شهادات ومذكرات

في ذكرى جلال الماشطة (1-4)

ميثم الجنابيهو المَوتُ، فاخْتَرْ ما عَلا لكَ ذِكْرُهُ  

فلم يَمُتِ الإنسانُ ما حَيِيَ الذِّكْرُ

لجلال الماشطة وقع في ذاكرتي خاص. فقد كان هو من بين اثنين ممن كنت اسمح لنفسي بزيارتهما. نجلس ونتحاور، أو بصورة أدق هو كان يسألني وأنا اجيب. وقد كانت الأحاديث متنوعة ومختلفة تتعلق بالتاريخ والفكر والفلسفة والتصوف والتراث والثقافة والحضارة والسياسة والأدب والفن وكثير غيرها. ولا اعرف إن كان يخطط هو لها، بفعل مهنته الصحفية التي تحبذ إعداد الأسئلة، أم لا، لكنه كان أيضا سريع البديهة. وبغض النظر عن التأويل الممكن هنا، فإن الفرق بيننا هنا هو انني لم اكن أعرف عما كان يخطط له من اسئلة. الأمر الذي كان يضفي على الحوار طابعا حيا. فقد كانت اجابتي دوما تتصف بوقع الحال وقدر المعرفة. وبعد كل لقاء كان يقول نفس العبارة. والتغير فيها يتعلق بالمدة. حيث كان يقول "ما حدثتني به يكفيني لشهر من التأمل والتفكر". وأحيانا يقول لشهرين، ومرة قال لي "تكفيني لمدة سنة". عندها اجبته "اذن نلتقي في مثل هذا الشهر من السنة القادمة!". عندها انفجر ضاحكا وقال "لا يمكنني قول تكفيني لأسبوع!".

كان هذا الحوار المعرفي مريحا لكلينا، لأنه ليس هناك ما كان بإمكانه عرقلة الحديث والأنس به. لاسيما وانه كان يعرف بأنني لا آكل ولا احب الأكل في اللقاء. بينما العراقيون يحبون الأكل في الاجتماع، بحيث اطلقوا على الوليمة كلمة العزيمة، مشوهين بذلك قول شاعرهم الأعظم

عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ     وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ

ومع ذلك تبقى العزيمة والوليمة من فضائل أهل العراق. فهم بالفعل كرماء في الروح والجسد والمأكل بشكل خاص! والعراقي يقرف من البخلاء على قلتهم! بحيث اجبرت الجاحظ بتأليف كتابه الشهير عنهم من وجهة نظر النقد والسخرية.

وعودة الى موضوعنا، فقد كان جلال في حالات نادرة يقوم بعمل الشاي لي حالما يحصل على "شحنة" من الحلويات الشامية أو اللبنانية. عندها يقدمها ويمزح بصوته الرنان "هذه مزة كبار السن والمرضى!". ويصحبها بقهقهة لا زيف فيها ولا اصطناع. وقد تكون الحسرة الخفية هي الوحيدة التي يمكن استرقاق السمع إليها في نبرة كلامه.

فقد كان جلال فيما مضى، أو اغلب حياته، قبل أن تمسكه نوبة قاتلة وهو في سفرة سياحية إلى الصين، والتي على أثرها قطع "الشرب"، محبا له. وكان مشروبه المحبب هو الكونياك. وكان يحبذ الكونياك الأرمني. وفيما يبدو لسببين، الأول هو أن الأرمني فاخر بالفعل، والثاني قد يكون بسبب زوجته الأولى الأرمنية ماجدة. وقد كانت ماجدة (ماجدولين) آية في الخلق النبيل واللطف والصوت الهادئ والحنون، شأن كونياك الماشطة. وللنادرة أذكر هنا إحدى الحوادث بهذا الصدد عندما قدم هادي العلوي إلى موسكو للعلاج من داء القصبات والرئة. عندها اتصل بي جلال على أمل التنسيق بالنسبة لموعد زيارة العلوي في الفندق (فندق الرئاسة). اذ سبق لهادي ان اتصل بي حال وصوله الى موسكو وكذلك بجلال. واتفقنا على الساعة الخامسة عصرا. وحالما التقينا وبدأ الحديث، تذكر جلال بأنه لم يشتر قنينة الكونياك. فاعتذر وغادر المكان سريعا وعادة بسرعة أكبر. وقد ابتسم هادي على هذا السلوك وانا ايضا. وقد كان العلوي عصاميا بهذا الصدد، وأنا أيضا آنذاك. لكنه كان ضروريا لجلال لأنه يشحنه بطاقة الجدل والخلاف. وقد أخذه هذا إلى عوالم الحماسة في الرد والانتقاد والتعليق على كلام العلوي، بحيث اعتبر فكرة هادي العلوي عن "المشاعية العراقية" في مساعدة المحتاجين ومهمتها السياسية مجرد فكرة ساذجة. وقد صمت العلوي ولم يرد على هذا التعليق. وتحمس جلال بحيث اعتبر آراء هادي العلوي "سذاجة سياسية". وصمت هادي مرة أخرى. لكن جلال كرر هذه العبارة من جديد، عندها انفجر هادي بطريقة لم اكن اتوقعها منه! لقد كان عنيفا في رده على فكرة "السذاجة السياسية". وصرخ بعبارة كان يمكن تحسس الألم البليغ فيها: "أنا ساذج؟ أنا الذي احمل في رأسي كل مكتبات العالم؟". لقد احرج هذا الرد جلال الماشطة لكنه تداركه بسرعة قائلا، "إنني اقصد أن فيها ملامح طوباوية. والطوباوية أيضا نبيلة الغاية". بعدها عاد الحديث إلى مجراه. لقد نسى هادي العلوي هذه التهمة بفعل قلبه الكبير وعقله الحصيف وروحه النقية. كما نسي جلال ما حدث، رغم تأسفه الشديد على ما قاله بعد أن خرجنا سوية وأوصلني الى البيت بسيارته الخاصة. لكنني واسيته بعبارات تقول، بأن الكونياك شراب يطير بالعقل والوجدان حالما يكون في موضعه، أي بين من يحبون الأكل أو يتلذذون بالجدل السياسي أو مع فتيات العمر الفائت!

لكن ما هو العمر الفائت بالنسبة لجلال؟ لا اعرفه! إذ لا فائت. لم يكن جلال مغامرا في هذا الميدان. لهذا عاش عاشقا لعمله الصحفي رغم تنقله في الزواج للمرة الثانية من روسية وثالثة من عراقية. وتوفي قبل ان يربّع لكي تكتمل الصورة الاسلامية فيه بأكمل أشكالها إثارة للسخرية العراقية. ولم يكن ذلك لأنه كان مزواجا مطلاقا. بل هكذا كان المصير والقدر بالمعنى الحياتي العادي. ولربما كان زواجه الأخير هو الموت فيما لو اطلقنا عليه كلمة مناة أو المنية.

وقد احسست أنا به عندما أتصل بي قبل حوالي أسبوعين من وفاته، بعد عودته من فترة علاج طويلة ولكن بدون جدوى. فقد كان جسده منهكا، وصوته أيضا. وطلب مني أن اوفر له متخصصا بمساج العضلات، بسبب انعدام حركته عندما كان في العلاج. ووفرت له الشخص المناسب ممن أعرفه، لكن ذلك لم يدم أكثر من يومين. بعدها ساءت صحته. وجاء الخبر عن وفاته بعد حوالي أسبوع، ولم أكن آنذاك في موسكو.

والذي يحزنني، انني لم استطع حضور جنازته ودفنه هنا في موسكو، وهو الذي هرب منها في أول فرصة سانحة وعاد إلى العراق لينخرط في لعبة سياسية ليست بذي آفاق أفضل بالنسبة له. غير أن الأمور جرت كما جرت. بل غالى مرة بالقول بعد زيارة قصيرة له لموسكو وهو في أوج "رقيه السياسي" في عراق ما بعد الصدامية، بأن الرجوع الى العراق هو محك الوطنية العراقية. وهو قول يصعب الرد عليه رغم ما فيه من إشكالية مفارقة. وحالما اختليت به، قلت له مازحا. نعم! كلامك صحيح لو توفرت لمن خاطبتهم ما توفر لك! وقد كانت تلك مزحة لكنها جدية في الوقت نفسه. وعموما، أن محك الوطنية وكل موقف سياسي أو اجتماعي أو أخلاقي هو الصدق والإخلاص بمعايير الحق والحقيقة. وما عداها مجرد أهواء ورغبات ومصالح. وهي نافعة ولكن عند حدود معينة وبمعايير ملموسة وصادقة.

لقد عاد إلى العراق يحمل هموم الرغبة والإرادة والمعاناة التي كانت تحتل حيزا في قلوب العراقيين جميعا ممن عانى من زمن الغربة لفترة طويلة. ومن ثم لم يفسح لهم الزمن والقدر تحقيق ما في أعماقهم من مصير محتمل. وأول ما انخرط فيه هو رئاسة تحرير جريدة (النهضة). وفي وقتها طلب مني كتابة المقالات الفكرية لها. وأخذ بنشرها باستمرار ثم خفف منها جدا لسببين، كما أخبرني، الأول وهو إن القارئ لا يفهم في الأغلب ما أكتبه، وإن الكتابات الفكرية بين العراقيين وعندهم شبه معدومة. ولكي لا يصاب بالحرج، من انه ينشر لي فقط، لهذا قرر تحويل الصفحة الفكرية إلى اسبوعية. وكان هو على حق. وقد رأيت بأم عيني هذه الظاهرة حالما التقيت به في مقر الجريدة بالكرادة، ومن بعدها ذهبنا إلى بيته في حي الربيع أو قرب شارع فلسطين. لا اتذكر الأسماء كما انني اجهلها. انني اعرف بصورة دقيقة الكاظمية وبغداد الجديدة، أي تلك المناطق التي ترعرت فيها سنوات طويلة. وبقيت عنده أيام قبل عودتي إلى موسكو. ولا غرابة في الأمر. إذ كان العراق بعد سقوط الصدامية كمية هائلة من الحثالة الاجتماعية والرماد الثقافي! وقد كان هو يلح عليّ دوما بالقدوم إلى العراق، على الأقل للزيارة، وعنده بيت جاهز لكنه لم يؤثثه ويمكنه تأثيثه والعيش فيه كم وكيف أريد. بل كان ينتهز كل فرصة للاتصال بي، لكي يشرح لي أهمية ما انشره في الجرائد العراقية وعلى صفحات المواقع الالكترونية من مقالات تخص الشأن العراقي. وكان هذا سلوكه على الدوام في حالات الصحة والمرض، والحضور والغياب. وأنا كنت دوما أعزه وأحبه. المقصود من وراء كل ذلك، إن جلال الماشطة كان كريم النفس إلى اقصى الحدود بمن يثق به وقريبا إليه بالمعنى المعنوي. واكشف هنا عن سر كان بيننا. ولم اقله لحد الآن لأي كان. فعندما تعرضت صحته للسوء بعد سفرته إلى الصين، تبين بأن إحدى كليتيه مصابة بالعطل. وانه بحاجة إلى عملية جراحية سريعة، ولا تخلو من الخطورة. عندها اتصل بي وبعبارة مقتضبة: "امر مهم جدا وشخصي". وعندما التقيت به (والمسافة بيننا ليست كبيرة) اخبرني بما عنده وآفاق العملية الجراحية المزمع القيام بها في لندن. وقال لي بالحرف الواحد "لا اعرف سأعيش ام لا. فإن مت فإن ابنائي أمانة بيديك. تحفظ لهم حقوقهم حتى استقلالهم الشخصي". وأدخل فيها أمواله وأشياء أخرى. وعندما قلت له، بأن ذلك يحرجني أمام ماجدة وأهلك، فرد علي قائلا "انني لا اثق في العالم بشخص أكثر منك". ولحسن الحظ، امهلته الحياة عقود أخرى من الزمن وحررتني من هذا الالتزام الثقيل بمعاني الروح والمعنى. وبلغ ابناءه حالة الاستقلال التام. وكان سعيدا بذلك. ولكل منهما صفاته إلا ان ما يجمعها الخلق الجميل والأدب والجدية في الحياة والعمل.

لقد كان يستشيرني في المواقف التي لم يكن واثقا مما إذا كان سلوكه صحيحا أم لا. واذكر هنا فقط حادثتين بهذا الصدد. الاولى عندما اقترحوا عليه العمل في جريدة (الحياة) اللندنية. اذ كان يشعر بالحرج من كونها سعودية التمويل والقيادة. لكنني كنت إلى جانب أن يعمل فيها، بوصفها أداة ووسيلة أوسع لعرض مواقفه الصحفية مما يجري من أحداث في روسيا. فالمهم ليس المكان بل الموقف. ووجد في موقفي هذا دافعها مشجعا وليس حاسما. والثانية عندما أراد الزواج بزوجته الروسية. وهنا أيدته أيضا. فقد كانت (سفيتا) شخصية ظريفة وطيبة القلب. المقصود مما اورده هنا، ان العلاقة بيننا كانت تتسم بقدر كبير من الثقة والصدق.

وعموما ان كل ما قلته وما يمكن قوله عنه بهذا الصدد هو من صفاته الفعلية. انها متأصلة فيه لأنه كان يشعر دوما بقوته وصلابته وتفوقه ولكن بدون افتخار مزيف. إذ كل ما حصل عليه كان من صنع يديه. بينما كانت هذه الصفة محل استنكار واستهجان خفي من جانب اغلب من يحتك به بالمظاهر. أما هو فقد كان أمينا مع نفسه. ولم اسمع منه قط ولو لفظة سيئة عابرة بحق أي شخص من الأشخاص. لكنه كان ينتقد ويعلق أحيانا بالطريقة التي يعتقدها هي الأصح ولكن من دون اسفاف وإسراف أو استهزاء. لقد كانت تلك سجيته، التي كانت بدورها نتاج انهماكه الدائم بالعمل وابتعاده عن ضيق المهاترات المميزة للعاطلين عن العمل من جهة، وإحساسه الداخلي بأن ما يمتلكه من قدرات تجعله "يترفع" قليلا ولكن بدون افتعال، أي أن سلوكه وردود فعله كانت تعبيرا عما فيه، كما نقول كل اناء بما فيه ينضح. والقول حقيقة، وينطبق على جلال الماشطة بالفعل.

لقد كان جلال الماشطة صحفيا ألمعيا، دقيق العبارة متفحصا للأخبار والواقع ولا يقبل بما لا فيه ارقام ووقائع وحقائق. بل هو في تصوري افضل صحفي عراقي في الاتحاد السوفيتي وروسيا. ولا يدانيه احد بهذا الصدد. كما كان جلال الماشطة عارفا باللغة الروسية على خلاف اغلب الصحفيين الآخرين. وينعكس ذلك في احد جوانبه فيما قام به من تراجم للكتب الروسية. فقد قال لي مرة، عندما جرى الحديث حول هذا الجانب، بانه ترجم سبعة وعشرين كتابا عن الروسية. واستغربت أنا من هذه الكمية، والسبب هو انني لا اقرأ التراجم العربية من الروسية، بل اعود للنص الأصلي. واكتفي هنا ببعض مما ترجمه، وهي من الكتب الكبيرة مثل كتاب نيكولاي نوفيكوف، فلاديمير فينوجرادوف: يوميات دبلوماسي في بلاد العرب، القاهرة، دار الاهالي، 1990، وكتاب قسطنطين زارودوف (الاقتصاد السياسي للثورة)، وكتاب (تاريخ العربية السعودية) لمؤلفه فاسيليف (هو وخيري الضامن)، و (انا وجدتي) لمؤلفه نودار دومبادزه، وكتاب (اسس علم الجمال الماركسي اللينيني) لمؤلفه افسيانيكوف، وكتاب (فرونزه – القوة الروسية) لمؤلفه ارخانغلسكي، وكتاب بليخانوف (دور الفرد في التاريخ) وكثير غيرها.

واذا كان هذا الانتاج الغزير والمهم مجهولا ولم يجر تقييمه لحد الآن كما ينبغي، فبسبب فوزه في مجال الصحافة والكتابة الصحفية. وهي كتابات ترتقي مع ذلك الى مصاف التحليل والنقد والتأمل والاستشراف المستقبلي لمجريات الاحداث ومسارها المحتمل، كما سيراها القارئ فيما ارفقه من مقالاته التي نشرها. انه كان يتمثل التقاليد الصحفية العربية العريقة. حقيقة انه لم يرتق الى مصاف فطاحل الصحافة العربية ونماذجها الراقية مثل فارس الشدياق ومحمد حسنين هيكل. ولهذا اسباب عديدة لا علاقة لها بكفاءة جلال الماشطة. وكان بإمكانه الارتقاء الى هذه المستويات، غير ان الرياح سارت، كما يقول المتنبي، بما لا تشتهي السفن. وهذه ليست حالته الفردية الوحيدة. لقد كانت تلك وما تزال لحد ما نتيجة الظروف الحياتية والعملية التي عانى منها اغلب الرعيل السياسي الاول للعراقيين. اذ افقدتهم الغربة وظروف العيش والحياة اغلب طاقاتهم ووجهتها ليس صوب ما كان بإمكانهم انجازه. وهذا هو على الدوام مصير الأفراد، وأحيانا الجماعات والأمم. 

وأقدم للقارئ سلسلة المقالات التي كتبها ونشرها في الكتاب الدوري (رمال) الذي كنت اترأس تحريره. فقد كان هو عضوا في هيئة التحرير الى جانب الدكتور الألمعي نوفل نيوف. ففي هذه المقالات يمكن للقارئ ان يكوّن صورة عن الكتابة الصحفية لجلال الماشطة من جهة، وكذلك الاحتفاظ بها واستعمالها كمادة وثائقية ثرية وواقعية ومجارية للأحداث الدرامية  زمن البيرسترويكا وما قبل وبعد انحلال الاتحاد السوفيتي، من جهة اخرى. كما يمكن للقارئ رؤية همومه ومواقفه السياسية المدافعة عن المصالح القومية العربية. 

وسوف انشرها على اربع حلقات، في كل حلقة مقال أو مقالان. كما توجد عندي مقالات اخرى لم استطع لحد الان تحويلهما إلى صيغة الكترونية لكي يجري نشرها. وسوف اعمل على نشرها في وقت لاحق حالما يتوفر لي الوقت للقيام بذلك.

جلال! هذا هو القدر الذي يمكنني الآن أن احي بها ذكراك! مع انك في قلب كل من أحبك.

 

ميثم الجنابي

....................

الزلزال: انهيار الاتحاد السوفياتي: الأسباب والواقع الراهن والآفاق

بقلم جلال الماشطة

 

سيارات الليموزين السوداء اسدلت ستائرها حاجبة وجوه ركابها، وانطلقت باقصى سرعة نحو محمية بيلوفيجيه وسط الغابات البيلاروسية المغطاة بثلج ديسمبر. وفي قصر الصيد الذي كان شيد للترفيه عن كبار الزعماء السوفيات اجتمع قادة ثلاث جمهوريات اشتراكية سوفياتية: الرئيس الروسي بوريس يلتسن والرئيس الاوكراني ليونيد كرافتشوك ورئيس برلمان بيلاروسيا (لم يكن فيها منصب رئيس الجمهورية) فياتشييسلاف شوشكيفيتش. وبعد مناقشات لم تستغرق سوى ساعات وّقع ليل 6/7 كانون الأول (ديسمبر) عام 1991 اتفاق يقضي بتفكيك الدولة السوفياتية. 

هكذا، بجرة قلم، اعلن عن إلغاء كيان يمتد تاريخه مئات السنين ويحتل سدس اليابسة من العالم. هكذا، بقرار قسري، قلبت موازين القوى والمعادلات الاستراتيجية، وتجوهلت ارادة الشعب السوفياتي الذي كان قبل تسعة اشهر فقط صوت لصالح بقاء الدولة الموحدة.

فهل كانت هذه الدولة قائمة، كما يقال الآن، على ارجل من طين فانهارت بمثل هذه السهولة، ام انها حملت بذور انهيارها وكانت بيلوفيجيه تكريساً لأمر واقع؟ ما هي العوامل الموضوعية التي أدت الى التفكك وما هو تأثير العامل الخارجي؟ هذه وغيرها من التساؤلات تطرح اليوم ليس لمجرد معاينة واحد من اهم احداث القرن العشرين، بل ان الاجابة عليها تمهد لوضع تنبؤات عن مستقبل رابطة الدولة المستقلة وركيزتها الاساسية: الاتحاد الروسـي، مع كل ما يترتب على ذلك من تأثيرات في الاوضاع الاقليمية والعالمية.

ولا ندعي ان هذه المقالة يمكن ان تجيب على كل هذه التساؤلات إلا انها يمكن ان تكون بمثابة رؤوس اقلام لتسليط اضواء اولية على معضلة كتب وسيكتب عنها الكثير من الدراسات المطولة.

استعمار؟ احتلال؟ امتداد؟

الشعوب السلافية او «الصقالبة» كما سماهم العرب القدماء، هي المكون الاساسي لما عرف بالاتحاد السوفياتي ومن قبله الامبراطورية القيصرية؛ التي كانت نواتها الأولى، كدولة، تشكلت فيما عرف بـ «روس كييف». وعلى امتداد التاريخ شهدت هذه المنطقة مراحل مد وجزر، فانكمشت وخضعت للاحتلال ابان الغزو التتري المغولي، أو اثناء غزوات الفايكينغ واجتياحات البولنديين، وامتدت شمالاً وشرقاً أثر حملات يرماك الذي سيطر عملياً على سيبيريا كلها. والحقت بالامبراطورية مناطق ما وراء النهر (آسيا الوسطى حالياً) والقوقاز؛ بقوة السـلاح تارة وبمعاهدات جائرة او منصفة جزئياً تارة اخرى. وعشية الحـرب العالمية الأولى كانت الامبراطورية تشمل رقعة تمتد من بولنده غرباً الى تخوم اليـابان والصين شـرقاً من فنلنده شمالاً الى القوقاز وآسيا الصغرى جنوباً.

وكان احتلال الاراضي واستيطانها واقعاً اكيداً يحمل طابعاً استعمارياً واضحاً، ولكن خلافاً للدول الاستعمارية الاخرى، مثل بريطانيا وفرنسا والبرتغال وهولنده، كانت الاراضي المحتلة امتداداً جغـرافياً للمتروبوليا وسكنتها جاليـات روسـية كبيـرة تخـالطت مع السـكان الاصليين وكانـت احيـاناً تحكم مستندة الى النخب الاثنية الاصلية.

والعامل الاخير لم يمنع قيام انتفاضات تحريرية مثل حركة الأمام شامل الذي اراد انشاء  «دولة الامامة» الممتدة من بحر قزوين الى البحر الاسود حيث تسكن اغلبية مسلمة. ونشأت حركات قومية في العديد من المحافظات في روسيا التي كانت مقسمة ادارياً الى وحدات اقتصادية ـ سياسية وليست اثنية.

وكان الشعور بالحيف القومي عاملاً دفع عدداً من القادة المحليين الى موالاة ثورة البلاشفة ضد الحكم القيصري أملاً في الحصول على كيانات قومية مستقلة في ضوء دعـوة لينين الى حق الأمم في تقرير مصيرها بما في ذلك حقها في الانفصال. وتحقق ذلك لبولنـده وفنلنـده، ولكن عملية التفكك توقفت بعد انتهاء الحرب الاهلية (1921) وبدأت مرحلة التجميع القصري او الطوعي. وقبل ذلك اقر البلاشـفة بمبدأ التقسيم القومي للدولة بكل ما ترتب على ذلك من سلبيات وايجابيات لاحقاً.

وفي اواخر عام 1922 وقعت الجمهوريات السلافية الثلاث، روسيا واوكرانيا وبيلاروسيا، وجمهوريات ما وراء القوقاز (ارمينيا وجورجيا واذربيجان) معاهدة انشاء اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية.

وبفعل عوامل عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر اعتماد الالحاد سياسة رسمية للدولة، تأخر التحاق آسيا الوسطى بالدولة الجديدة بل ان هذه المنطقة، شهدت حرباً ضارية في اطار ما سمي بحركة البصماتش ذات الطابع الديني ـ القومي.

وبدلاً من سياسـة الاقنـاع والتراضي لجأ ستالين الى القوة لارغام سكان الامبراطورية القيصرية سابقاً على الاذعـان للواقـع الجديد والالتحاق بالاتحـاد السوفياتي.

وخلافاً للدولة القيصرية جرى تقسيم الاتحاد السوفياتي على اساس قومي ـ جغرافي ومنحت الجمهوريات الاتحادية حقاً (شكلياً) في الانفصال ولكنه حجب عن الجمهوريات التي تتمتع بحكم ذاتي داخل كل من الكيانات الاتحادية الخمسة عشر.

وحققت الاطراف، وخاصة المتخلفة منها، نهضة اقتصادية ولحق بعض منها بركب الصناعة وبدأت حملة شاملة لمحو الامية. إلا ان ذلك ترافق مع اضطهاد غير معلن تمثل في ارغام جميع القوميات (باستثناء الجورجيين والارمن) على اعتماد الابجدية السلافية؛ مما احدث انقطاعاً خطيراً في التواصل الثقافي ولم يعد الاوزبكي، مثلاً، قادراً على قراءة كتب ألفها اسلافه قبل سنوات.

وعلى غـرار ما جرى في المسـتعمرات «التقليدية» تكونت في المناطق القومية داخل الاتحاد السوفيـاتي نخب راغبة في اقامة وقيادة دول مستقلة ليست تابعة لمركز واحد، إلا ان جزءاً من هذه النخب اصبح بحكم انتمائه الى الحزب الشيوعي وحصوله على المواقع المتقدمـة في الجمهوريـات، عدوا للحركات القومية المحلية. وهذا التنـاقض انفجر، كما سـنرى لاحقاً، في السـنوات الاخيرة في عمـر الاتحاد السوفياتي.

ورغم ان السكرتير الأول للتنظيم الشيوعي في كل من الجمهوريات القومية كان من اصل محلي الا ان التقليد غير المعلن كان ينص على ان يليه (من حيث الترتيب وليس الاهمية) مسؤول روسي او «منتدب» من المركز.

وهذا «القوميسـار» كان شوكة في عيون النخب المحليـة وفي الوقت ذاته عيناً عليها، ما خلق استياء مكبوتاً لدى القيادات ومعلناً في القاعدة. وغدت سياسة «الترويس» ظاهرة شائعة في السبعينات ويكفي ان نشير الى ان كالميكيا، مثلاً، لم تكن فيها مدرسة واحدة باللغة المحلية، او ان المكاتبات الرسمية في الجمهوريات كانت بالروسية.

ووصل الأمر احياناً حد المفارقات المضحكة المبكية، إذ ان اللجنة العليا لفحص الشهادات الزمت طلبة الدكتوراه بان يقدموا اطروحاتهم باللغة الروسية حتى وإن كانت تعالج... اشكالية في اللغة الارمنية. كل ذلك خلق نفوراً من المركز واستياء من الروس ونقمة على الايديولوجيا.

ومع بداية البيريسترويكا بدأ المرجل يفور تهيئة للانفجار، ولم يفلح ميخائيل غورباتشوف في ايجاد التوازن الذي يمكن ان يحفظ حقوق القوميات ويدرأ خطر التفكك في الوقت ذاته.

ورغم ذلك كان الاستفتاء الذي جرى في اذار (مارس) عام 1991 اثبت ان 75 في المئة من سكان الاتحاد السوفياتي ايدوا بقاء الدولة الموحدة «في صيغة جديدة» معبرين بذلك عن رغبتهم في تغيير دونما تمزيق.

ولكن القيادة في موسكو بدأت تفقد السيطرة وبدأت «حرب القوانين» باعلان عدد من الجمهوريات ان التشريعات السوفياتية لا تسري في اراضيها. وقد يبدو من المفارقة ان المبادرة في هذا السياق انطلقت من... روسيا رغم انها كانت المحور الاساسي للدولة الاتحادية.

واقر مؤتمر نواب الشعب الروسي «لائحة السيادة» والتي حصلت على اغلبية مطلقة من الاصوات حيث ايدها الليبراليون الموالون للغرب والشيوعيون المنتمون الى الحزب الذي قاده ايفان بولوزكوف، وقد انطلقت الكتلتان من مواقع متباينة واهداف مختلفة، فالليبراليون بقيادة يلتسن كانوا يريدون زعزعة كيان الدولة واسقاط غورباتشوف، والشيوعيون المحسوبون على الخط المتشدد حاولوا اقصاء غورباتشوف ولكن ... للحفاظ على الدولة.

واياً كانت المقاصد فان تحالفاً فعلياً قام وحقق هدفه الاساسي بهز الكرسي من تحت الرئيس السوفياتي الذي كان حائراً وضعيفاً ازاء الزخم العارم للاحداث.

ووجدت الصراعات الفوقية تربة خصبة في الشارع بسبب تخبط المركز الفيدرالي وما نجم عن ذلك من تأزم اجتماعي زاد من حدته اختفاء المواد الغذائية. واستطراداً تجدر الاشارة الى معلومات ظهرت لاحقاً واكدت ان الاغذية كانت موجودة بكميات كبيرة في المستودعات وان «تغييبها» كان يستهدف غرضين الاول سياسي وهو زعزعة الوضع في الاتحاد السوفياتي والثاني نفعي يتمثل في الحصول على ارباح من طـرح البضائـع بعد ارتفـاع اسعارها عدة اضعاف اثر اطلاق «الاصلاحات» الغايداراية.

ولوقف الانهيار بدا غورباتشوف اعداد المعاهدة الاتحادية الجديدة التي وافق عليها قادة اثنتي عشرة جمهورية (تحفظت عليها او رفضتها استونيا وليتوانيا ولاتفيا) وكان من المفترض ان توقع في 20 آب (اغسطس) عام 1991.

وفي رسالة سرية نشرت فيما بعد اشار رئيس مجلس السوفيات الاعلى انذاك  اناتولي لوكيانوف الى ان المعاهدة المقترحة تعني عملياً انهيار الدولة الموحدة وسجل اعتراضه عليها. وكانت افكار لوكيانوف محوراً اساسياً التف حوله قادة «لجنة الدولة لاحوال الطوارئ» التي اعلنت قبل يوم واحد من موعد التوقيع تنحية غوراتشوف بحجة مرضه وحولت المهمات الرئاسية الى نائبه غينادي يانايف.

وضمت اللجنة، الى جانب يانايف، كلا من رئيس الوزراء ووزيري الدفاع والداخلية ورئيس جهاز «كي.جي.بي» أي حاملي المفاتيح الاساسية للسلطة. إلا ان الحركة اخفقت في السيطرة على الاوضاع بفعل اضطراب داخلي فيها ولغياب الشرعية عنها واحجام الشارع عن دعمها.

واثر فشل الحركة واعتقال قادتها اصبح يلتسن الحاكم الفعلي للبلد وهُمش دور المركز وتعاظمت وتائر التشرذم التي بلغت ذورتها باعلان جمهوريات البلطيق الثلاث انفصالها.

وغدت الفترة الممتدة بين آب وكانون الاول مرحلة فوضى سلطوية كاملة فرئيس الدولة السوفياتية يصدر ايعازات يلغيها رئيس روسيا الاتحادية ورؤساء الجمهوريات الاخرى. وقادة اجهزة الامن والدفاع والداخلية يتلقون الاوامر من مركزين وتعطل عملياً نشاط الحكومة المركزية. ورغم ضعف غورباتشوف وفقدانه العتلات الرئيـسية للقـرار فانه ظـل في نظـر يلتسـن عقبـة تمنـع تحقيـق طموحه الى التربـع على عرش الكرمليـن، واصـبحت تنحيته رسـمياً الهدف الاول للرئيس الروسي.

وابتدع مساعدو يلتسن، وفي مقدمتهم «الايديولوجي» غينادي بور  بوليس الشخص الثاني من حيث الاهمية آنذاك، و«العراب» سيرغي شاخراي البارع في حياكة الدسائس، ذرائع لتبرير هدم الدولة الموحدة.

وشبه بوربوليس روسيـا الاتحـادية بانها قاطرة ينبغي ان تجر العربات ـ الجمهوريات، ولكنها غير قادرة في ظل اوضاعها على اداء المهمة، ولذا يجب فصلها كي تنطلق بسرعة وبعد ان تستعيد عافيتها وطاقاتها تعود لسحب العربات الاخرى. هذه الكناية التي لا تصمد أمام أي تحليل موضوعي كانت مجرد ستار لما جرى في بيلوفيجيه ليلة 6/7 كانون الأول (ديسمبر) من انتهاك للشرعية الدستورية والتاريخية. فمن الناحية القانونية كان الدستور السوفياتي ينص على حق كل جمهورية في الانفصال إلا انه لا يمنح اياً منها حق الاعلان عن الغاء الدولة الموحدة. والى ذلك فـان المتجمعين في غابات بيلاروسيا كانوا يمثلون ثلاثاً من اصل خمس عشرة جمهورية وبالتالي فانهم اقلية عددية رغم كون الجمهـوريات السـلافية تضـم اكثر من نصـف سـكان الاتحـاد السوفياتي.

وغدا الاجتماع الذي عقده رؤساء تسع جمهوريات في العاصمة الكازاخية الما آتا في 22 كانون الاول (ديسمبر) مجرد تحصيل حاصل واقراراً بالواقع المر الذي جرت «تحليته» باعلان قيام رابطة الدول المستقلة التي ظهر لاحقاً انها كيان هلامي لا قيمة حقيقية له. وبعد هذا الاجتماع اعلن غورباتشوف استقالته رسمياً ومنح مهلة ثلاثة ايام ليجمع اوراقه ويلملم متاعه في الكرملين، لكن يلتسن لم يطق الانتظار فاوعز الى مساعديه بطرد غورباتشوف في أول ليلة ونكس العلم السوفياتي فوق قبة الكرملين ايذاناً بانتهاء حقبة كبرى في التاريخ.

أثمرت حنظلاً

جسد المريض لا يعالج بتقطيع اوصاله، وكل من القطع المجتزأة لا يمكن ان يحيا بمفرده. وإذا افترضنا ان الاتحاد السوفيـاتي كان كياناً مفتعلاً (وهو افتراض بعيد عن الدقة كل البعد) فان تغيير هيكليته كان يقتضي مقارنة متأنية ودراسة مستفيضة، وتكفي الاشارة الى ان «الطلاق المخملي» بين تشيخيا وسلوفاكيا استغرق سنوات ولم يكتمل فصولاً بعد.

فقد «اهمل» الموقعون على اتفاق بيلوفيجيه قضايا غدت محاور لصراعات عنيفة كالخلاف على شبه جزيرة القرم التي كانت جزءاً من روسيا وعنواناً لمجدها العسكري طوال قرون ولكن الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف قدمه «هدية» الى اوكرانيا عام 1954. ولكن الحدود بين الجمهوريات في الزمن السوفياتي كانت ادارية ـ رمزية لا قيمة فعلية لها ضمن الدولة الموحدة، في حين ان تفكيك الدولة كان يقتضي معالجة جدية لهذا الموضوع.

وعلى الصعيد الانساني فان المولدافي الذي درس في روسيا وعمل في جورجيا وتقاعد في كازاخستان لا يعرف الى أي بلد ينتمي ومن الذي سيدفع له معاشه التقاعدي. ومصنع الالومنيوم الضخم المقام في طاجكستان كان مفخرة للجمهورية إلا انه تعطل لانه كان يستلم مواده الاولية من روسيا ويبيع السبائك الى بيلاروسيا، واصبحت هاتان الجمهوريتان دولتين مستقلتين يفرض كل منهما قيوداً جمركية على حركة الخامات والبضائع. كيف يمكن مطاردة المجرم الذي يرتكب جنايته في اذربيجان ويهرب مستغلاً «شفافية» الحدود الى اوزبكستان فلا يقع تحت طائلة القانون فيها؟ كل هذه التساؤلات بدت «تافهة» ازاء الهدف الاساسي الذي توخاه دعاة هدم الدولة بالصورة القسرية التي جرت وفقها.

ثبتت دراسة اعدها مجلس السياسة الخارجية والدفاعية في روسيا اهم ما اسفر عنه التفكيك. ونوجزها بثلاث نقاط وهي

أولا: انحلال الروابط الاقتصادية التقليدية بين الجمهوريات ادى الى انخفاض حاد في الانتاج تراوح بين 50 و80 في المئة، وتعمقت الكارثة بسبب اختلاف سبل وتوجهات التنمية الاقتصادية وصعوبة التكامل الذي تعترضه عقبات سياسية ـ نفعية.

ثانيا: انهيار الوحدة الزراعية بعد ان كانت آسيا الوسطى المصدر الاساسي لتزويد سائر المناطق (باستثناء روسيا واوكرانيا) بالمحاصيل والمواد الغذائية، والجمهوريات الآسيوية بدورها عانت من نقص المواد المصنعة.

ثالثا: انهيار القدرة على «المناورة» بالموارد المالية والانتاجية والطبيعية، وتكفي هنا الاشارة الى ان عواقب الزلزال الذي هدم العاصمة طشقند عام 1966 تم تلافيها بسرعة بفضل حشد جهود جميع الجمهوريات.

على الصعيد السياسي

بدأت عملية تغير اساسي في موازين القوى العالمية والاقليمية وتوفرت ظروف لاشتعال الحروب الاقليمية والنزعات المحلية.

 فقدت كل الدول، وفي مقدمتها روسيا، الامكانات المتوفرة لها سابقاً في الدفاع عن مصالحها. (نشير استطراداً الى ان القوات الاساسية كانت منتشرة على حدود الاتحاد السوفياتي، أي خارج روسيا، وظل القسم الاكبر منها في مواقع المرابطة دون ارتباط بمركز موحد، وتحتاج الجمهوريات الى مليارات الدولارات لاقامة شبكات حدودية قوية).

بقاء الملايين من ابناء الاثنيات الاخرى في جمهوريات لا ينتسبون اليها قومياً. وقدر عدد الروس المنتشرين في رابطة الدول المستقلة بـ 20—25مليوناً، اما العدد الاجمالي للسكان غير الاصليين فيصل الى 50—55مليوناً، بكل ما يترتب على ذلك من مشاكل قومية ونزاعات بين الدول.

عدد من الجمهوريات لم يكن يملك مقومات الدولة وعليه ان يعمل على بنائها من الصفر عملياً مما يديم عدم الاستقرار، ويخلق ممهدات لتفكك جمهوريات وقيام دول اخرى وانسلاخ اجزاء وضمها الى قوى اقليمية ودولية.

هل كانت عملية التفكيك سلبية بالمطلق ام ان فيها عناصر ايجابية؟ الاجابة الوافية لدى التاريخ ولكن من المؤكد ان النخب القيادية في الجمهوريات وجدت في الاستقلال متنفساً لطموحاتها القومية والذاتية وفسحة للعمل الميداني من دون وصاية من المركز. فسياسة الترويس والترويض الايديولوجي كانت تقيد الفكر والحركة في الجمهوريات، كما في روسيا ذاتها.

ورغم ذلك فان الطموح الى التكامل حاضر في جميع ارجاء الاتحاد السوفياتي السابق بدرجات متفاوتة، فهو قوي في بيلاروسيا ومتدنٍ في البلطيق.

ولم يترجم هذا الطموح عملياً في رابطة الدول المستقلة التي اصدرت حتى الآن اكثر من 1200 قرار ظلت غالبيتها الساحقة حبراً على ورق. وجوبهت محاولة البرلمان الروسي الذي يهيمن عليه اليسار لاستصدار قانون يلغي اتفاقيات بيلوفيجية بمقاومة ضارية في موسكو وفي العواصم الاخرى، رغم ان القانون كان مجرد اعلان نوايا لا تترتب عليه تبعات عملية. ويتفق المحللون على ان صدور مثل هذا التشريع عن جمهورية، او جمهوريات، غير روسيا كان سيدفع التهم المحتملة بـ «عوة الاستعمار» ويهيئ مناخاً تكاملياً حقيقياً.

الى الوراء نحو المستقبل!

ثمة عوامل كثيرة تعيق عملية التكامل وتعزز النزعات النابذة للمركزية، واخرى غير قليلة تدفع في اتجاه التقارب والتعاون.

ويأتي في صدارة المجموعة الاولى العامل الخارجي. فالولايات المتحدة التي غدت القوة الاعظم الوحيدة في العالم لا تريد، بالتأكيد، قيام دولة قوية تغدو محوراً منافساً لها، خاصة وان واشنطن لعبت دوراً كبيراً في انهاك الاتحاد السوفياتي بسباق التسلح المضني وطوقته بحصارات عسكرية واقتصادية وايديولوجية وعملت في داخله على زعزعة الوحدة الداخلية وتنشئة ودعم نخب موالية للغرب هيمنت على السلطة في موسكو لاحقاً.

وكانت خطة هدم الدولة «المعادية» ظهرت في الولايات المتحدة قبل اكثر من خمسين عاماً. ونستميـح القارئ عذراً في ايراد مقطع مطـول من تقريـر رئيس وكالة المخابرات المركزية (C.I.A.) سابقاً الآن دالاس، اعده قبل اشـهر من انتهاء الحرب العالمية الثانية، أي حينما كـانت بـلاده داخلة في تحالف مع الاتحاد السوفياتي. فهو يقول:

«... سوف تنتهي الحرب وتهدأ الامور وتستقر على نحو ما. وحينذاك سنزج بكل ما نملك، بكل الذهب والجبروت المادي، لغسل عقول الناس. عقل البشر ووعيهم قابلان للتغيير. وباثـارة الفوضى سـوف نعمل خفية على اسـتبدال القيم (الفعلية) باخرى مـزيفة ونرغمهم على ان يصـدقوا بها. كيف؟ سنجد لنا انصـاراً وحلفـاء داخل روسيا.

ولمحة اثر اخرى سوف تكتمل مشاهد تراجيديا كبرى من حيث ابعادها، تراجيديا مصرع شعب رفض الخنوع، وضمور وعيه بذاته. وسنطمس تدريجياً من الادب والفن جوهرهما الاجتماعي (...) وسيسخر الادب والمسرح والسينما لعرض وتمجيد اخس الاحاسيس البشرية. وسندعم بكل سبيل ووسيلة «الفنانين» الذين سيزرعون ويبشرون بالجنس والعنف والسادية والخيانة، أي باختصار كل ما يسمى باللااخلاق. وفي ادارة الدولة سنخلق الفوضى والاضطراب.     

وبشكل غير ملحوظ ولكن نشيط، سوف نسعى على تفشي التغطرس والارادوية لدى الموظفين والمرتشين. وستظهر البيروقراطية والمماطلة وكانهما من الفضائل. اما النزاهة والامانة فستكونان موضع سخرية ويتحولان الى مخالفات من الماضي. في حين ان الصلافة والوقاحة والكذب والخداع وادمان الكحول والمخدرات والخوف الحيواني المتبادل بين الناس وغياب الحياء وانتشار الخيانة والعداء بين الشعوب، وخاصة العداء للشعب الروسي، كل ذلك سنعمل، بمهـارة ودون ان يلحظ ذلك احد، على زرعه وازدهاره.

القلائل، قلائل جداً، سوف يحدسون او يفهمون ماذا يجري. ولكن سنضع هؤلاء في وضع العاجزين ونحولهم الى مسخرة ونجد اسلوباً للافتراء عليهم واعلانهم نفايات للمجتمع. وسوف ننزع الجذور الروحية ونبيد اسس الاخلاق الشعبية. وبذا سوف نزعزع جيلاً اثر جيل. وسنتعامل مع البشر منذ طفولتهم وصباهم، وسيكون رهاننا الرئيسي متركزاً على الشباب، وسنعمل على ان نجعلهم كسموبوليتيين سنصنع منهم اجلافاً وقحين متفسخين منحطين».

هذا التقرير نشر في صحف روسية، ورغم اثارة تساؤلات عن صحته فان ما ورد فيه ينطبق الى حد كبير على واقع الحال.

وخلافاً للولايات المتحدة فان عدداً من القيادات الاوربية يرى في روسيا حليف محتملاً للحد من النفوذ المتعاظم لواشنطن، غير ان الدول الاوربية لا تريد، بالتأكيد عودة روسيا الى جبروتها السابق.  

وتستخدم الدول المذكورة، وخاصة الولايات المتحدة، كتلات متعددة لعرقلة التكامل، كالضغط السياسي المباشر وتوسيع حلف الاطلسي وتوظيف قروض صندوق النقد الدولي لاغراض سياسية، ورسم مسارات لخطوط انابيب النفط والغاز من حوض بحر قزوين الى الموانئ التركية او حتى الباكستانية.

ويتضافـر ذلك مع عـوامل داخلية من ابرزها التباين المتزايد في المستويات الاقتصادية ومعـدلات النمو (او بالاحرى وتائر الانكماش). وهذا التباين فعلي احياناً ومفتعل في حالات اخرى إلا انه يعيق موضـوعياً تحقيق تكامل اقتصادي ـ سياسي سريع.

ولا شك ان النخب في الجمهوريات ليست متحمسة لقيام كيان تكاملي قد يحد من صلاحياتها شبه المطلقة حالياً، ولذا فانها تغذي المشاعر الانعزالية.

ورغم ان المواطن العادي، في الغالبية الساحقة من الجمهوريات، يشعر تحت وطأة الاوضاع الراهنة القاسية بحنين الى الماضي السـوفياتي، إلا انه لن يقـف فوراً الى جانب تكامل جديد وخاصة مع روسـيا الضعيفة اقتصـادياً والمترفعة قوميـاً في آن واحـد، حيث يتعرض ابناء القومـيات الاخرى الى اضـطهاد سافر او مستتر في موسكو.

ولكن العامل الاقتصادي الذي يشكل الآن موطن الضعف وأحد اهم اسباب التشرذم قد يصبح في الوقت ذاته دافعاً للتكامل. اذ ان هو انخفاض الانتاج وتدني نوعيته وبالتالي تقليص قدرته التزاحمية في العالم يجعل من بلدان الرابطة اسواقاً متبادلة لبعضها البعض، وهذا التوجه يعززه وجـود تطابق في القاعدة الصناعية واساليب الادارة والتسويق.

ومن الناحية السياسية ـ الدفاعية سيجد عدد من دول الكومنولث نفسه ازاء معادلة معقدة: فاما تكوين تحالف حقيقي او الانضواء تحت مظلة قوة دولية خارجية او التعرض الى خطر الانهيار الداخلي.

ولذا فان التكامل سيغدو تدريجياً محركاً اساسياً للاوضاع الداخلية في كل من الجمهوريات وقد يؤدي الى تغيير الهرم السلطوي في كل منها. وهذه الظاهرة ملموسة في روسيا حيث ادى الفشل الذريع لسياسة «الاصلاحات» إلى نقمة على قادتها الذين كانوا في الوقت ذاته دعاة التفكيك ومحركيه. بل ان روسيا في عهدهم امست نفسها مهددة بالانهيار بعد ان كان يلتسن دعا الجمهوريات الى ان «تأخذ من السيادة ما استطاعت ان تهضم» لكنه ما لبث ان جهز حملة عسكرية كبرى ضد جمهورية الشيشان التي ارادت تطبيق مقولته حرفياً.

وهزيمة «الإصلاحيين» في روسيا ترسي بداية تحولات كبرى في الفضاء المتخلف عن انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي حال تمكن القيادات الجديدة، او التي تتبع نهجاً جديداً، من وقف الكارثة الاقتصادية ووضع استراتيجية واضحة فان التكامل قد يصبح، في غضون سنوات، واقعاً فعلياً.

وكما كانت روسيا قد قادت عملية التفكيك فانها قادرة على تزعم حركة في الاتجاه المعاكس وتكوين نواة تضم الجمهوريات القريبة منها جغرافياً او اقتصادياً. وقد يبدأ التقارب بعلاقات على النمط الذي تشهده اوربا حالياً، ثم يتحول تدريجياً الى كونفيدرالية تضم روسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجكستان وارمينيا. وبفعل عوامل قومية (الطموح الى التوحيد مع رومانيا) يحتمل ان تتخذ مولدافيا موقفاً حذراً من الكيان الجديد، ولدوافع اخرى قومية واقليمية ستحذو جورجيا حذوها. وستكون العلاقة معقدة مع اوكرانيا، فهي ثاني اكبر جمهورية بعد روسيا (52 مليون نسمة) ما يؤهلها لان تكون دولة اوربية قوية ولكن اعتمادها على المحروقات الروسية والنزعات السلافية الموجودة داخلها قد تدفع في اتجاه التقارب مع الكيان الجديد.

الوضع اكثر تعقيداً بالنسبة لاذربيجان وتركمانيا الغنيتين بالنفط والغاز واللتين اصبحتا في «دائرة النفوذ» الغربية وقد تقتصر علاقاتهما مع الكونفيدرالية الجديدة على صلات جمركية وتبادل تجاري واسع النطاق.

وتحقيق التكامل يقتضي في المقام الاول استقراراً سياسياً وتحركاً اقتصادياً في اتجاه الابتعاد عن الهاوية، وتهيئة نفسية هادئة ومدروسة.

وفي مطلق الاحوال فان عودة الاتحاد السوفياتي في صورته القديمة امر مستحيل ولو حصل (باستخدام القوة مثلاً وهو مستبعد) لكان ذلك قسراً ضد التاريخ شبيهاً بالقسر الذي مارسه موقعو اتفاق بيلوفيجيه. 

***

 

 

 

في المثقف اليوم