شهادات ومذكرات

محمود فهمي زيدان: رائد ميثودولوجيا الفلسفة

محمود محمد علييعد الدكتور محمود فهمي زيدان (1927-1995م) واحدا من جيل رواد الفكر الفلسفي المصري المعاصر، ولا شك أن الدارسين يعرفونه جيدا كأحد هؤلاء الرواد الذين يحرصون في كل ما يكتبون علي الإضافة والتجديد والابداع، ولذلك فكل ما يصدره من مؤلفات تلقي اهتمام القراء، كما يعد من ألمع أساتذة الفلسفة المصريين والعرب ؛ فقد كان من أكثرهم قدرة علي توصيل فكرته الفلسفية بأسلوب واضح وأقوي بيان، كما كان من أغزرهم إنتاجاً، وتميز إنتاجه الفكري رغم غزارته بالأصالة والابتكار، فقد كان له نشر الوعي بالفلسفة وبأهم قضاياها ومناهجها، وبما كتبه في تاريخ الفلسفة؛ وخاصة الفلسفة المعاصرة عامة والمنطق وفلسفة العلوم علي وجه الخصوص. ورغم كثرة ما كتبه في ميادين الفلسفة المختلفة فإنه قد كتب واحداً من أهم مؤلفاته بعنوان "مناهج البحث الفلسفي "حيث جاء هذا الكتاب تتويجاً لخبرة فلسفية طويلة، جاء ليكشف عن التطور الفكري الجديد الذي ظل يعيشه صاحبه في أواخر حياته.

ومحمود فهمي زيدان هو واحداً من كبار أساتذة الفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب – جامعة الإسكندرية الذين أسهموا قدر استطاعتهم في الارتقاء بالبحث والدرس في مجالها، وعملوا قدر طاقتهم علي أن ينقلوا ما عرفوه إلي تلاميذهم، فهو واحدا من كبار مفكرينا الذين كانوا في القرن الماضي يشرفوننا في المؤتمرات والمحافل التي تهتم بالفلسفة الحديثة والمعاصرة في مصر وفي العالم العربي وأوربا، كما كان كذلك واحداً من أساتذتنا الكبار الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في الفلسفة الحديثة والمعاصرة من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارماً إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

كان الدكتور محمود زيدان قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

وقد شهد له تلاميذه في مصر بالكفاءة والقدرة غير المحدودة علي اكسابهم مهارة التفكير الفلسفي وجعل الأفكار الفلسفية حية في نفوسهم وعقولهم وكان شديد التأثير في تلاميذه لما تميز به من حب لا محدود لتلاميذه لدرجة أن كان يهدي إليهم مؤلفاته المطبوعة من شدة اعتزازه بهم .

شارك محمود فهمي زيدان في عضوية العديد من الهيئات العلمية في مصر والعالم العربي كما كان دائم الكتابة والمشاركة بالمقالات في مختلف القضايا الفكرية في المجلات المصرية وخاصة "تراث الإنسانية" و" الفكر المعاصر".

وقد حصل محمود زيدان على ليسانس الآداب قسم الفلسفة جامعة القاهرة عام 1951، والماجستير في الآداب قسم الفلسفة جامعة القاهرة عام 1956، ثم حصل علي دبلوم عام في التربية جامعة عين شمس عام 1956 ـ ثم ماجستير في الفلسفة جامعة دبلنM Litt   من إيرلندا عام 1960 . وسافر إلى المملكة المتحدة وحصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن عام . 1964

قدم محمود زيدان عدداً من المؤلفات مثل: الاستقراء والمنهج العلمي، كانط وفلسفته النظرية، المنطق الرمزي نشأته وتطوره، مناهج البحث الفلسفي، في النفس والجسد، من نظريات العلماء إلى مواقف الفلاسفة، فلسفة اللغة. ومن ترجماته: المسائل الرئيسية في الفلسفة، لأ لفريد إير...الخ.

في واحدة من أهم كتاباته الفلسفية في مجال الإبستمولوجيا ومناهج البحث العلمي كتابا حول "مناهج البحث الفلسفي"، أراد محمود زيدان في هذا الكتاب أن يعطينا خطاباً تجديدياً في منهج البحث الفلسفي، حيث حاول أن يحرر تاريخ الفلسفة من قيود القراءات التقليدية والأيديولوجية وإعادة تفسيره وتأويله من منظور واقع الحداثة ونقله إلى فضاء معرفي جديد. وهذا الكتاب نشر لأول مرة بالهيئة المصرية العامة للكتاب – فرع الإسكندرية عام 1977 وعدد صفحاته 140 صفحة ثم بسبب الإقبال الشديد عليه نشر عدة طبعات كان آخر الطبعة التي قدم لها الدكتور محمد فتحي عبد الله في 2015.

لقد تناول " منهج البحث الفلسفي " المنهج بوصفه يمثل الخطة المتبعة للوصول إلى نتيجة معينة لدي الفيلسوف، أو هو الترتيب الذي يتقيد به الفيلسوف في نظريته للوصول إلى نتيجة . وهو الطريق المؤدي إلى بلوغ الحقيقة الفلسفية، باعتبارها تمثل مجموعة العمليات الفكرية التي يحاول من خلالها الفيلسوف إدراك الحقيقة، مع إمكانية بيانها والتأكد من صحتها. وللمنهج الفلسفي في نظر زيدان يمثل مستوى نظري هدفه الوصول إلى الحقيقة، ومستوى عملي يتحدد باعتباره مجموعة الطرق التي يمكن للفيلسوف الوصول بواسطتها إلى نتيجة فلسفية معينة.

وإذا كانت العلوم التجريبية تقوم على منهج يتكون من الملاحظة والفرضية والتجربة، وهو منهج ينسجم مع موضوع الدراسة الذي يتألف من عناصر مادية، وبما أن مواضيع الفلسفة هي في الأغلب ليست مادية، فإنه كان الضروري ظهور منهج ينسجم مع موضوع الدراسة فيها، وعندما حاول الفلاسفة وضع هذا المنهج تبين لهم أنهم أمام مناهج وليس منهجا واحدا. ومن هذه المناهج : المنهج الفرضي، والمنهج الحدسي، ومنهج الشك، والمنهج الظواهري، والمنهج التحليلي.

وكان الدكتور زيدان قد قسم كتابه إلي ثمانية فصول ؛ حيث يحتوي الفصل الأول طبيعة النظرية الفلسفية، والفصل الثاني المنهج الفرضي، الفصل الثالث المنهج التمثيلي، والفصل الرابع  منهج الشك واليقين، والمنهج الخامس منهج الظواهر، والمنهج السادس منهج التحليل وجورج مور، والفصل السابع منهج التحليل ورسل، والفصل الثامن المنهج والمذهب في الفلسفة.

وفي الفصل الثاني والخاص بالمنهج الفرضي عند أفلاطون توصل زيدان إلي أن المنهج الفرضي يمثل أقدم المناهج الفلسفية، وهذا المنهج له صور عده ذكرها زيدان منها الحوار السقراطي وبرهان الخلف، وكان أفلاطون أول من استخدمه في صوره التي ذكرناها ؛ حيث اختار زيدان محاورة بارمنيدس مثالا لتطبيق هذا المنهج .

وإذا انتقلنا للفصل الثالث والخاص بالمنهج التمثيلي عند أرسطو، فنجد محمود زيدان يؤكد لنا أن أرسطو يعد أول من استخدم المنهج التمثيلي لعرض نظرية الغائية في الكون، ثم قدم لنا زيدان موجز نظرية أرسطو في غائية الكون لأنه وصل إليها كما يقول زيدان باستخدام المنهج التمثيلي، ثم وضح لنا أن هذه النظرية تتخلص من نقد الناقدين لذلك المنهج، ثم اكتشف زيدان بأن نظرية الغائية باب يمكن الدخول من خلاله إلي مذهب أرسطو كله، كما يمكن الدخول إلي هذا المذهب من أبواب أخري.

أما إذا انتقلنا للفصل الرابع والمتعلق بمنهج الشك واليقين، فيؤكد زيدان أن ديكارت كان أول فيلسوف يعلن في صراحة ضرورة البحث عن منهج فلسفي، وقد خصص لمنهجه الجديد كتابين : قواعد توجيه الذهن والمقال عن المنهج، وقد لاحظ زيدان أن هذين الكتابين يحويان إلي جانب المنهج إشارات واضحة إلي نظريات فلسفية جديدة سوف يفصلها ديكارت في كتب الية، كنظرية الكوجيتو، ولا مادية النفس الإنسانية، وتميزها من البدن، والأفكار الفطرية، والرياضيات الكلية، مما يوحي بالقول إن تلك النظريات نشأت مع المنهج الجديد، أو حتي قبل المنهج . ولذلك يقول زيدان أن المنهج جاء ليناسب نوعا معينا من النظريات كانت قد تكونت من قبل .

أما الفصل الخامس فيدور حول منهج الظواهر وفيه يؤكد زيدان أن أول من تميز به إدموند هوسرل أحد الفلاسفة الألمان المعاصرين الذين أحسوا الحاجة إلي إقامة الفلسفة علما، له موضوعاته، ومنهجه المحدد، ووصوله إلي قضايا صاغها مفكر لتصحيح السابقين عليه أو تطويرهم، وتلك مقومات العلم. وقد بذل هوسرل جهده في سد هذه الحاجة، فأقام ما سماه " فلسفة الظواهر" أو علم الظواهر .ولعله أحس أهمية قلق ديكارت وكنط في سبيل إقامة الفلسفة علما محتاج غلي تطور. لم يكتب هوسرل كما أخبرنا زيدان كتابا خاصا في المنهج مثلما فعل ديكارت، لكن يعتبر مقال " الفلسفة كعلم محكم" أصدق تعبير عن صرخته . ثم يؤكد زيدان بأن هوسرل لم يبدأ حياته الفكرية باحثاً في المنهج الفلسفي أو إقامة مذهب فلسفي، وإنما بدأها باحثاً في فلسفة الرياضيات، ما دونه في كتابه فلسفة الحساب، حيث قدم تحليلا للتصورات والقوانين الأساسية لعلم الحساب. ويقول زيدان أنه دخل إلي الفلسفة ومشكلاتها الأخرى عبر أصول الرياضيات تحت تأثير أستاذه فرانتس برنتانو فاتجه إلي البحث في المشكلات الفلسفية ما دونه أولا في كتابة البحاث المنطقية في جزئيين ثم انطلق إلي تعميق منهجه ومذهبه في كتبه التالية الكثيرة العدد.

وأما عن الفصلين السادس والسابع معاً فيدورا حول المنهج التحليلي، والذي يفيد إرجاع الكل إلى أجزائه، أو الانتباه إلى التصور ثم تحليله إلى تصورات أخرى تؤلفه، ثم إحصاء كل المعاني التي يدل عليها اللفظ ومحاولة التقاط الخاصية المشتركة بينها، فإن هذا المنهج قد بدأ في انجلترا مع جورج مور، ثم سار في طريقه فيما بعد برتراند راسل والفريد نورث هوايتهد، وكان هؤلاء يريدون الرجوع إلى العناصر الأولية البسيطة والوحدات الجزئية التي يقوم عليها الفكر والوجود، ثم العمل على توضيح حقيقة تلك العناصر والجزئيات والعلاقات التي تربطها بعضها ببعض. وبدأ تطبيق المنهج التحليلي على الرياضيات ليكشف الوحدات الأساسية التي ترتد إليها، وليوضح أنواع العلاقات التي تربطها فيما بينها. وفي الحقيقة فإن تحليل الرياضيات إلى عناصرها عملية شرع فيه قبل ذلك بيانو الذي رد العلوم الرياضية كلها إلى علم الحساب، ثم قام بعد ذلك بتحليل علم الحساب ورده إلى ثلاثة مبادئ أولية بسيطة وأطلق عليها اللامعرفات وهي الصفر والعدد والفئة، وظن بيانو أن تلك هي أخر المبادئ التي يمكن تحليل الحساب إليها. لكن جاء راسل واستخدم منهج التحليل على العدد ووجد أنه بدوره يرتد إلى فكرة الفئة التي هي من مباحث المنطق، وهكذا وجد أن المبادئ الأولية للرياضيات ترتد إلى المنطق واستمر هذا الاتجاه التحليلي مع الوضعية المنطقية التي ظهرت عند موريس شليك في فينا، ثم حمل لوائها بعد ذلك آير  وكارناب . وبهذا يمكن القول أن  الفلسفة التحليلية هي نتاج مشترك لتزاوج مذهب جورج مور وأفكار الوضعيين الجدد .

وأما فيما يتعلق بالفصل الثامن والأخير والخاص بالمنهج والمذهب في الفلسفة، فيحاول زيدان أن يجيب عن الأسئلة التي طرحها في مقدمة الكتاب، وهي : هل هناك منهج محدد للبحث الفلسفي يلتزم به الفيلسوف حين يقيم إحدي نظرياته ؟ وطالب الفلسفة لا يعرف في وضوح هذا المنهج كما أن ليس بين الفلاسفة أجمع علي منهج واحد يلتزمون به. فهل هذا الغموض في أذهان طلاب الفلسفة عن جهل فيهم ؟ أم أن الفكر الفلسفي يقتضيه؟ وهل هذا التباين بين الفلاسفة في مناهجهم مرض يتطلب علاجاً؟ أم أنه طبيعة الفكر الفلسفي ؟ وهل يمكن للفلسفة أن تكون علماً، أي هل للفلسفة موضوعات محددو ومنهج محدد ونتائج مثمرة يتناولها فيلسوف عن سابقه يصححها أو يعدلها أو يطورها؟

ويجيبنا زيدان فيقول : "وصلنا في الفصل الأول إلي أن الفلاسفة ليسوا مختلفين علي النحو الذي تلوكه ألسنة أعدائهم، لأن بين الفلاسفة اتفاقا كبيرا علي موضوعات بحثهم، وأن مذاهب الفلاسفة المختلفة تنطق باتصال الفيلسوف عن سابقيه إفادة وتطويرا . ورأينا أن اختلاف الفلاسفة مرتبط بمعيار الحكم علي نظرياتهم، ووصلنا في الفصل الأول أن لا صدق أو كذب في النظرية الفلسفية، وإنما يجب أن نتحدث فقط عن قبول نظرية ما والاقتناع بها، وعدم قبول أخري وعدم الاقتناع بها، وحددنا مقومات الاقتناع بالبساطة والشمول، لكن يظل الاقتناع معيارا ذاتيا؛ ونريد استكمال البحث في اختلاف الفلاسفة، وفي معيار الاقتناع بنظرياتهم. وينتهي زيدان من حديثه إلي أنه " ليس للفلسفة منهج واحد، وإنما هدة مناهج ".

وفي نهاية حديثي لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة لمحمود فهمي زيدان الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري مني لهذ الرجلٍ العظيم الذي لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

رحم الله أستاذنا الدكتور محمود زيدان، الذي لم يختلف عليه أحد والذي بالفعل صدق فيه قول الشاعر: وليس موت إمرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان.. والموت حق، ولكن ليس كل فتى يبكي عليه.. إذا يعزوه فقدان في كل يوم .. ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم