكرة التحليل تحوي بداخلها عملية النقد وقد أثبت مدين ذلك عندما قال أن فلسفة هيوم في حقيقتها هي محاولة لاكتشاف مدي وقوة الفهم الإنساني . فالتحليل هو صورة من صور النقد وهو بداية النقد.

ولذلك يمكن القول بأن تحليلية مدين هى تحليلية منهجية وهى تحليلية انتقائية، فالتحليل عنده يعد من أنسب المناهج الملائمة للفلسفة والتربية والعلم، كما أن دور التحليل هو دور علاجي أساسي، حيث يوضح وينير العقل بالكشف عن مصادر البلبلة أو الارتباك في  المفاهيم، فالتحليل عند محمد مدين لا يحل المشكلات الفلسفية والعلمية فحسب، بل يزيلها.

تحيةً للدكتور محمد مدين، ذلك الرجل الذي يمثل بالفعل قيمة فلسفية ووطنية وشخصية موسوعية، ما جعل زملاءه وتلاميذه من المفكرين والكتاب والأساتذة الجامعيين يعترفون له بريادته في تنوير العقول ومكافحة الجمود والتعصب.. فأطلقوا عليه فى حفل تكريمه (المفكر الأبرز في القرن العشرين مكملاً لجورج مور).

وتحيةً مني لرجل  لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً . بارك الله لنا فيه قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه السفهاء، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليه ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم