شهادات ومذكرات

صلاح محمود عثمان.. عاشق فلسفة العلم

محمود محمد علي

تنوعت الدراسات في فلسفة العلم للدكتور صلاح عثمان بصورةٍ تعكس اهتمامًا كبيرًا بموضوعاتٍ شتى، معظمها على علاقةٍ مباشرة بموضوعات الساعة، مثل قضية الاتصال واللاتناهي في الرياضيات والفيزياء والفلسفة، والنموذج ومنطق التفكير العلمي، ونظرية التطور الداروينية، والمنطق متعدد القيم، وفلسفة للكيمياء، وسيمانطيقا اللغة الجغرافية، والواقعية اللونية، والمنطق النيوتروسوفي ... الخ.

يُعد «صلاح محمود عثمان محمد» من المفكرين القلائل الذين اهتموا بالبحث والتنقيب في قضايا ومشكلات فلسفة العلم، حيث يأتي في السياق الفكري العربي المعاصر في مكانة مركزية بين السابقين عليه، والمعاصرين له، واللاحقين عليه، ليس في مجال البحث والتأليف والكتابة فحسب، بل في مجال الترجمة أيضًا، حيث توزعت اهتماماته وتنوعت في جوانب شتي من المنطق وفلسفة العلم. والحق أن التجربة الفلسفية التي قدَّمها صلاح عثمان تجربةٌ متنوعة، ثرية، وخصبة، وهي في حاجة إلى كثير من البحث والتحليل لعمقها وتحولاتها بداية من «الاتصال واللاتناهي»، ومرورًا بـ «شجرة الكون وقضايا مناقضة الواقع»، و«النموذج العلمي بين الخيال والواقع»، و«الداروينية والإنسان»، و«سيمانطيقا المؤشرات اللفظية والكلام غير المباشر»، و«المنطق متعدد القيم»، و«العلم والفلسفة والدين كمقولات لنهضة العقل العربي»، و«جدل الثبات والحركة في مفارقات زينون»، و«نحو فلسفة للكيمياء» و«وهم العالم الخارجي بين اللغة والإدراك»، و«طبيعة الحدود المكانية بين الجغرافيا والفلسفة»، و«الواقعية اللونية»، و«الفلسفة العربية من منظور نيوتروسوفي»، و«رؤية منطقية معاصرة تأسيسًا على نظرية القياس الفقهي»، و«جوتلوب فريجه: في المعنى والإشارة»، ووصولاً إلى «فلسفة العلم من الألف إلى الياء».

على المستوى الأكاديمي، يُعد صلاح عثمان أيضًا واحدًا من أبرز أساتذة المنطق وفلسفة العلم في مصر والعالم العربي. وهو يشغل حاليًا، ومنذ أكثر من عشر سنوات، منصب رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة المنوفية، وله إسهامات مؤثرة في نشر الثقافة العلمية وأسس التفكير المنطقي الناقد من خلال دراساته المتنوعة والمكثفة باللغتين العربية والإنجليزية في مجالات المنطق وفلسفة العلم وتاريخ الفكر العربي – الإسلامي. كما شارك في العديد من المؤتمرات والندوات الدولية والمحلية، وناقش وأشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه بالجامعات المصرية والعربية، وهو عضو باللجنة التوجيهية لمركز دراسات الضمير بجامعة دوشيشا اليابانية.

وُلد الأستاذ الدكتور صلاح عثمان بمدينة الإسكندرية يوم الأحد الموافق 20 أكتوبر سنة 1963 م، الموافق الثاني من جمادي الآخرة سنة 1383 هـ، لأسرة تنتمي إلى قرية العمور – مركز المراغة – محافظة سوهاج بجنوب مصر. أنهى مرحلة التعليم الابتدائي سنة 1975 بمدرسة «سانت كاترين» للغات بالإسكندرية، ثم مرحلة التعليم الاعدادي سنة 1978 بمدرسة «الجمعية الخيرية الإسلامية». وفي سنة 1981 أتم دراسته قبل الجامعية بمدرسة «الأنفوشي الثانوية بنين» بالإسكندرية. التحق بعدها بجامعة الإسكندرية، كلية الآداب، قسم الفلسفة، وحصل منها على درجة الليسانس سنة 1985 بتقدير «جيد جدًا»، حيث كان الأول على دفعته، ثم حصل على درجة الماجستير في الآداب من ذات الجامعة سنة 1993 بتقدير «ممتاز» عن أطروحة عنوانها: «العقل والجدل عند هربرت ماركيوز». وفي سنة 1996 حصل على درجة الدكتوراه من كلية الآداب، جامعة المنوفية، بتقدير «مرتبة الشرف الأولى» عن أطروحته المعنونة «مشكلة الاتصال واللاتناهي في الفلسفة والفيزياء والرياضيات»، حيث أشرف علي أطروحته الأستاذ الدكتور محمد محمد قاسم (رحمه الله)، أستاذ فلسفة العلم بكلية الآداب جامعة الإسكندرية.

كان صلاح عثمان قد عُين معيدًا بقسم الفلسفة بكلية الآداب، جامعة المنوفية، في الخامس والعشرين من يونيو سنة 1989، ثم مدرسًا مساعدًا في السادس من نوفمبر سنة 1993، ثم مدرسًا في السابع عشر من نوفمبر سنة 1996، ثم أستاذًا مساعدًا في السادس والعشرين من يناير سنة 2003، ثم أستاذًا في الرابع والعشرين من مارس سنة 2008. وهو يشغل وظيفة رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب – جامعة المنوفية منذ التاسع والعشرين من يونيو سنة 2008 وحتى الآن.

تنوعت مؤلفات صلاح عثمان ما بين كتب وترجمات ودراسات وبحوث تقتحم مجالات نوعية مختلفة في إطار فلسفة العلم، ومنها: «النموذج العلمي بين الخيال والواقع: بحث في منطق التفكير العلمي»، «الداروينية والإنسان: نظرية التطور من العلم إلى العولمة»، «المنطق متعدد القيم بين درجات الصدق وحدود المعرفة»، «وهم العالم الخارجي بين اللغة والإدراك»، «نحو فلسفة للكيمياء»، «طبيعة الحدود المكانية بين الجغرافيا والفلسفة: بحث في سيمانطيقا اللغة الجغرافية»، «الواقعية اللونية: قراءة في ماهية اللون وسبل الوعي به»، «الفلسفة العربية من منظور نيوتروسوفي»، تأليف مشترك مع الفيلسوف وعالم الرياضيات الأمريكي فلورنتن سمارانداكه (باللغتين العربية والإنجليزية)، «قراءة معاصرة لمنطق القياس الفقهي الإسلامي: قياس الغائب على الشاهد» (باللغتين العربية والإنجليزية)، «العلم والفلسفة والدين كمقولات لنهضة العقل العربي (باللغتين العربية والإنجليزية)، «جوتلوب فريجه: في المعنى والإشارة»، «رؤية منطقية معاصرة تأسيسًا على نظرية القياس الفقهي الإسلامي»، «النماذج والاستدلال التمثيلي في العلم»، «العلم والفلسفة والدين كمقولات لنهضة العقل العربي»، «سيمانطيقا المؤشرات اللفظية والكلام غير المباشر»، و«شجرة الكون وقضايا مناقضة الواقع عند ستورس مكال» ... الخ.

يُعد كتاب «الاتصال واللاتناهي» أول منشوراته (1998)، وهذا الكتاب يمثل نسخة منقحة من أطروحته للدكتوراه التي عالج فيها نظرية الاتصال واللاتناهي الرياضية وما تثيره من إشكالات ذات أبعاد فلسفة وفيزيائية، كطبيعة الزمان والمكان والحركة، ومشكلة السببية، فضلاً عن الدور المحوري لهذه النظرية في الأزمات الكبرى للرياضيات عبر تاريخها، تلك التي بدأت – كما يُشير – باكتشاف الفيثاغوريين للأعداد الصماء أو اللامُنطقة، وإخضاعهم الحساب للهندسـة، ثم بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر باكتشاف الهندسات اللاإقليدية من جهة، ونظرية المجموعـات الكانتورية من جهة أخرى. كما يعالج صلاح عثمان في هذا الكتاب أيضًا مشكلة فلسفية أثيرة، هي مشكلة الكليات والجزئيات، وارتباطاتها الميتافيزيقية بمشكلات الظاهر والحقيقة، والإدراك الحسي، والتركيب العقلي للعالم، فضلاً عن الجانب اللغوي المعني بتحليل الحدود العامة والجزئية وفحص دلالاتها الوجودية. وعلى الإجمال يتبني صلاح عثمان في هذا الكتاب عددًا من المواقف الفلسفية، أهمها دفاعه عن مبدأ السببية والطابع الموضوعي المطلق للمتصل الكوني، القائم بذاته خلف نسبية الحركات في الزمان والمكان، والنزعة الواقعية بمعناها الأفلاطوني، تلك التي تُسلم بوجود الكائنات الرياضية المجردة في عالمها الخاص والمفارق، واستقلالها عن العقل الإنساني الذي تقتصر إنجازاته على كشفها، وهو ما يستتبع التعويل على القفزات الحدسية المباشرة – المسبوقة بإمدادات الحواس، والمتبوعة باستدلالات العقل – كوسيلة أساسية للكشف العلمي وغيره من إبداعات العقل البشري.

من بين كتاباته أيضًا مقاله المُعنون «شجرة الكون وقضايا مناقضة الواقع عند ستورس مكال» (1999)، وقد انطلق فيه من التأكيد على أن العلم لم يكن يومًا غريبًا عن الفلسفة، بل لقد أدت العلاقة الجدلية المستمرة بينهما إلى مزيد من المصداقية والقبول لبعض النماذج التفسيرية، سواء منها ما كان في الأصل نموذجًا فلسفيًا، ثم وجد دعمًا علميًا – كنموذج الذرات والفـراغ عند «ديموقريطس» وتبنى النظرية الذرية الحديثة لإطاره العام – أو ما كان منها نموذجًا علميًا تم تداوله فلسفيًا – كنموذج النقاط المادية المتجاذبة عند «نيوتن» وتبنى معظم فلاسفة الحقبة الحديثة له. وفي هذا المقال يهتم صلاح عثمان بمناقشة نموذج شجرة الكون لفيلسوف العلم الكندي المعاصر «ستورس مكال»، وأوجه الاختلاف بينه وبين النماذج التفسيرية المماثلة القائمة على فكرة متصل الزمان – مكان، ويُركز على ما يقترحه النموذج من حلٍ لواحدةٍ من أصعب مشكلات العلم والمنطق والفلسفة، ألا وهي مشكلة تحديد شروط الصدق للقضايا المنطقية الشرطية المناقضة للواقع؛ أعني تلك التي لا تُعبر عن حوادث وقعت بالفعل، بل كان من المفترض أن تقع، وبالتالي يصعب تحديد قيمة صدق (صادقة أو كاذبة) لها. هذا النوع من القضايا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتصور القانون العلمي، وتحفل به المقاربات التاريخية والخطط المستقبلية للأفراد والحكومات، لذا تعددت محاولات معالجته من قبل الفلاسفة، وهو ما تجلى مثلاً في النظرية الاستدلالية للقضايا الشرطية التي اقترحها «نيلسون جودمان»، ونظرية العقول واعتقاداتها للفيلسوف الإنجليزي «فرانك رامزي»، ونظرية العوالم الممكنة للفيلسوفين الأمريكيين المعاصـرين «روبرت ستالنيكر»، و«ديفيد لويس»، وأخيرًا نظرية النموذج الشجري لـ «ستورس مكال». وينتهي المقال إلى نتيجة مؤداها نجاح النموذج في معالجة المشكلة، وإن كان ذلك مرهونًا بالتأكيد على موضوعية قيم الصدق والاحتمال التي تحوزها القضايا الشرطية في مقابل الذات المُدركة، تلك التي تنتقل عبر غُرف انتظار متعددة تقترب رويدًا رويدًا من الحقيقة.

إذا ما انتقلنا إلى كتابه «النموذج العلمي بين الخيال والواقع» (2000)، وجدنا أنه يُركز فيه على دور النماذج الفكرية والمادية في اكتساب وتشكيل كافة أنماط المعارف الإنسانية، بداية من المعرفة العادية التي يسعى بها عامة الناس إلى فهم ما يدور حولهم من أمور الحياة، ومرورًا بالمعارف الفلسفية والدينية والفنية التي تحكم توجهات الإنسان العقلانية والوجدانية، ووصولاً إلى المعرفة العلمية الرامية إلى فهم ظواهر الكون وترويضها وفقًا لقوانين حاكمة. ويطرح صلاح عثمان في بداية الكتاب فرضًا نوعيًا أساسيًا مؤداه أن ما يتلفظ به العلماء من كلمات مثل «الفرض» و«القانون» و«النظرية» ما هي إلا أسماء مترادفة لشيء واحد يصب في خانة «النموذج»، وإذا كان ثمة فرق بين ما نعنيه بهذه الكلمات، فهو في الحقيقة فرقٌ في الدرجة لا في النوع، أو هو فرق بين نموذج أولي في مرحلة الفرض، وبين ذات النموذج في مرحلة القانون أو النظرية، وعلى هذا فمن الأجدر بنا ألا نتحدث عن فرض أو قانون أو نظرية، وإنما عن «نموذج علمي» يمر بمراحل متعددة حتى يتم تأكيده وقبوله، وهو في الوقت ذاته عُرضة لأن يحل محله نموذج آخر إذا اتسعت دائرة البحث لتشمل وقائع أخرى لا يحتويها النموذج أو يعجز عن تفسيرها.

أما كتابه «الداروينية والإنسان: نظرية التطور من العلم إلى العولمة» (2001)، فينطلق فيه من فرضٍ رئيس مؤداه أن ظاهرة العولمة، بما تمثله من نزعات للتفوق والربح والسيطرة وبسط النفوذ من قبل الغرب، لاسيما الغرب الأمريكي، ما هي إلا امتداد لأفكار وممارسات برزت بقوة بعد أن نشر «دراوين» كتابه «أصل الأنواع»، وعُرفت باسم حركة «الداروينية الاجتماعية»، في إشارة إلى نظرية التطور البيولوجي للكائنات الحية كما صاغها «دراوين» استنادًا إلى مبادئ الصراع من أجل البقاء، والانتخاب الطبيعي، والبقاء للأصلح، مطبقةً على تطور المجتمعات الإنسانية بكل جوانبها الثقافية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية. والرسالة التي يحملها الكتاب بصفة عامة هي أن بوسعنا – إن أردنا – أن نُروض العلم، وأن نجعل منه أداة لرُقينا، نُحكم قبضتنا عليها فنمتلكها ولا تمتلكنا، وذلك شريطة أن نروض أنفسنا أولاً، وأن نكبح جماح شيطان النفس الإنسانية، ذلك الممسك بتلابيب أي كشف علمي، فيعمد إلى توجيهه حيث أراد.

أما كتابه «المنطق متعدد القيم بين درجات الصدق وحدود المعرفة» (2002)، فلعله أول كتاب باللغة العربية عن الأنساق المنطقية متعددة القيم، وفيه يُناقش صلاح عثمان مراحل وآليات تطور المنطق الرمزي المعاصر متعدد القيم بأنساقه المختلفة، مركزًا على مشكلة الغموض المعرفي للإنسان بأبعادها اللغوية والإبستمولوجية والأنطولوجية، والتي تتجلى – على سبيل المثال – فيما تحفل به الدراسات الفلسفية والمنطقية والعلمية من مفارقات تمثل تحديًا قويًا لثنائية «الصدق – الكذب» الكلاسيكية، وكذلك في اكتشاف «هيزنبرج» لمبدأ اللايقين، وتأكيده وعلماء الكمّ على ضرورة التفسيرات الإحصائية في المجال دون الذري، الأمر الذي يؤكد عدم فعالية قانون الثالث المرفوع في التعامل مع معطيات الواقع الفعلي، واستحالة مشروع إقامة لغة مثالية أو اصطناعية أو كاملة منطقيًا تتجاوز عيوب ونقائص اللغة العادية التي نفكر ونتعامل بها. وينتهي الكتاب إلى نتيجة مؤداها أن ما واجه المنطق الكلاسيكي – ثنائي القيم – من مشكلات أدت إلى تطويره، لاسيما مشكلة الغموض، لابد وأن يواجه بالمثل المنطق متعدد القيم، ذلك أن الغموض ظاهرة إبستمولوجية في المحل الأول، مردها إلى الذات العارفة وقصور إمكاناتها الإدراكية والقياسية، لا إلى الوجود ذاته. وأننا حتى لو سمحنا لأية قضية منطقية بقيمة صدق ثالثة، أو بأكثر من قيمة تتوسط بين الصدق التام والكذب التام، فسوف تظل القضية – كتمثيل لغوي لإحدى وقائع العالم – صادقة أو كاذبة، سواء أدركنا ذلك أو لم ندركه.

ينفرد صلاح عثمان أيضًا بتأليف أول كتاب باللغة العربية يقتحم مجال البحث الكيميائي من منظور فلسفي، ألا وهو كتاب «نحو فلسفة للكيمياء» (2004)، هادفًا من خلاله إلى إضفاء مزيد من المرونة الفلسفية على رؤية الكيميائيين لعالمهم المرئي، وإلى إفساح الطريق أمامهم لاستكشاف الجوانب اللامرئية لموضوعات بحثهم، فضلاً عن توجيه أنظار المشتغلين بالفلسفة إلى هذا العلم الذي باتت تحيط بنا نتائجه وإنجازاته، وتؤثر علينا مردوداته التقنية في كل لحظة من لحظات حياتنا. ويطرح الكتاب عددًا من التساؤلات الهامة والأصيلة، ويجيب عنها تفصيلاً عبر صفحاته وفصوله، ولعل أهمها: ما الذي يمكن أن تقدمه الفلسفة للكيمياء – أو الكيمياء للفلسفة – بصفة عامة؟ كيف نستكشف الإقليم الفاصل بينهما، ونستشرف من ثم العامل المشترك الذي يجمعهما بغض النظر عن الدور المستقل لكل منهما في تحصيل المعرفة؟ وإذا كانت الكيمياء علمًا تجريبيًا بالدرجة الأولى، فماذا إذن عن اللغة الرمزية لهذا العلم؟ هل لهذه اللغة أسس تجريبية واضحة، أم أن لها بالأحرى مستويات سيمانطيقية وقواعد تراكيبية تستلزم معالجة لغوية ومنطقية لا يمكن إنجازها إلا بتدخل الفلسفة؟ ثم ماذا عن الجانب الأنطولوجي للعناصر والجزيئات والمركبات وغيرها مما تشتغل به الكيمياء؟ هل يمكننا القول أن لها وجودًا واقعيًا يضارع وجود الأشياء الجاسئة من حولنا – بالمعني الساذج للواقعية – أم أنها لا تعدو أن تكون مجرد ألفاظ أو كيانات صورية تؤدي دورًا إبستمولوجيًا لا غنى عنه للمعرفة الكيميائية؟ كذلك هل للكيمياء سمات خاصة تميزها كعلم مستقل قائم بذاته، أم أنها بتشعباتها لا تخرج عن كونها نسقًا فرعيًا للفيزياء يرتد إليها بشكل مباشر؟ وبعبارة أخري، هل ثمة مناهج وقوانين ونظريات خاصة بالكيمياء، أم أنها مجرد تجميع لوقائع نسترشد في التعامل معها بالنموذج الفيزيائي؟ وكيف نُعيّن إذن حدود العلاقة بين الكيمياء والعلوم الأخرى؟ أخيرًا، ما هي الأوجه التطورية للكيمياء المعاصرة، وهل يمكننا النظر إلى الكيمياء كإنجاز تاريخي ثقافي خاص، له أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية المميزة؟ وما هي الحدود الأخلاقية للمشروع الكيميائي، وإلى أي مدي يرتبط البحث الكيميائي بالبعد الجمالي لموضوعاته؛ هل ثمة تجربة فنية جمالية تكتنف عالم الكيمياء حين يرسم معادلاته الرمزية، أو حين يبني نماذجه الجزيئية، أو حتى حين يرقب نتائج تفاعلاته في المعمل؟

وفي كتابه «الفلسفة العربية من منظور نيوتروسوفي» (2007) أكد صلاح عثمان أننا نعيش في عالم يكتنفه الغموض من كل جانب؛ عالم تتسم معرفتنا لأحداثه ووقائعه بالتناقض واللاتحديد، وتُفصح قضايانا اللغوية الواصفة له عن الصدق تارة وعن الكذب تارة أخرى، ومن ثم فنحن في حاجة إلى فلسفة جديدة تعكس حقيقة رؤيتنا النسبية لهذا العالم وقصور معرفتنا به؛ ونحن في حاجة إلى نسقٍ منطقي يُلائم معطياته غير المكتملة ويُشبع معالجاتنا لها، سواء على مستوى ممارسات الحياة اليومية أو على مستوى الممارسة العلمية بمختلف أشكالها. والفلسفة التي يقترحها هذا الكتاب هي «النيوتروسوفيا»؛ تلك النظرية التي قدمها الفيلسوف والرياضي الأمريكي «فلورنتن سمارانداكه» العام 1995 كتعميم للنزعة الجدلية، والتي تكشف بأسلوب جديد عن تناقضات الفكر وحركته الدائبة والمتصلة بين الصدق والكذب، وتُعيد لملكة السلب هيبتها المفقودة لدى العقل القانع بوهم الثبات المطلق. ومن هذه النظرية ينبثق المنطق النيوتروسوفي كتعميم لأنساق المنطق المعاصر متعدد القيم، لاسيما المنطق الحدسي الغائم. ورغم حداثة النظرية والنسق، وتعدد مجالات تطبيقهما في الفكر الغربي المعاصر، وبصفة خاصة مجالات العلم التقني، إلا أن ثمة استخدامات أخرى لهما لدى مفكري العرب والإسلام إبان مرحلة ازدهار الحضارة الإسلامية، وهو ما يكشف عنه الكتاب من خلال دراسة منطقية مقارنة، تميط اللثام عن أصالة وخصوبة الفكر العربي، فضلاً عن تحرره وتسامحه وجمعه بين الرأي والرأي الآخر، في وقت يوسم فيه من قبل الغرب بالانغلاقية، والتشدد، والتحجر، ورفض الآخر، وخصومة الحوار الجدلي. جاء الكتاب كثمرة للتعاون البحثي المشترك بين الدكتور صلاح عثمان والدكتور فلورنتن سمارانداكه، وقد نُشر باللغتين الإنجليزية والعربية بالولايات المتحدة الأمريكية ومصر.

أما في مقاله «رؤية منطقية معاصرة تأسيسًا على نظرية القياس الفقهي» (2015) فقد كشف صلاح عثمان عن أوجه التشابه والتلاقي بين منطق القياس الفقهي الإسلامي والمنطق المعاصر متعدد القيم، وكيف تجلت سمات هذا الأخير لدى فقهاء الإسلام في عصرهم الذهبي، سواء من حيث تعددية التفسير، أو سماحة التعايش السلمي بين الأفكار، أو ضرورة الحوار الجدلي بين الرأي والرأي الآخر، دون تعصب مذموم، أو تشدد يعكس جهلاً مطبقًا بحقيقة الدين ومرونة تعاليمه. يستعرض البحث أيضًا واقع الفكر المنطقي العربي المعاصر، وما يشوبه من تقليد أو جمود يستدعي بعث الطاقة الخلاقة للمنطق الفقهي في ضوء تجاوز المنطق المعاصر للمنطق الكلاسيكي ثنائي القيم، وتعقد مشكلات العالم المعاصر.

من جهة أخرى يشير صلاح عثمان في مقدمة ترجمته لمقال «جوتلوب فريجه»: «في المعنى والإشارة» (2016) إلى أن «فريجه» – على حد تعبير «دامت» – كان من أوائل من أدركوا أن نظرية المعنى، أو فلسفة اللغة، هي جزءٌ أساسي من الفلسفة ترتكز عليه كافة الأجزاء الاخرى؛ فإلى جانب دراساته التأسيسية الرائدة في الرياضيات والمنطق، كان يُؤسس ايضًا لفلسفة اللغة ببعض المقالات التي فاقت في تأثيرها وشهرتها تأثير وشهرة معظم أعماله الرياضية الأخرى، دون إقلال من شان هذه الأخيرة وريادتها. وتأتي دراسة صلاح عثمان بمثابة قراءة تحليلية – نقدية لمقال «فريجه» الأكثر أهمية في هذا الصدد «في المعنى والإشارة»، مشفوعة بترجمة إلى العربية للجزء الأكبر والاهم منه

أما في كتابه «الواقعية اللونية: قراءة في ماهية اللون وسُبل الوعي به» (2006) فقد بدأ صلاح عثمان بالتأكيد على أن للمشكلة الفلسفية – على حد تعبير «برتراند رسل» – تمثل طبيعة خاصة تتفرد بها؛ فهي تبدأ بشيء بسيط للغاية بحيث لا يستحق الذكر، وتنتهي بشيء غريب للغاية بحيث لا يصدقه أحد! ولا تخرج الألوان وفقًا لكتاب الواقعية اللونية عن هذا الوصف حين تخضع للبحث الفلسفي؛ فنحن نعرف جميعًا كيف نميز الألوان، وكيف نتفاعل معها شعوريًا، وكيف نوظفها في المواقف الحياتية المختلفة؛ لكن ما أن يُطرح السؤال عن ماهية اللون، أو بنيته الأنطولوجية، أو شروط إدراكه، حتى نجد أنفسنا أمام موضوع يُغلفهُ الغموض الكثيف، موضوع كان وما زال يثير شغفـًا معرفيًا لدى العالم والفيلسوف على حدٍ سواء. إن اللون بالنسبة للفيزيائي هو ذلك الطول الموجي القابل للتحديد، وبالنسبة للفسيولوجي هو قيم الإثارة لخلايا الإحساس بشبكية العين، وبالنسبة للرسام هو ذلك الجوهر المتألق على لوحة الرسم، وبالنسبة للإنسان العادي هو ذلك الرداء الذي ترتديه المادة، والذي تمتنع رؤيتها بدونه. أما بالنسبة للفيلسوف فثمة نظريات عدة ذات مبررات ومنطلقات مختلفة؛ تنتقل بنا من كونه خاصية موضوعية وجوهرية للأجسام، إلى كونه خاصية استعدادية لدى المادة أو الكائن الحي، إلى كونه خاصية علاقية تربط البيئة بمن يقطنها، إلى كونه خاصية افتراضية أو مجرد وهم...، فهل ثمة نظرة توفيقية بين هذه الرؤى والنظريات المختلفة؟ ذلك ما يسعى إليه صلاح عثمان عبر رحلة مثيرة في عالم البحث اللوني، تؤكد أنه ما زال بإمكاننا تذوق متعة أخرى من متع هذا العالم الغامض والمراوغ.

قد لا أجد متسعًا لعرض باقي مؤلفات صلاح عثمان الرائعة، لذا لا أملك إلا أن أقول: تحيةً للدكتور صلاح عثمان، ذلك الرجل الذي يمثل بالفعل قيمة فلسفية ووطنية وشخصية موسوعية، ما جعل زملاؤه وتلاميذه من المفكرين والكتاب والأساتذة الجامعيين يعترفون له بريادته في تنوير العقول ومكافحة الجمود والتعصب.

تحيةً مني لرجل لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أمينًا لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف يبقى نموذجًا لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفردًا. بارك الله لنا فيه قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه السفهاء، وأمد الله لنا في عمره قلمًا يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطننا بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غدٍ أفضل، وأبقاه الله لنا إنسانًا نلقي عليه ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عما عجزت عقولنا عن فهمه.

 

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم