شهادات ومذكرات

سعد عبد العزيز حباتر.. الأستاذ الأكاديمي

محمود محمد عليما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي، بأن هناك رواد تنحسر عنهم أضواء الشهرة من أساتذة الفلسفة الحديثة والمعاصرة بسرعة لافتة للنظر، مع أنهم أسهموا قدر استطاعتهم في الارتقاء بالبحث والدرس في مجالها، وعملوا قدر طاقتهم علي أن ينقلوا ما عرفوه إلي تلاميذهم، وعلي أن يبدعوا في أكثر من مجال مثل أقرانهم الأكثر شهرة الذين كان عليهم الإسهام في كل مجال من مجالات الفلسفة الحديثة والمعاصرة المختلفة (سواء في القرنين: السابع عشر والثامن عشر أو القرنين: التاسع عشر والعشرين)، استجابة إلي تحديات الركود الفكري في مجتمعهم ورغبة في الوقت نفسه في الارتقاء بهذا المجتمع من خلال نشر التنوير.

والأستاذ الدكتور "سعد عبد العزيز محمد الصادق حباتر (أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية البنات – جامعة عين شمس بجمهورية مصر العربية) ؛ قلما يذكر اسمه في المؤتمرات والمحافل التي تهتم بالفلسفة الحديثة والمعاصرة في مصر وفي العالم العربي، مع العلم بأن هذا الرجل كان واحداً من الأساتذة الجامعيين الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في الفلسفة الحديثة والمعاصرة من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارمة إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

كان الدكتور سعد حباتر قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

والدكتور سعد حباتر من مواليد من محافظة قنا - مركز إسنا (بجمهورية مصر العربية)، التحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب – جامعة عين شمس، وقد أعجب به الدكتور عبد الرحمن بدوي، حيث أشرف علي رسالته للماجستير وكانت بعنوان "مشكلة الحرية في الوجودية"، وفي هذه الرسالة سعي سعد حباتر بلغته السهلة الممتنعة أن يعرض لمشكلة ذات طابع انطولوجي مؤثر وهي مشكلة الحرية في الفلسفة الوجودية ولكن بطريقة يفهمها القاصي والداني، وهذا من مأثره الأخرى فلقد تمتع بلغة سهلة وجذابة يظن البعض في الساحة الفكرية المعاصرة أنهم قادرون علي الإتيان بمثلها ولكن هيهات.

كما أشرف عليه الدكتور عبد الرحمن كذلك في الدكتوراه وكان عنوان رسالته "الأخلاق في الفلسفة المعاصرة" إلا أنه لم يكمل إشرافه عليه بسبب تقلده منصب المستشار الثقافي لمصر في سويسرا فأكملت عليه في الإشراف الدكتورة نازلي إسماعيل حسين، وبعد حصوله علي الدكتوراه عُين حباتر مدرساً للفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية البنات بجامعة عين شمس، ثم تدرج في السلك الجامعي حتي حصل علي درجة الأستاذية في نهاية القرن المنصرم.

وخلال ذلك أصدر للمكتبة العربية عدة كتب من أهمها: كتاب الوجودية والإسلام، وكتاب نماذج من الفكر المعاصر، وكتاب الأنا والآخر، وكتاب مشكلة الموت عند جورج مور، والمنطق الرمزي عند ليبنتز، علاوة علي الكثير من الأبحاث التي كتبها في مجال التخصص. كما أشرف علي العديد من الرسائل العلمية، ونذكر منها رسالة الماجستير للباحث محمود حميدة عبد الكريم وعنوانها الأخلاق عند الراغب الاصفهاني، وكذلك رسالته في الدكتوراه عن " المشكلة الأخلاقية في الفكر الإسلامي المعاصر في القرن العشرين"، ورسالة الباحثة ناهد إبراهيم محمد في الحرية عند بولتمان، ورسالة الباحثة مسعودة رمضان علي في الدكتوراه وعنوانها "فلسفة عبد الرحمن بدوي الوجودية"، ورسالة الماجستير الخاصة بمصطفي معوض عبد المعبود بعنوان" مشكلة الإيروس والتحرر عند هربرت ماركيوز"، وباحثين آخرين كُثر حيث يطول بنا الحصر.

وكان سعد حباتر مثله مثل آخرين ممن شاركوه في التلمذة علي العمالقة أمثال الدكتور عبد الرحمن بدوي، والدكتور عبد الهادي أبو ريدة والدكتورة نازلي إسماعيل حسين وغيرهم، وظل طوال عمره محافظاً علي التقاليد الجامعية ملماً بدولاب العمل الجامعي، وفي أواخر العام الماضي وافته المنية علي إثر حادث سيارة.

ولم يكن سعد حباتر ممن يحرصون علي غزارة الإنتاج، بل كان في عمله العلمي يغلب عليه الكيف علي الكم، وكان في ذلك متسقاً مع نفسه تمام الاتساق، فقد كان يبحث دائماً عن النوعية من الحياة، ويعرف كيف يتذوقها ويُرضي بها حسه المرهف. ولكن لعل السبب الأهم في عزوفه عن الإنتاج الغزير، برغم قدرته عليه، هو أنه كان من ذلك النوع النادر من الأساتذة، الذين يلمعون ويمارسون أعظم تأثير لهم من خلال اللقاء المباشر بينهم وبين تلاميذهم، لا من خلال اللقاء غير المباشر عبر الكتب والبحوث.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد فلقد مارس بشكل رائع ما يمكننا تسميته بالمغامرة العقلية فكانت الإشكاليات التي يتناولها في مؤلفاته ورسائله والتي يوافق علي الإشراف عليها من خلال تلامذته حتي أن رسالته للدكتوراه كانت تساؤلا عكس ما هو معروف وسائد عن الفلسفة الوجودية فكانت بعنوان : هل هناك أخلاق وجودية؟ وقد أثبت سعد حباتر من خلال دراسته وجود تلك الأخلاق رغم اقتناع الكثيرين بأن الفلسفة الوجودية فلسفة تقوم علي الحرية وتدعو إليها وليس فيها ذلك الإلزام الأخلاقي المعروف في فلسفات الأخلاق.

ولم يكتف سعد حباتر بالإلمام بمقتضيات البحث العلمي في مجال الدراسات الفلسفية أو ترسيخها في قلوب وعقول تلامذته وكل من يستمعون إليه، بل كان له السبق في استبطان عقول من يشرف علي رسائلهم ؛ بمعني أنه كان مقتنعاً تماماً بأن لكل باحث شخصيته وميوله، فمنهم من يميل إلي المنهج التاريخي المقارن، ومنهم من يميل إلي التحليل والتعمق، في حفر الأفكار، فلم يحرم هؤلاء أو هؤلاء من ميولهم، ولكنه أضاف إليها، فحافظ علي شخصية تلامذته والقواعد العلمية في آنا واحد، مما يندر أن يتوفر عند أساتذة كثيرين.

كما جمع سعد حباتر بين الأفق الفلسفي الواسع، والرؤية العلمية المحددة، والبعد الديني وهنا يتضح عدم تعصبه لمذهب بعينه من المذاهب الفلسفية المعاصرة، فلم يكن وضعياً ولا برجماتياً ولا وجودياً، ولا متمذهبا بأي حال من الأحوال فموضوعتيه غلبت عليه في كل أحكامه، وأراءه وعندما يوجه سهام نقده لأى من هذه المذاهب فهو لا ينكرها أو يريد هدمها أو نقضها، إنما يطالب بإعادة النظر إليها لاشتمالها علي نقائض وعيوب، كما يهتم بصياغة المصطلح صياغة فلسفية، وعلمية دقيقة ويظهر التفرقة الواضحة بين الصياغتين.

أضف إلي ذلك حبه العميق للغة العربية، فقد كان عاشقاً لها، غيوراً عليها، حفياً بها – وقد انعكس ذلك كله علي أسلوبه في كتاباته؛ حيث كان أسلوبه جذلاً، فيه رصانة وطراوة، وإغداق وإثمار، وفيه عذوبة تشد الآذان إليه لسهولته، وإن تكن من نوع السهل الممتنع . فعباراته قصيرة، لكنها واضحة الدلالة؛ وتنتظم في حلقات من سلسلة تشبه جواهر منظومة في عقد، تجسد الفكرة، وتقدمها للمتلقي في سياق يصعب أن تحذف منه كلمة، أو تضيف إليه كلمات، وتكاد تشعر أنك مع شاعر مبدع يعزف علي أوتار كلماته لحناً عذباً رائعاً يستلب القلوب، ويأخذ بمجامع العقول، فيشيع فيها امتاعاً  وأنساً مع شئ من الحماسة تضطرم به الأفكار، غير أنك لا تكاد تسمع منها في الأعماق إلا همساً .

علاوة علي اتقانه الرائع للغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وله ترجمات في ذلك ومنها ترجمة كتاب الأخلاق لجورج مور، حيث كان حباتر يتميز في ترجمته بالبعد الاكاديمي، وهو يمثل واحداً من المترجمين الذين يؤمنون بأن الترجمة عملية لا تقتصر على النقل اللغوي للجُمل والعبارات ومعاني الكلمات فحسب، بل تمتد لتشمل البعد الثقافي أيضًا، فالمترجم هو كاتب، أي أن عمله هو صَوْغ الأفكار في كلماتٍ موجهةٍ إلى قارئ. والفارق بينه وبين الكاتب الأصيل هو أن الأفكار التي يصوغها ليست أفكاره، بل أفكار سواه، لذا على المترجم قبل أن يشرع في ترجمة النص، عليه أن يراعي جيدًا الأبعاد والبيئة الثقافية التي وُلِد فيها هذا النص، والقارئ المتلقي له، ليُخَاطبه ليس بلغته فحسب، بل بثقافته أيضًا التي قد تشبه ثقافة المترجم، وقد تختلف عنها تمام الاختلاف.

إن هذا نزر يسير من مآثر سعد حباتر التي لم يتم لكثيرين من الناس التعرف عليها شأنه شأن صديق عمره الدكتور محمود رجب (أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بجامعة القاهرة) وكأن الأقدار أبت إلا أن يعيشا دون أن ينالا القدر المناسب وربما كان هذا في صالحهما، فقد كان لهما الجزاء الأوفر عند خالقهما والقبول في قلوب محبيهم.

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ الاكاديمي حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، ولعل هذا يتوافق مع كلمته الشهيرة "لحم الضأن تأكله الضباع وتبيت الأسود جوعانة"، فكان كل هذا بمثابة عوامل أسهمت في تكوين صورتنا عنه والتي ستظل طوال العمر صورة الأستاذ الاكاديمي الذي رغم هذه المأثر المتعددة وغيرها لم ينل حقه الطبيعي من التقدير والشهرة وهما اللذان تركا لأنصاف الأساتذة فلم يعرفه الكثيرون من الأجيال الصاعدة، ولكن حظه أوفر عند، وأما من لم يعرفه فتلك لم تكن مشكلته شأنه شأن زميله الدكتور محمود رجب .

تحية طيبة لسعد حباتر الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

رحم الله الدكتور سعد حباتر، الذي صدق فيه قول الشاعر: وليس موت إمرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان.. والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه.. إذا يعزوه فقدان في كل يوم .. ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم