شهادات ومذكرات

في ذكرى جلال الماشطة (3-4)

ميثم الجنابيهو المَوتُ، فاخْتَرْ ما عَلا لكَ ذِكْرُهُ

فلم يَمُتِ الإنسانُ ما حَيِيَ الذِّكْرُ

جلال الماشطة: التحليل الواقعي والنزعة النقدية

يمثل جلال الماشطة أحد النماذج الصحفية الرفيعة في مزاوجته للتحليل الواقعي والنزعة النقدية. فقد كان هو على الدوام يتتبع الأحداث ومجرياتها كما هي. وفي الوقت نفسه يستجمع مختلف الآراء والمواقف بما في ذلك المتضادة ومن خلالها يحاول استبيان واكتشاف المسار الفعلي للأحداث. وهي صفات لا تكشف عنها ما كتبه من مقالات صحفية تخص الشأن الروسي الذي تخصص فيه، بل وفي حياته الشخصية العادية. ففي الكثير من احاديثنا الشخصية كان يمكن رؤية الكمية الكبيرة بل والهائلة من تجميعه للوقائع والشخصيات في مجرى استعراض مواقفه وتقييمه للأحداث. لاسيما وانه كان واسع الاطلاع ومعايش للتاريخ السوفيتي والروسي وكذلك للكثير من الشخصيات السياسية والفكرية والصحفية والاجتماعية والدبلوماسية.

فعندما كان يتناول حالة الواقع الروسي بمختلف جوانبه ومشاكله، فإننا عادة ما نلاحظه يبدأ برسم الصورة العامة والخاصة للأحداث، ثم يأخذ بالكشف عن مسبباتها ونتائجها المحتملة من خلال استعراض مختلف الآراء من جهة وتثبيت موقفه الشخصي منها من جهة أخرى. من هنا جاذبية ما يكتبه للقارئ العادي او للمتخصص والمهتم بالشأن السوفيتي والروسي.

بمعنى ابتداءه بالمعطيات الدقيقة التي كان يتتبعها ويمتلكها وانتهاء بالأحكام الشخصية. وقد اشرت أعلاه إلى أن ذلك لم يكن معزولا عن علاقاته الواسعة والمتشعبة والعميقة بالقوى السياسية والحزبية والدبلوماسية ورجال الدولة الروس ووزارة الخارجية بشكل خاص. وقد كنت استجيب احيانا (في حالات نادرة) لدعواته للذهاب سوية الى انواع مختلفة من هذه القاءات. وقد لاحظت كيف انه في أغلب الأحيان لا يتكلم ولا يقدم أحكاما، بل كان يستفسر لكي يجمع الآراء والمواقف والمعلومات الضرورية.

وقد حد ذلك أيضا أسلوبه النقدي في الكتابة. ولم تكن الصفة النقدية لجلال الماشطة محدودة بالمواقف والأحكام والأبحاث الصحفية، بل وكانت صفة جوهرية في شخصيته. لهذا كان البعض (من العراقيين خصوصا، وهم قوم شكاك بإفراط كما انهم سريعو الصدق أحيانا أخرى، حسب قاعدة "قال لي" و"سمعت". اضافة إلى أن سلوكهم في الأغلب محكوم بقاعدة "مغنية الحي لا تطرب"). من هنا نظرتهم إلى مواقفه النقدية (وقد كان جلال الماشطة كثير النقد والاحتجاج) على انها تعبير عنه بوصفه "رجلا مشاكسا"! ولا يخلو طبع جلال الماشطة من افراط احيانا في الشك والأحكام الجزمية(!). إلا أن كل ذلك هو نتاج رؤيته الواقعية والنقدية. ومن الممكن تلمس ذلك، فيما ادرجه من مقالاته النموذجية بهذا الصدد، في تحليله ومواقفه التقيمية تجاه مجمل السياسة الروسية زمن يلتسن بشكل خاص وبداية بوتن.

كما ان هناك أبعاد دفينة في رؤيته النقدية لما كان يجري في الاتحاد السوفيتي زمن غورباتشوف ويلتسن وبداية حكم بوتن، ألا وهي بقايا الشيوعية الكامنة في وعيه السياسي ووجدانه الاجتماعي. من هنا نلاحظ الومضات السريعة والحادة في نقده للواقع السياسي الروسي آنذاك. بمعنى تأثره العميق بقيمة روسيا والتحسر على فقدانها الكلي بما في ذلك انهيارها. مما أدى به احيانا إلى بلورة مواقف متشائمة. من هنا عدم ثقته بالأفكار التي كان يجري الهمس بها في بداية ومنتصف رئاسة بوتن عن سياسته المسالمة تجاه سلوك ومواقف وأعمال الولايات المتحدة الامريكية على انه مجرد أسلوب تكتيكي. وقد رفض جلال الماشطة هذه الأفكار واعتبرها احلاما مزيفة. بينما برهن الواقع والأحداث اللاحقة والحالية على صحتها. وقد كان له بعض الحق بهذا الصدد. اذ كان من الصعب توقع ان يخرج رجل من تحت عباءة يلتسن لكي يكون على نقيض منه.

كما يمكن رؤية الملامح العميقة والمتجانسة في هيمنة الهموم العربية في كل ما كتبه، بما في ذلك عن السياسية الروسية وأحداثها وتياراتها وأيديولوجياتها ومواقفها. اذ نراه يتتبع اغلب حيثياتها. من هنا عمله الدءوب من اجل أن تتكون لدى البعثات الدبلوماسية العربية رؤية واقعية ومستقبلية عن روسيا. لكن الأمر كان صعبا للغاية. أولا لأن السفارات والسفراء العرب يعتبرون انفسهم في قمة الهرم من الرفعة والذكاء. بينما هم في الأغلب موظفون وإمعات خاضعة لأجهزة الأمن والمخابرات "الوطنية". كما أن اغلبهم يتسم بالأنفة الزائفة وسطحية المعارف وعدم معرفة اللغة الروسية والواقع الروسي والتاريخ الروسي. وأتذكر هنا حادثة عندما كنا انا وإياه في ضيافة بعض السفراء، حيث طلبوا مني أن اكتب لهم كتابا عن التاريخ الروسي لأنهم لا يعرفون أي شيئ عنه. عندها اجبتهم بإمكانية الكتابة عن هذا الموضوع، لكن الأفضل لو عملوا على ترجمة بعض الكتب التاريخية للروس انفسهم، ويمكنني اختيار ما هو مناسب من المؤلفات بهذا الصدد. لكنهم تركوا هذا الأمر. والسبب في اعتقادي هو عدم رغبتهم في دفع أجور المترجم!! إذ ان اغلبهم يتصف بالجشع والغيرة والبخل وتفاهة الشخصية. وقد كان جلال يعرف مدى قرفي من الجلوس معهم لإدراكي نوعية الجبن والخوف والبخل في كل ما يتعلق بالعمل الحر والمستقبلي في روسيا في مجال الدفاع عن المصالح القومية العليا للعرب. لكنني كنت أحيانا استجيب لدعوته بسبب إلحاحه. وقد كان دوما يكرر نفس العبارة "ميثم! مجرد ساعة ساعتين. بعدين نتحرر . وشوية ترتاح من الكتابة"! ويضيف " انا لوحدي اشعر بالملل". وعندا ارد عليه "تريد ان اتقاسمه معك!"، عندها يأخذ بضحكته الجميلة. وعندما كنت اقول له، بأنه لا معنى للعمل مع هذه "المؤسسات" الخربة، وانه عمل بلا معنى. كما نه جهد ووقت ضائع. لأنهم مجرد تعبير قبيح عن رذائل السلطات التي يمثلوها. انهم ليسوا ممثلي دولا بالمعنى اللدقيق للكلمة. اما الفكرة القومية فإنها معدومة عندهم تماما. والوطنية أيضا. وفي تجاربي الشخصية (قبل اكثر من عشرين سنة) لم ار بينهم آنذاك من يتصف بطيب الخاطر والشخصية والمعرفة والأدب والعمل الدءوب من اجل مصالح الوطن والعالم العربي سوى سفراء قطر وعمان، اما البقية الباقية فسقطات ومزابل! ان هذا الحكم ينطبق على احداث كانت قبل عقود. اما الان فلا اعرف شيئا على الإطلاق، لأنني لا استجيب لدعوة أيا منهم على مدار عقود. وهذا بدوره من فضائل جلال الماشطة أيضا!

وقد اخترت هنا مقالان من مقالاته للكشف والبرهان على الفرضيات التي وضعتها في التقديم عن نوعية الكتابة الصحفية لجلال الماشطة، وهما كل من (هل تفقد روسيا خاصرتها الضعيفة؟) و(ضياع الهوية - موقع روسيا في العالم الجديد).

*** *** ***

هل تفقد روسيا خاصرتها الضعيفة؟

بقلم جلال الماشطة

في كتابه النثري "داغستان وطني" قدم الشاعر رسول حمزاتوف معادلة بسيطة ومركبة في آن للصلة الجدلية بين الفرد والوطن والكون، فهو يريد الإطلال على العالم واحتضانه ولكن… من كوة بيته الجبلي، فان هبط إلى مدن السهول غامت الصورة وضاعت ملامحها، وإذا اعتكف بين الجدران الحجرية في الأعالي حرم من رؤية أمواج البحر وهي تلاطم الساحل.

ورغم أن القوقاز ليس كله جبالا، فان العديد من سكانه يواجهون هذه الإشكالية المعقدة، فهم يطمحون إلى الإبقاء على نمط حياتهم التقليدي، ولا يرغبون في قطع الأواصر مع العالم الذي ظل أمدا طويلا يتمثل لديهم في دول الجوار. وحل هذه المعادلة هو السبيل الوحيد للإبقاء على الاستقرار في المنطقة والحيلولة دون تحولها مسرحا لصراع دام تكوي نيرانه العالم كله.

والى ذلك فالقوقاز مثقل بمشاكله الداخلية، فهو فسيفساء اثنية ـ طائفية ـ حضارية شديدة التعقيد، وقد تكفي الإشارة إلى أن في داغستان وحدها زهاء 40 قومية وشعبا تتعايش (أو تحترب) على رقعة لا تزيد مساحتها عن 50 ألف كيلومتر مربع. وثمة خلط في الفهم الجغرافي ـ التاريخي للقوقاز. فالروس، مثلا، جعلوا من سلسلة جبال القوقاز حدا فاصلا للتمييز بين "شمال القوقاز" وهو الآن الجزء الجنوبي من روسيا و"ما وراء القوقاز" المكون حاليا من ثلاث دول مستقلة هي أذربيجان وأرمينيا وجورجيا. و"القوقازيون" لدى الروس هم الشعوب غير السلافية ذات البشرة السمراء، في حين أن أقاليم روسية واسعة، مثل كراسنودار وستافروبل، تعد جزءا من شمال القوقاز وتسكنها أغلبية سلافية.

ولكي لا ندخل، ونورط القارئ معنا، في متاهات لا نخرج منها، سنستخدم كلمة "القوقاز" للاصطلاح على المنطقة الواقعة على جانبي سلسلة الجبال التي تحمل نفس الاسم، والتي كانت تشكل الجزء الجنوبي للاتحاد السوفياتي السابق وتتاخم تركيا وإيران وتمتد من البحر الأسود إلى بحر قزوين.

هذه المنطقة كانت مهدا لواحدة من اعرق حضارات العالم وهي "اورارتو" في أراضي أرمينيا الحالية، إلا أن هذه البقعة لم تشهد في القرون الأخيرة قيام دول وأمم بالمعنى المتعارف عليه في أوربا، ربما باستثناء المملكة الجورجية التي وقعت مع روسيا "معاهدة حماية" قبل ثلاثة قرون وغدت امتدادا للإمبراطورية وإن تمتعت باستقلال نسبي.

واصبح القوقاز مسرحا لصراعات ضارية بين الروس والعثمانيين والفرس، وبدأت الكفة ترجح لصالح القياصرة في القرن الثامن عشر حينما سيطرت روسيا على غالبية أراضي "ما وراء القوقاز" وبعض المناطق الساحلية ـ السهلية التي تربطها بالمركز. إلا أن شمال القوقاز، وخاصة جباله، ظلت خارج نطاق السيطرة الروسية.

واستخدم القياصرة أساليب مختلفة للاستيلاء على "الحلقة الوسيطة": تارة بعقد اتفاقيات مع إمارات وخانات، وأخرى بإسكان القوزاق (الروس) في شمال القوقاز، إلا انهم بدأوا في أواخر القرن الثامن عشر تحركا واسعا تكلل في مطلع القرن التالي باحتلال نقاط ارتكاز مهمة واكتمل بسط الهيمنة عمليا بحصول روسيا على منافذ على البحر الأسود وفي مقدمها ادلر (سوتشي) وأنابا.

بيد أن الأمر لم يستتب لروسيا، واندلعت الحرب القوقازية الأولى في أواسط الثلاثينات من القرن الماضي حينما بدأ الإمام شامل حركته لإقامة ما عرف "بدولة الإمامة" الإسلامية التي أريد لها أن تمتد "من البحر إلى البحر" إلا أنها شملت في البداية أراضي داغستان والشيشان.

ورغم اسر الإمام شامل بعد قتال دام زهاء عشرين عاما فان عددا من مريديه لم يلقوا السلاح وواصل الشيشانيون ما يعرف حاليا بـ "حرب الأنصار" في الجبال، وبعد قرابة 150 سنة يمكن أن تتكرر المأساة القوقازية، وان بصورة أخرى تستخدم أبانها الصواريخ بدلا من السيوف.

بديهي أننا لا نطمح هنا إلى تقديم استعراض تاريخي بل نحاول تسليط الأضواء على نقاط ـ مفاتيح لفهم الأوضاع الراهنة في القوقاز. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن نقلة مهمة جرت بعد الثورة البلشفية في روسيا أعقبها قيام، ثم سقوط، جمهوريات مستقلة في جورجيا وأذربيجان وأرمينيا، وتشكيل كيانات قومية في شمال القوقاز ما لبث أن أعيد ترتيبها بعد انتهاء الحربين العالمية الأولى والأهلية.

من الناحية الشكلية نادت السلطة السوفيتية بمبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها، وفي ضوء ذلك أحدثت تغييرا جوهريا في هيكلية الدولة، فألغت التقسيمات الإدارية ـ الجغرافية، واستحدثت وحدات إدارية ـ قومية إلا أنها ظلت بنى شكلية في نواح عديدة ولم تحل مشاكل التداخل السكاني ضمن كل وحدة، أو معضلات ترابطها مع المركز الفيدرالي.

لكن القول بان سياسة موسكو حيال القوقاز كانت غائمة الملامح وتعتمد حوك الدسائس أو استخدام القوة فقط، إنما هو قول فيه الكثير من العسف والتجني، كما فيه جزء من الحقيقة.

فلا يستطيع أحد أن ينكر أن حملات التهجير القسري وخاصة في الاربعينيات خلقت جرحا لا يندمل في قلوب الشيشانيين، مثلا، كما أن غياب المدارس القومية في العديد من مناطق التجمعات الاثنية لم يكن عاملا يساعد على تطوير الثقافات المحلية. وغالبا ما تجاهلت موسكو التنوع الاثني والتداخل السكاني فعمدت إلى تطبيق "مساطر" موحدة سميت سياسة قومية. ولكن لا ينبغي إنكار حقيقة أخرى وهي أن عملية تصنيع حثيثة بدأت في القوقاز وحاولت السلطة معالجة بعض من مشاكل الريف المعقدة. والاهم من ذلك أن الكثيرين من أبناء القوقاز، وخاصة في جزئه الشمالي فتحت أمامهم أبواب اكبر الجامعات وظهر بينهم علماء ومفكرون وأدباء وفنانون كونوا شريحة مهمة في النخبة السوفياتية، بل اصبحوا في طلائعها.

والطموح إلى التعلم أو ممارسة الاعمال والقدرة على التحرك في مناطق غير الوطن الاثني هي صفات اكتسبها القوقازيون الشماليون بفعل عوامل موضوعية. فخلافا لمناطق "ما وراء القوقاز" أو الأجزاء الروسية من شمال القوقاز فان البقاع الجبلية والسفوح المجاورة لها هي في الغالب ارض غير خصبة ومناخها قاس ومواردها الطبيعية ضئيلة وطرق المواصلات عبرها وعرة.

وحاولت السلطة السوفيتية "تجاوز" هذه الإشكاليات بإعادة توزيع جزء من الموارد. واعتاد القوقازيون، كما سائر مواطني الاتحاد السوفياتي، فكرة أولوية الدولة التي غدت بمثابة "الراعي" الذي يتصدى لمعالجة المعضلات متجاهلا أحيانا رأي "الرعية" ودورهم.

وبانهيار الاتحاد السوفياتي لم تطرح السلطة الجديدة بديلا سوى نظرية ليبرالية لم تجد في شقيها النظري والعملي صدى واسعا لدى القوقازيين، إلا أنها وجدت تربة صالحة جزئيا في الشق الاقتصادي إذ أن أهالي المنطقة كانوا انفتحوا على علاقات السوق قبل إعلانها رسميا، وذلك بفعل العوامل التي أشرنا إليها آنفا.

وطرح قادة "الثورة الليبرالية" في مطلع التسعينات فكرة مؤداها أن هيكلية الدولة التي ورثتها روسيا عن الاتحاد السوفياتي مرفوضة أصلا لذا دعوا إلى هدمها والبداية من الصفر عمليا، وفي هذا السياق عرض على القوميات أن "تأخذ من السيادة ما استطاعت أن تهضم"، أي أن المركز الفيدرالي (أو ما كان يفترض أن يكون مركزا) تخلى أصلا عن معالجة مشاكل القوقاز وركنها جانبا منكفئا على همومه وصراعاته الداخلية. بل انه زاد في طين المشاكل بلة بإصداره تشريعات غير مدروسة منها قانون إعادة الاعتبار إلى القوميات المضطهدة. وهو لائحة منصفة في شقها النظري إلا أنها لم تراع التحولات التي طرأت على المنطقة". فالإقرار، مثلا، بحق الانغوش في العودة إلى قضاء بريغورودني التابع حاليا لاؤسيتيا الشمالية أدى إلى مجابهة ضارية تتحول بين الحين والحين إلى اشتباكات دموية. فرفع الحيف عن الانغوش كان ينبغي أن يقترن بحل مشاكل الاوسيتيين الذين جرى توطينهم (من دون رغبة منهم أحيانا) في مناطق أرغم سكانها على الرحيل منها.

وإذا كان النزاع بين الأرمن والأذربيجانيين على قره باغ واحدا من العوامل التي أسهمت في زعزعة الدولة السوفيتية فان الصراعات القومية ـ الطائفية في القوقاز غدت تهدد الكيان الروسي علاوة على أنها تهدد وجود المنطقة ذاتها.

ولم تعالج موسكو مشكلة الروس الذين أستوطنوا القوقاز منذ زهاء 200 سنة إلا انهم اخذوا يحسون تدريجيا بوطأة "رد الفعل" على توطينهم هناك، بل وتعرضوا لتهجير قسري من الشيشان ومناطق أخرى.

وفي ظل غياب السياسة الواضحة حيال القوقاز شهدت المنطقة مخاضا عسيرا لإفراز حل يجمع بين الطموح إلى التفرد القومي والتواصل مع روسيا، بين الليبرالية الاقتصادية والروابط العشائرية ـ الاثنية بين الدين والعلمانية.

وتجلى هذا المخاض بأعنف صورة لدى الشيشانيين الذين كانوا أول من بادر إلى إعلان الانفصال عن روسيا من جانب واحد دون أن يطرحوا أي تصور عن شكل وجوهر الدولة التي يطمحون إلى إقامتها، بل انهم لم يوضحوا في البداية ما إذا كان يريدون أصلا دولة كاملة الاستقلال.

ولم تنتبه موسكو إلى خطورة التحرك بل اعتبرته مجرد "فورة" سرعان ما تزول، بل أن بعض القوى فيها تحمس لفكرة إسقاط السلطة "الشيوعية" في غروزني واعتبر جوهر دودايف حليفا لليبراليين.

وبعد مضي ثلاث سنوات قرر الكرملين "استرجاع" ما فقده في القوقاز وتهيأ للرئيس بوريس يلتسين الذي ضرب البرلمان الروسي واستصدر دستورا يخوله صلاحيات مطلقة، انه غدا قادرا على معالجة مشكلة الشيشان بضربة واحدة تقضي على "التمرد" وتبث الرعب في سكان المناطق المجاورة لردعهم عن الاقتداء بالمثال الذي قدمته غروزني.

أي أن الرقاص الروسي تحرك من الليبرالية المطلقة في التعامل مع الشأن القوقازي، إلى العنف المطلق، دون أن تكون هناك محاولة لدرس الوضع ميدانيا ومعالجة الأسباب الموضوعية المحفزة لنزعات الابتعاد عن المركز.

واهم هذه العوامل، في اعتقاد الكثيرين من الخبراء، هو الخلل في المركز والناجم بدوره عن "إصلاحات" أدت في الواقع إلى تدمير البنى الاقتصادية وبعثرة أو نهب ممتلكات الدولة من دون أن تؤدي إلى قيام علاقات سوق سليمة. وغدت المحنة في القوقاز مضاعفة بسبب انحسار الإنتاج الصناعي، بل توقفه في قطاعات كثيرة، والهجرة من الجبال والأرياف إلى المدن وتزايد البطالة في ظل التناقص المستمر لفرص العمل. وأمست الحرب الشيشانية عاملا إضافيا اثقل اقتصاد روسيا ودمر اقتصاد القوقاز خاصة، وان القتال أدى إلى تعطل شبكة المواصلات في المنطقة.

وافرز القوقاز صورة مصغرة، وشائهة للوضع في روسيا تمثلت بتمركز المال في أيادي حفنة ضئيلة وخصخصة الموارد والسلطة وانتشار المافيا. فالمهيمن على أسواق الأسماك والكافيار في داغستان، مثلا، اصبح مرجعا سلطويا أساسيا، والمسيطر على شبكة مصافي وأنابيب النفط في الشيشان له كلمة تعلو، أحيانا، على كلمة الرئيس الشرعي.

إلا أن روسيا الشمالية الغنية بالثروات الطبيعية والتي ما تزال فيها صناعات قادرة على الصمود تبقى افضل حالا من القوقاز بوصفه "الريف" الجنوبي الفقير. وبدلا من البحث عن الحل في معالجة الاقتصاد، شرعت النخب المحلية صياغة مقتربات للحل على أساس قومي في البداية، ثم طرح الدين (الإسلام) كعنصر أساسي في تشخيص الهوية المحلية وكبديل في ظل فراغ أيديولوجي لم يتمكن المركز الفيدرالي من ملئه. وبدلا من البحث عن حلول ديموقراطية جرى توزيع السلطة على أساس "محاصصة" عرقية ـ طائفية، أي أن القوقاز كرر تجربة لم تبرهن الحياة فاعليتها في لبنان.

 وكانت الأصوات الخافتة الداعية إلى حل تتضافر في إطاره الجهود الفيدرالية والإقليمية تقمع بسرعة، وتتهم محليا بـ "خيانة المصالح القومية"، أو تجد صدودا من موسكو التي تعاملت مع الأوضاع بدافع من اعتبارات سياسية آنية. فهي تغاضت عن أحداث الشيشان وشجعت عددا من الأطراف المحركة لها أولا، ثم لجأت إلى البطش السافر، وحينما حل موعد الانتخابات الرئاسية عام 1996 غدا شعار وقف الحرب الضمانة للفوز بكرسي الكرملين فجرى اعتماده فورا ولكن ما أن تحقق الهدف المرحلي حتى تركت موسكو القوقاز في مهب الرياح الداخلية والأعاصير الخارجية. واثر تفاقم الأوضاع مجددا لم يجد المركز الفيدرالي صيغة أخرى غير زج القوات مستغلا تحول الرأي العام وقبوله فكرة خطيرة مفادها أن القوقاز "لا يفهم لغة سوى القوة".

وزاد من خطورة التخبط تعدد مراكز القوة والقرار في العاصمة الفيدرالية وغياب الرؤية الواضحة للأهداف والغايات، وتغليب العناصر التكتيكية على الثوابت الاستراتيجية. وارتكبت موسكو خطيئة التبسيط وحصر المشكلة في "الغلو الديني" أو "التطرف القومي" مما عنى تجاهل أسباب وعوامل أخرى قد تكون أهم واخطر.

 

العامل الخارجي

عد تفكيك الاتحاد السوفياتي وانتهاء دوره كواحدة من القوتين الأعظم. ولخص زبيغنيو بزيجينسكي الهدف الجيوسياسي لواشنطن بمعادلة تنص على أن روسيا، بعد انحسار دورها عالميا ينبغي أن تكف عن كونها قوة إقليمية، وبالتالي أن تفقد نفوذها في دول الجوار، تمهيدا لتحقيق غرض آخر هو تحجيم أو حتى إلغاء موقفها كواحدة من القوى الكبرى التي تملك سلاحا نوويا.

وبعد أن تراجعت روسيا (أو أرغمت على التراجع) من مناطق عديدة في العالم بدأ الطوق يضيق من حولها بانتماء دول أوربا الشرقية إلى حلف الأطلسي وإعلان احتمال انتساب بلدان البلطيق إلى الحلف وفي المنطقة التي نحن بصددها سعى الغرب إلى تشجيع محاولات الابتعاد عن روسيا، ونجح عمليا في دفع جورجيا إلى إعلان نيتها الانضمام إلى الأطلسي واحتمال طلب قوات دولية للمرابطة في منطقة النزاع الابخازي مما يعني إلغاء دور روسيا التي تقوم بمهمات حفظ السلام هناك، وحرمان موسكو من مرتكزات مهمة على ساحل البحر الأسود.

وفي أذربيجان بدأ الرئيس حيدر علييف اتباع سياسة "الانسحاب التدريجي" بتقليص علاقاته السياسية مع روسيا واسرة الدول المستقلة والانفتاح على الغرب ومنح شركاته النفطية امتيازات واسعة لاستثمار النفط في بحر قزوين.

وحتى أرمينيا التي كانت حليفا تقليديا لموسكو بفعل مخاوفها من الجارين التركي والأذربيجاني، أخذت تعيد النظر في مواقفها وحساباتها في ضوء ضعف روسيا وعجزها عن تقديم مساعدات عسكرية وسياسية ومادية ليريفان.

وبعد قضم "ما وراء القوقاز" يغدو منطقيا أن تتجه الأنظار إلى مناطق شمال القوقاز التي تعد الخاصرة الضعيفة لروسيا وباختراقها تفقد موسكو منافذها على البحار الدافئة وسيطرتها على حقول النفط وشبكات الأنابيب المارة عبر القوقاز وبحر قزوين.

واعترف الجنرال ليونيد ايفاشوف، مسؤول العلاقات الدولية في وزارة الدفاع الروسية بان أحداث القوقاز تجري ضمن "لعبة كبرى ترتبط بنفط قزوين والوضع الجيوسياسي للمنطقة وطموح دول معينة إلى الهيمنة عليها". ورغم انه لم يحدد هذه الدول فمن الواضح أن المقصود الولايات المتحدة الطامحة إلى تكريس وضعها كقطب وحيد في العالم، وتركيا التي تطرح في صورة جديدة مخطط إنشاء الدولة الطورانية، إلى جانب أنها تريد أن ترتبط بها شبكات النفط والغاز في المنطقة للانتفاع من مواردها أولا ولجعلها شرايين حساسة يمكن توظيفها سياسيا للضغط والمساومة. وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن الانفجار الأخير في القوقاز جاء بعد اعتقال عبد الله اوجلان وتحجيم دور وفاعلية حزب العمال الكردستاني، وبالتالي فان انقره صارت تملك ورقة رابحة في المساومة على مسارات الأنابيب والادعاء بان الطرق في تركيا أصبحت امنة خلافا للمسارات القوقازية.

والقوقاز، إلى ذلك، ملتقى طرق مهم بين آسيا وأوربا والشرق الأوسط ويسكن المناطق الممتدة بين البحرين، الأسود وقزوين، زهاء 20 مليون نسمة منهم حوالي 11 ـ 12 مليون مسلم و8 ـ 9 ملايين مسيحي، ولذا فان إضفاء صبغة دينية على الصراع الدائر هناك يعني إثارة مجابهة واسعة بين الإسلام والمسيحية الأرثوذكسية، وهذه واحدة من الغايات التي يطمح إلى تحقيقها عدد من واضعي الاستراتيجية في الغرب. ولو حصلت هذه المجابهة فأنها ستؤدي إلى توتر في جميع أنحاء روسيا حيث يشكل المسلمون 13 في المئة من السكان، إلى جانب أنها ستكون عاملا يقوض العلاقات بين موسكو والدول الإسلامية وخاصة العربية، وتستغل القوى الموالية للصهيونية داخل روسيا هذا العامل للدفع في اتجاه تعزيز العلاقات مع تركيا وإسرائيل بحجة "التعاون الأمني ضد الأصوليين الإسلاميين".

وقد يغدو القوقاز منطلقا لعملية "التمزيق الثاني" للإمبراطورية بعد أن تسنى تفكيك الاتحاد السوفياتي. ولكن هل سيكون ذلك لصالح شعوب المنطقة؟ واضح أن هناك مبررات كثيرة للتمرد على سياسة الترويس القسري وللاستياء من "الإصلاحات" الكارثية والرفض الكامل لاستخدام القوة في معالجة المشاكل القومية. إلا أن أي دولة جديدة تنشأ في المنطقة ستغدو مضطرة للاحتماء بـ"مظلة" دولية أو إقليمية تحجم استقلالها الفعلي، وتقطع روابطها التاريخية مع روسيا حيث يوجد شتات قوقازي كبير. وانسحاب روسيا من القوقاز قد يؤدي إلى انفلات أمني خطير وتسلط المافيا المحلية على الحكم والأخطر من ذلك أن "الفراغ" الذي قد ينشأ اثر قطع الصلات مع الدولة الفيدرالية سيؤدي إلى طرح مطامع متبادلة في الأراضي "التاريخية" وخلق معضلات جديدة تؤدي بدورها إلى اشتباكات بل حروب بفعل ثارات " قديمة بين الشركس والقره تشاي، بين الانغوش والاوسيتيين، بين القبرده والبلقار… الخ.

بيد أن مخاطر الانفصال لا ينبغي أن تعني الرضوخ للأمر الواقع والاستكانة للسياسة الطائشة التي تتبعها موسكو في عموم روسيا وحيال القوقاز، أو الكف عن المطالبة بالحقوق القومية.ويبحث عدد من المفكرين القوقازيين عن صيغة مقبولة لتطوير العلاقات الفيدرالية من دون تقطيعها، وإيجاد معادلة للخروج بالمنطقة من المأزق الراهن.

وإذا لم يتسن للجانبين، القوقازي والفيدرالي، العثور على الحل الوسط فان انسلاخ القوقاز سيكون بداية مفاعل متسلسل يؤدي إلى انهيار روسيا كدولة وانسلاخ مناطق الشرق الأقصى وانضمامها إلى اليابان والصين، وفصل كالينينغراد والحاقها مجددا بألمانيا … الخ.

والى ذلك فان الانفصال، أو حتى استمرار التوتر في القوقاز، سيعني استفحال التآكل الداخلي والضمور الاقتصادي والثقافي العلمي. وفي ظل هذا السيناريو قد تبقى روسيا موحدة شكليا لكن المركز سيضطر إلى تحويل صلاحيات متزايدة إلى الأطراف لمنع انفصالها. والمقاطعات بدورها ستعجز عن معالجة مشاكلها الداخلية من دون وجود صلات وثيقة مع المناطق الأخرى من الفيدرالية، ويكون ذلك سيناريو آخر لتفكيك الدولة.

إن ما يجري في القوقاز هو تجسيد مكثف للازمة الخانقة التي تعاني منها روسيا على جميع الصعد، وحلّ مشاكل المنطقة متعذر، بل مستحيل، إذا لم ترتب الأوضاع على المستوى الفيدرالي. وبخلاف ذلك فان روسيا ستفقد خاصرتها الضعيفة وعندئذ لن يصمد البدن طويلا.

*** *** ***

ضياع الهوية - موقع روسيا في العالم الجديد

بقلم الدكتور جلال الماشطة

كثيرون من الكتاب وخبراء السياسة يتحدثون عن "عالم ما بعد 11 أيلول"، معتبرين الهجوم على نيويورك وواشنطن حداً فاصلاً بين حالين في العلاقات الدولية، إلاّ أن ملامح التوازنات والاصطفافات الجديدة كانت، في واقع الامر، في طور المخاض ولم يصبح هدم برجي التجارة العالمية سوى ولادة " قيصرية " أفرزت الكيان الذي كان في حالة جنينية.

وأدى انهيار نظام القطبين وحلول ما أسماه فرانسيس فوكوياما نهاية التاريخ إلى بروز ظاهرة الواحدية الأيديولوجية والقطبية. وفشلت محاولات لإقامة توازن جديد يعتمد نظرية تعدد الأقطاب التي بشر بها في روسيا يفغيني بريماكوف وحظيت بدعم أوروبي وصيني.

وخلال المرحلة التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي علقت آمال على قيام أقطاب متعددة لكي يعود بعض التوازن إلى العلاقات الدولية ولكن ما حصل أ ن أوروبا عجزت عن الاضطلاع بدور مستقل بفعل الخلافات الداخلية وانشغال ألمانيا بـ"التهام" الجزء الشرقي وانفجار مشكلة البلقان التي عولجت بأساليب فرضت واشنطن الكثير منها. لم تصبح اليابان مارداً اقتصادياً منافساً للولايات المتحدة كما كان متوقعاً بل أن الانهيار الاقتصادي المالي فيها أظهر أن ضعفها عسكرياً وموقعها المنزوي جغرافياً من العوامل التي لم تساعد على جعلها نداً لأمريكا.

وظلت الصين قارة" مكتفية بذاتها" وانحصر اهتمامها بالتنمية الداخلية وتطوير علاقاتها ونفوذها في المناطق الآسيوية القريبة ورغم كونها عضواً دائماً في مجلس الأمن إلاّ إنها لم تصبح لاعباً أساسياً في العديد من القضايا الدولية والإقليمية.

وانكفأت روسيا على مشاكلها الداخلية وغدا غياب مركزية القرار وتعدد مراكز القوى وتشتت الإرادة من العوامل التي مهدت لتحولها من قوة عالمية إلى دولة إقليمية محدودة النفوذ. بيد أن هذه المراكز الدولية (ربما باستثناء روسيا في مستهل القرن الواحد والعشرين) لم تخف طموحها إلى أن تغدو قطباً إلى جوار الولايات المتحدة وان لم تكن موازية لها.

ولتحقيق هذا الهدف حفزت أوروبا عمليات التكامل التي قد تسفر عن ظهور ما سماه لينين "الولايات المتحدة الأوروبية". وهي تصوغ سياسة خارجية موحدة وتعمل على إنشاء قوات مسلحة. وقد أصدرت "اليورو" الذي غدا منافساً للدولار كعملة عالمية. ويتوقع أن تنجز العمليات التكاملية في غضون 10-15 سنة إلاً أن مدير معهد الولايات المتحدة وكندا سيرغي روغوف يحذر من الوقوع في أوهام عن احتراب أمريكي- أوروبي. ويرى أن تطابق وتداخل المصالح الاقتصادية والسياسية سوف يخفف من حدة الخلافات رغم انه لن يلغيها.

 وتعمل اليابان على إعادة بناء مجدها الاقتصادي وغزو أسواق جديدة والخروج من إسار التقييدات المفروضة على برامجها العسكرية. وتسير الصين بوتائر حثيثة نحو بناء قوة نووية تدعم جبروتها الاقتصادي المتزايد بوتائر تفوق وتائر النمو في غالبية الدول الصناعية المتطورة مما يؤهلها لاحتلال موقع أساسي في الحياة الدولية لاحقاً.

وحدها روسيا شذت عن سائر الأقطاب المحتملين رغم إنها تمتلك موضوعياً مقومات تؤهلها لان تكون قوة مؤثرة في الموازنات العالمية، إلاّ أن مجمل سياساتها وأساليب أدائها في الحقبة الماضية تضعها على منحدر قد يؤدي إلى تفككها أو على الأقل تهميش دورها.

على هذه الخلفية عملت الولايات المتحدة الأمريكية على إرساء صرح علاقات جديدة تكرس "نهاية التاريخ" والواحدية القطبية". واتبعت لهذا الغرض أساليب عدة بينها اعتماد نظرية وضعها زبيغنيو بزيجينسكي ومفادها أن الأطراف الأساسية في العلاقات الدولية يجب أن تصطرع في " نقاط ساخنة" مثل الشرق الأوسط وأفغانستان والقوقاز والبلقان وسواها من الأماكن البعيدة عن الولايات المتحدة بشرط أن تشرف الأخيرة على" إدارة النزاعات" وفق مصالحها مما يؤدي إلى مشاغلة الخصوم المحتملين وإضعافهم وخلق علاقات "هرمية" تضع واشنطن في قمة "المليار الذهبي" الذي يضم الدول الغنية أي أن الولايات المتحدة أرادت تكريس انفرادها في قمة هرم السلطة العالمية لكنها كانت في الوقت ذاته بحاجة إلى "حلفاء ضعاف" لكي تواجه وإياهم المليارات الأربعة المتبقية من دول "الجنوب" الفقيرة. وكان البيت الأبيض يرى أن لديه كل مسوغات التربع على "عرش العالم" فهو يمتلك القوة العسكرية الضارية والجبروت الاقتصادي وله إيديولوجية متكاملة تطرح (أو تفرض) على الأخريين باسم العولمة ولكن واشنطن كانت تشعر أن الزمن لا يعمل لصالحها، فهو قد يوفر للأوربيين والصينيين واليابانيين والروس فرصة لاستجماع القوى والتطلع الى دور المنافس أو حتى الشريك في تصريف شؤون العالم والتصرف بثرواته، وهو ما لا ترضاه الولايات المتحدة.

ومن اجل الحفاظ على "الواحدية" في هياكل السلطة الدولية وجدت واشنطن أنها بحاجة إلى الانفكاك من "أيسار" القواعد والأحكام التي نشأت خلال القرن العشرين وكسر الأطر التي فرضها قيام هيئة الأمم المتحدة ضمن توازنات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي هذا السياق جرت خلال التسعينيات "تجارب ميدانية" لاختبار إمكانيات اتخاذ قرارات تخرج عن المرجعيات الدولية أو حتى تكون مضادة لها، ومثال ذلك ما حدث في البلقان والعراق. وقامت إسرائيل باختبارات مماثلة على نطاق أضيق حينما أعلنت جهاراً إنها ليست في وارد تطبيق قرارات دولية أو استقبال بعثات الأمم المتحدة حتى ولو كان قرار إيفادها مقترناً بموافقة جماعية من كل أعضاء مجلس الأمن الدولي. وهذا التجارب، الشمولية والإقليمية والموضعية، بينت "رخاوة" ردود الفعل على التجاوزات الأمريكية (والإسرائيلية) إلا أن الولايات المتحدة ظلت بحاجة إلى حجة أو ذريعة للانتقال "شرعياً" إلى نمط جديد من العلاقات الدولية.

في هذا السياق فان أحداث 11 أيلول (سبتمبر) كانت "منآً" على السياسة الأمريكية ولو لم تحصل لكان ثمة حاجة إلى ابتداعها. وحتى إذا لم يكن لأي من المراجع السلطوية أو النخبوية في الولايات المتحدة ضلع في التخطيط للعمليات الهجومية على نيويورك وواشنطن أو التغاضي عن معلومات كان يمكن أن تحبط العمليات قبل تنفيذها فان واشنطن وظفت، بالتأكيد، الغارات الإرهابية لتنفيذ مشاريع كانت جاهزة وبدأ تطبيق جزء منها عملياً.

وهيأ هجوم 11 أيلول (سبتمبر) الأرضية اللازمة التي طرحها الرئيس جورج بوش في صيغته الشهيرة "من ليس منا فهو مع الإرهاب" وكانت تلك دعوة للاصطفاف والتماسك وإعلان حرب في الوقت ذاته0 فهو عرض عملياً على دول "المليار الذهبي" الانتساب إلى تحالف تتزعمه أمريكا ويضم الدول الغنية للاتفاق على إعادة اقتسام العالم وفق قواعد تصفي ما تبقى من اتفاقات سابقة ( سايكس بيكو، يالطا، ميثاق سان فرنسيسكو) وتقيم هيكلية جديدة للعلاقات الدولية تلغي ثوابت كثيرة في مقدمتها الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق الأمم في تقرير المصير وسائر "الترهات" التي كان الغرب استثمرها كواجهة في صراعات القرن العشرين وتخلي عنها الآن لصالح منطلقات تقوم على القسر وفرض "القيم الحضارية" على الآخرين ونهب ثرواتهم باعتبارها "ملكاً للبشرية" والعودة إلى السياسة الكولونيالية السافرة.

من جهة أخرى لم تكن دعوة بوش عرضا بل غدت فرضاً يجب اتباعه والمخالف مهدد بان يصنف ضمن قائمة الإرهابيين أو الداعمين للإرهاب وهي قائمة بدأت باسامة بن لادن و"طالبان" واتسعت لتشمل "محور الشر" ثم تضخمت لتضم 62 دولة اعتبرها الرئيس بوش ضالعة بصورة أو أخرى في تأييد الإرهاب أو على الأقل عدم الوقوف مع أمريكا وهذه بحد ذاتها "جريمة نكراء" يعاقب مقترفها حتى وان لم تثبت إدانته.

على هذه الخلفية وتحاشياً للوقوع تحت رحمة إعصار الغضب الأمريكي رأت دول كثيرة أن إحناء الرأس طلباً للسلامة هو الحل الأمثل، وأيد 70 بلداً ما عرف بالائتلاف المناوئ للإرهاب لشن حملة على أفغانستان وكان بين تلك البلدان دول عربية وإسلامية حاولت احتواء العاصفة ولكنها في خاتمة المطاف أمست في مقدمة ضحاياها.

وبقدر ما تعلق الأمر بـ"الكبار" فأن الحملة الأمريكية حظيت بتأييد متفاوت القوة من الصين واليابان والدول الأوروبية، وان كان ذلك التأييد اقترن بتحفظات أبقت هوامش للمناورة والتراجع بعد أن تهدأ السورة الأمريكية. واختارت روسيا مرة أخرى أن تغرد خارج هذا السرب وأصبحت أول دولة تؤيد الولايات المتحدة الأمريكية من دون تحفظ وأخذت تقدم القرابين تباعاً على مذبح التقارب مع واشنطن. وبدا أن الكرملين احرق كل الجسور وقرر تحويل وجهة السفينة الروسية إلى موانئ أمريكية حتى قبل التأكد من إنها ستجد هناك رصيفاً ترسو عنده.

وقد بدأ سلوك الرئيس فلاديمير بوتين خالياً من المنطق تماماً إلا إن المقربين من الكرملين يسوقون عدداً من الذرائع لتبريره، فهم في الكواليس يتحدثون صراحة عن انتهاء الدور العالمي لروسيا مؤكدين أن حصتها في الاقتصاد العالمي لا تتعدى 1-1،5 في المائة في حين أن للولايات المتحدة ربع الناتج الإجمالي في العالم.

وهم يشيرون إلى أن النفقات العسكرية الأمريكية بلغت زهاء 360 مليار دولار سنوياً أي ما يعادل ستة أضعاف كل النفقات العسكرية والمدنية الروسية. ولا يتعدى ما تنفقه روسيا على أغراض العلم والتعليم، أي الحقول التي ترسي أسس التطور اللاحق من 0،003 (ثلاثة في الألف) في المائة من مجموع ما يخصص لهذه الأغراض في العالم. وبناء على هذه وسواها في الأرقام التي تبين الدرك الذي انحدرت إليه روسيا في السنوات العشر الأخيرة، يقول أنصار فكرة "الانحناء أمام العاصفة" أن على موسكو القبول بدور إقليمي محدود تفرده لها واشنطن مقابل الحصول على تكنولوجيات واستثمارات تقدر بـ 200 –400 مليار دولار لاستنهاض الاقتصاد الروسي. ويرى هؤلاء أن هذه الأموال والتكنولوجية موجودة لدى الولايات المتحدة أساساً ولذا يدعون إلى إقناعها بتغيير استراتيجيتها النفطية والتحول من الاعتماد على نفط الخليج إلى نفط شرق سيبيريا وحوض قزوين بكل ما يترتب على ذلك من علاقات استراتيجية تراكمية بين روسيا والولايات المتحدة.

وقد أثار هذا الطرح اعتراض عدد من الساسة والخبراء وبينهم الفريق أول ليونيد ايفاشوف الذي نبّه إلى أن روسيا المنهكة اقتصادياً بفعل "الإصلاحات" ما برحت تملك 30 في المائة من مجموع الموارد (النفط، الغاز، الخشب، الماء الخ) العالمية. وهذه الثروة الهائلة بحاجة فعلاً إلى توظيف أموال لاستخراجها، إلا أن بوسع روسيا الحصول على الاعتمادات اللازمة على أسس المنفعة المتبادلة، ومن دون اشتراطات سياسية كالتي تفرضها الولايات المتحدة. وهذا يعني أن على موسكو إيجاد مصادر استثمارية بديلة في أوروبا واليابان وبلدان الاوبك. (ونشير هنا استطراداً إلى أن الأموال العربية "الهاربة" من أمريكا يمكن أن تستثمر جزئياً في روسيا)

 وإلى جانب الاعتبارات الاقتصادية ساق أنصار التقارب مع الولايات المتحدة ذرائع أخرى منها أن الحرب في أفغانستان تعني تخليص روسيا من بؤرة تؤدي وتمون وتدرب الانفصاليين الشيشانيين وأنصار الحركات الإسلامية التي يمكن أن تزعزع أنظمة موالية لموسكو في آسيا الوسطى أو حتى تهدد بتفجير صراعات داخل روسيا ذاتها (القوقاز، تترستان، بشكيريا) وهم يرون أن مكاسب روسيا تفوق الأثمان التي سددتهاعند انضمامها إلى "الائتلاف".

وأخيرا يورد دعاة السير في الركب الأمريكي فكرة مفادها أن الحرب التي تقودها واشنطن ستؤدي إلى إعادة تقسيم مناطق النفوذ وهم يفترضون أن النصر فيها محتوم، ويستنتجون من ذلك أن الاصطفاف إلى جانب الطرف الرابح (الأمريكي) سيعود بغنائم أو على الأقل لن تترتب عليه الخسائر التي ستدفعها الجهات المتخلفة عن مواكبة واشنطن.

وفي هذا الصدد أشار الزعيم الشيوعي غينادي زيوغانوف إلى أن روسيا ترتكب افدح خطأ بانضمامها إلى ما وصفه بـ"نادي اللصوص". وأوضح أن روسيا لن تحصل على مكاسب بل ستقع بين كفي الرحى في حمأة الصراع بين القوى المتنفذة في "النادي" إياه وستخرج من المعركة خاسرة الخيط والعصفور، إضافة إلى تأكيده أن "اللصوص" سيحصدون خيبة تاريخية.

ولم يلتفت الكرملين إلى حجج المعترضين على سياسة التنازلات المجانية وقدم سلسلة من "الهبات" الاستراتيجية والتكتيكية، بدأت بإعلان المندوب الروسي الدائم في الأمم المتحدة سيرغي لافروف أن واشنطن لا تحتاج إلى تفويض من مجلس الأمن الدولي للقيام بعملية ضد أفغانستان باعتبار أنها تمارس حقاً مشروعاً في الدفاع عن النفس.

 وبذا فان موسكو وافقت طوعاً على إلغاء واحدة من أهم الركائز التي قام عليها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، والمتمثلة في أن استخدام القوة في العلاقات الدولية محظور إذا لم يقترن بموافقة مجلس الأمن.

ولو كانت الولايات المتحدة طلبت من المجلس توفير غطاء شرعي لحملتها لحصلت بالتأكيد على موافقة جماعية من الدول الدائمة العضوية، إلاً أن مثل هذا الإجراء الشكلي كان سيمنع الولايات المتحدة من تسجيل سابقة خطيرة تعني الإلغاء الفعلي لدور مجلس الأمن وميزة حق النقض (الفيتو) الممنوح لخمس دول بينها روسيا نفسها التي وقعت عملياً صكاً بالتخلي عن موقعها كدولة كبرى.

ولأول مره في تاريخ العلاقات بين موسكو وواشنطن سمحت روسيا للطائرات الأمريكية بالمرور عبر أجوائها وقدمت للأمريكيين معلومات استخبارية وتسهيلات لوجيستية كبرى وأعطت الضوء الأخضر لإقامة قواعد ومراكز عسكرية للولايات المتحدة في آسيا الوسطى.

واستمر مسلسل التنازلات بالانسحاب الطوعي من قاعدتي لورديس في كوبا وكامران في فيتنام، وهو إجراء قالت موسكو أنها اتخذته بسبب افتقارها إلى المال الكافي للإنفاق على وجود عسكري في الخارج في حين انه كان في الواقع دليلاً أخر على تراجع روسيا عن موقعها كقوى دولية وفي الوقت ذاته كان "عربون صداقة" يمنح للولايات المتحدة من دون مطالبتها بإجراءات مماثلة كتصفية قاعدة التجسس، المماثلة للورديس، في النرويج، أو على الأقل المطالبة بتعويض مالي كانت واشنطن مستعدة بالتأكيد لدفعه. ولكن يبدو أن صناع القرار في موسكو أرادوا إثبات "حسن النية" الذي تقابله واشنطن دائماً بالتجاهل بل والازدراء. فالسياسة الأمريكية تقوم على احترام القوة وليس على الأخلاق وهذا ما برهنته تجربة ميخائيل غورباتشوف. ولاحقاً بوريس يلتسين وأخيراً فلاديمير بوتين.

هذه الحقيقة أكدها "الامتنان" الأمريكي والذي تجسد بإعلان واشنطن انسحابها من جانب واحد من معاهدة "أي. بي. أم" للصواريخ المضادة للصواريخ والتي ظلت موسكو طوال سنوات تصر على أنها الحجر الأساس في عمارة الأمن الاستراتيجي في العالم، بل أن بوتين هدد بالانسحاب من زهاء 30 اتفاقية تتعلق بنزع السلاح إذا ألغت واشنطن معاهدة "أي. بي. أم" ولكن الكرملين ادخل تعديلاً جذرياً على موقفه الرسمي، ووصف وزير الدفاع سيرغي ايفانوف المعاهدة بأنها "من مخلفات الحرب الباردة" ووافقت موسكو على أن تبتلع الحنظل وتقبل بانكماش دورها كقوة استراتيجية. وقدم الأمريكيون المزيد من "آيات العرفان" لروسيا بإصرارهم على تجاهل اعتراضاتها في شأن توسيع الحلف الأطلسي. وبعد أن اصبح انضمام جمهوريات البلطيق الثلاث (لاتفيا ولتوانيا واستوانيا) إلى الحلف أمراً مسلماً به، اخذ الأمريكيون يتحدثون صراحة عن رغبتهم في رؤية اوكرانيا عضواً في الأطلسي ما يعني قطع صلات روسيا بثاني اكبر الجمهوريات السوفيتية السابقة وواحدة من أهم الجسور التي تربطها بأوربا. ومن جانبها "تبرعت" موسكو بتقطيع أواصر تحالفها مع بيلاروسيا التي ظلت متمسكة بموقف مناوئ للأطلسي، مما يعني أن روسيا تساهم في إنشاء "مناطق عازلة" من حولها ووضع طائرات وقنابل الحلف الذي تسيّره الولايات المتحدة على أبواب روسيا.

وبذا يكتمل طوق الحصار الذي كان قد بدأ إنشاؤه (بمساعدة روسية!) في آسيا الوسطى. وفي بداية عمليات التهيئة للحرب ضد أفغانستان كان وزير الدفاع الروسي قد قال انه "لا يتخيل حتى في كابوس مزعج" أن يتخذ الأمريكيون من جمهوريات آسيا الوسطى منطلقاً لتحرك عسكري. إلا أن الرئيس بوتين "عدل" الموقف بإعلانه أن هذه الجمهوريات أصبحت دولاً مستقلة ويحق لكل منها اتخاذ قرارها السيادي.

وأقسم الأمريكيون إيماناً غليظة بان وجودهم العسكري في المنطقة سينتهي بانتهاء "الحرب على الإرهاب"، وهو تعبير فسره الروس على انه يعني الحملة الأفغانية. ولكن الولايات المتحدة تفهمه بصورة أخرى"فالحرب على الإرهاب" لانهاية لها عملياً وبالتالي فان على روسيا أن ترضخ للأمر الواقع وتقبل بـ"جيرة" جديدة. وقد أقامت الولايات المتحدة اكبر قاعدة عسكرية في "ماناس" بقرغيرستان بالإضافة إلى مرتكزات في اوزبكستان وطاجكستان وكازاخستان وبدأت نشاطاً واسعاً لترسيخ مواقعها السياسية في "الحديقة الخلفية" لروسيا وقد أكدت صحيفة "ايكونوميست" البريطانية أن "أمريكا صارت الجار الثالث لجمهوريات آسيا الوسطى" بعد روسيا والصين وأصبحت قواعدها في المنطقة بمثابة "أبراج مراقبة وسيطرة" على هذه المنطقة البالغة الأهمية، خصوصاً في ضوء احتمالات المجابهة القادمة بين الولايات المتحدة والتنين الصيني.

ولن يكون من السهل على روسيا المثقلة بمشاكلها الاقتصادية والصراعات السياسية الداخلية أن تنافس الولايات المتحدة في تقديم التكنولوجيات والقروض والغطاء السياسي للأنظمة الحاكمة في جمهوريات آسيا الوسطى وهي أنظمة توصف بأنها استبدادية، لكن الولايات المتحدة لم تعد تهتم بذلك باعتبار أن "عين الرضى عن كل عيب كليلة" ومحاربة الإرهاب هي ستار مهلهل لأغراض أمريكية مكشوفة في آسيا الوسطى، وهي تتمثل إضافة إلى الموقع الاستراتيجي، في السيطرة على مكامن النفط والغاز في حوض قزوين ووضع اليد على شبكة المواصلات والنقل هناك، وذلك ضمن الاستراتيجية الأمريكية الهادفة إلى إيجاد بدائل عن النفط العربي. وفي هذا السياق ثمة توقعات بان تبدأ إقامة أنابيب تمر عبر أفغانستان إلى موانئ باكستان أولاً ثم الهند لاحقاً وذلك في إطار مشروع كانت شركة "يونوكال" الأمريكية بدأت بحثه مع حكومة "طالبان" ولكنه تعطل وقتياً لأسباب سياسية.

وبعد أن رسخت الولايات المتحدة مواقعها في آسيا الوسطى وجهت اهتمامها إلى جنوب القوقاز وعززت تحالفها مع نظام الرئيس الجورجي إدوارد شيفارنادزه الذي كان اثبت ولاءه لواشنطن أبان إدارته السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي. ووصل إلى هذه الجمهورية عسكريون أمريكيون بحجة " تدريب" الجيش الجورجي بيد انهم صاروا في الواقع نواة لوجود دائم في هذه المنطقة الحساسة في خاصرة روسيا وأخذت جورجيا تلعب دوراً ملحوظاً في إطار محاولات أمريكية لإزاحة روسيا من القوقاز وإبعادها عن مكامن النفط ومنع استخدام أنابيبها لنقل النفط من حوض قزوين إلى البحر الأسود، وغدا الشروع في مد خط باكو- تبليسي- جيهان لنقل النفط من أذربيجان إلى الموانئ التركية خطوة بالغة الأهمية لعزل روسيا عن عمليات النقل وتحجيم نفوذها في المنطقة.

ويرى محللون روس أن الولايات المتحدة استثمرت التوتر الناجم عن الحرب الشيشانية لتعطيل مشاريع تفعيل خط الأنابيب المار من باكو الى نوفوروسيسك عبر الأراضي الروسية. واتخذت واشنطن من جورجيا "ذراعاً" لتحريك الشوكة الشيشانية في الجسد الروسي بين الحين والحين بهدف الضغط على موسكو.

وقد خابت آمال عقدها الكرملين على تغيير في موقف البيت الأبيض من النزاع الشيشاني لجهة تأييد روسيا في حربها القوقازية "مكافأة" لها على دعمها الحملة الأمريكية في أفغانستان. واقتصرت واشنطن في المراحل الأولى التي كانت محتاجة فيها إلى مؤازرة روسيا على التزام "الحياد" ثم رفضت طلب موسكو إطلاق صفة "الإرهابيين" على المقاومين الشيشانيين، بل إنها دعت مجدداً إلى حل سياسي ووجهت انتقادات إلى السياسة الروسية في القوقاز.

من جهة أخرى فات وسائل الإعلام الروسية وهي في غالبيتها غربية الهوى ويسيطر اللوبي الصهيوني على الكثير منها، استثمرت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وعقدت مقارنة " ثلاثية" بين القائمين بالهجوم على نيويورك وواشنطن والمقاومة الشيشانية و"الإرهابيين "الفلسطينيين في محاولة لوضع علامة مساواة بين هذه الأطراف وبالتالي استعداء المواطن الروسي على العرب والمسلمين والإيحاء له بحتمية "التحالف" مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.

ولم يقتصر الأمر على وسائل الإعلام بل لوحظ تحول نحو الأسوأ في السياسة الرسمية. وشرعت موسكو بـ"تليين" مواقفها من إسرائيل والتغاضي عما ترتكبه من أعمال وحشية بينما شددت لهجتها المنددة بـ"الإرهاب" الفلسطيني. واخذ قادة الأحزاب اليمينية التي تسيطر على أهم المفاصل في أجهزة السلطة يدعون جهاراً إلى تقليص أو حتى وقف التعامل مع المسلمين والعرب "غير المتحضرين" وقد أيد الكثيرون من هؤلاء الرئيس الأمريكي بوش في دعوته إلى مقاطعة ومحاصرة "محور الشر" رغم أن لروسيا علاقات وثيقة مع كل من إيران والعراق وكوريا الشمالية.

ورغم أن الكرملين رفض رسمياً إقامة مثل هذه "المحاور" ولم يؤيد مطالب واشنطن في وقف التعامل مع إيران وكوريا وعارض مخططات ضرب العراق، فان المراقبين لاحظوا أن الموقف الروسي على كل هذه الاتجاهات كان "يتراخى" مع ازدياد التشدد الأمريكي.

وقد لخص أحد مستشاري الكرملين هذا الموقف بالمعادلة التالية "نحن حريصون على علاقاتنا الاقتصادية مع طهران وبغداد وبيونغ يانغ، ولكن إذا أصبحت هذه العلاقة مصدر خطر على صلاتنا مع واشنطن فإننا سنضع مصالحنا الاستراتيجية العليا فوق الاعتبارات الأخرى". وهذا التفسير المشوّه "للمصالح العليا" هو مفتاح أساسي لفهم السياسية الخارجية الروسية في عالم ما بعد 11/9، وهي التي كرست موقع روسيا كدولة إقليمية محدودة النفوذ ومن دون هوية واضحة. وهذه السياسة لم تحقق أي مكاسب حتى على الصعيد التكتيكي لكنها أدت إلى هزائم وانكسارات استراتيجية كبرى:

- فقد انحسر دور روسيا كقوة عالمية وأخذت تتحول من قطب مواز للولايات المتحدة في القوة النووية إلى مجرد عضو في النادي النووي، وثمة في الأفق ما يشير إلى أن واشنطن لن تكف عن بذل مساع لتقليص القدرة الهجومية والدفاعية الروسية.

- وبانكماش دور الأمم المتحدة أضاعت موسكو المكاسب التي حققتها بفضل انتصارها في الحرب العالمية الثانية، ومن أهمها الحصول على حق النقض (الفيتو) الذي ضمن لها على امتداد عقود، توازناً سياسياً مع القطب الأعظم وغدت موافقة روسيا على التحجيم أو التعطيل الفعلي لدور مجلس الأمن إقراراً بدور ثانوي على الصعيد الدولي.

- إن قبول روسيا عضواً ثامناً في محفل الدول الصناعية كان إجراءً شكلياً صرفاً إذ أن موسكو ظلت في الواقع مستبعدة عن القرارات الاقتصادية التي يصدرها "نادي الكبار" مما يجعل من مشاركتها في مناقشة الشؤون السياسية أمراً اعتبارياً فقط. وحتى هذا "المكسب" عادلته خطوات غير ودية حيال موسكو في مقدمتها توسيع حلف الأطلسي وجعل قواعده على حدود روسيا من الشمال والغرب والجنوب.

- كان يمكن لروسيا الاورآسيوية أن تلعب بعد 11/9 دوراً مهماً كمعبر بين القارات وجسر بين الحضارات وتكون وسيطاً فاعلاً، إلاّ أنها دفعت أو اندفعت إلى فخ العداء للمسلمين واستعدائهم، وهي بذلك حرمت نفسها من مكاسب مهمة على صعيد العلاقات الخارجية وغامرت بخوض نزاعات مع دول جارة، والأهم من هذا وذاك أن موسكو سمحت بتأجيج احترابات داخلية بين الأرثوذكسية والإسلام، وهما الكتلتان الدينيتان الأساسيتان في روسيا.

- إن التورط في دعم اطروحات عن "محاور الشر" سيؤدي إلى فقدان روسيا أسواقاً ومصادر خامات فائقة الأهمية، ناهيك بالعلاقات السياسية التقليدية. هذا علماً بان أي موقع تبرحه روسيا لن يبقى شاغراً وسوف "تملأه" الولايات المتحدة بسرعة، وهذا ينطبق على العراق وإيران وكوريا وغيرها.

- بدلا من استثمار الثروات الطبيعية والبشرية الهائلة والإفادة من الموقع الجغرافي المتميز آثرت روسيا أن تستجدي أموالا مقرونة بشروط سياسية جائرة مما يكرس تحولها إلى مصّدر للمواد الخام ومستهلك للسلع الصناعية، وبالتالي يعود بها من مواقع الدول المتقدمة إلى صفوف البلدان التابعة.

***

استهل الرئيس فلاديمير بوتين عهده بشعارات وخطوات بدت نقيضا كاملا لسياسة سلفه بوريس يلتسن. وأوحى بأنه يريد استعادة أمجاد غابرة لبلاده. واخذ ينفتح على الصين والهند ويشدد على أهمية "المحور الشرقي" ولا يتهيب من انتقاد الاستفراد الأمريكي بالعالم. كما سعى في الداخل إلى تحقيق نوع من المصالحة الوطنية وإنهاء الاحتراب. إلا انه سرعان ما "خفف السرعة" وشد الزمام ليستدير بعد ذلك إلى الاتجاه النقيض وينطلق دون الالتفات إلى الأصوات المحذرة.

وقدم المحللون تفسيرات شتى لهذا التحول تطرقنا إلى بعض منها في موقع سابق. ولكن هناك من يتحدث همسا انطلاقا من قناعة أو بدافع من أمل، عن "سيناريو ذكي" فحواه التالي: الكرملين يناور ساعيا إلى تفادي الصدام بسبب الضعف الحالي لروسيا، وهو يريد أن يستدرج الخصوم السابقين إلى مساعدتها في النهوض من عثرتها الحالية. وعندما تستعيد عافيتها الاقتصادية بعد 10-15 سنة، فإنها ستشن هجوما مضادا يعيدها إلى مصاف الدول العظمى.

وقد يكون "التمني رأسمال المفلس"، أو لربما ثمة نوع من السذاجة والتبسيط في التعامل مع ظواهر مركبة بالغة الخطورة والتعقيد. وأيا كانت الحقيقة وراء هكذا "نظريات"، فان المستجدات على أرض الواقع تسوق كل يوم براهين تفندها وتثبت العكس!

فقد صارت روسيا بلدا محاصرا من الخارج. ويمتد الطوق من آسيا الوسطى والقوقاز، حيث الوجود العسكري الأمريكي إلى تركيا الأطلسية ودول البلطيق التي سيعني انتماؤها قريبا إلى حلف الأطلسي وضع القوات الغربية على بعد "رمية عصا" من العاصمة الشمالية لروسيا سانت بطرسبورغ.

ويزيد من خطورة طوق الحصار الخارجي، أن الكيان الداخلي يتآكل بفعل عمليات النهب والاستنزاف المتواصلة وتفسخ هياكل القوة وتعاظم النزعات اللامركزية. وكماشة الحصار الخارجي والتآكل الداخلي تطبق على الجسد الروسي وتهدد بتشظيه أو على الأقل تجزئته. وفي ضوء ذلك لا تبدو ضربا من الخيال توقعات عن احتمال تقسيم روسيا إلى كيانات شبه مستقلة في الشرق الأقصى وسيبيريا والقوقاز وحوض الفولغا. عند ذاك ستكون مشكلة روسيا ليس البحث عن هوية، بل الصراع من أجل البقاء.

*** *** ***

 

في المثقف اليوم