شهادات ومذكرات

مع سائق اوزبيكي في موسكو

ضياء نافعالاكثرية من سائقي سيارات الاجرة في موسكو هم من شعوب الاتحاد السوفيتي السابق . هذه ظاهرة واضحة المعالم الآن لكل من  يستخدم سيارات الاجرة في موسكو، اذ ان فرص العمل امامهم في دولهم المستقلة تقلصت بشكل هائل . لقد سبق لي ان كتبت عدة مقالات عن انطباعاتي حول تلك الظاهرة، واظن ان تلك المقالات كانت تعكس وضع تلك الشعوب في الوقت الحاضر، او في الاقل تعطي صورة واقعية لظروف حياة بعض ابنائهم . وامس كنت مع سائق من اوزبكستان . لم يكن ثرثارا  كما هي العادة، ولكن ما ان عرف اني من العراق، حتى (انفتحت قريحته !)، و بدأ يمطرني بسيل  من الاسئلة والآراء المتنوعة، والتي تعكس بالطبع افكاره الخاصة واهتماماته الشخصية وثقافته العامة ومعاناته الحياتية. قرأ لي اولا سورة الاخلاص بعربية ركيكة جدا (بالكاد فهمتها !)، وطلب منّي ان اشرح له معناها، فقلت له انها سورة الاخلاص، فاعترض قائلا، كلا كلا، انها سورة (قل هو)، ولفظها (كل خو) . ضحكت انا طبعا واوضحت له صلب الموضوع (كما يقال)، فاندهش اندهاشا مثيرا، وسألني وبكل جديّة - هل انت من رجال الدين ؟ ولما علم انني لست من رجال الدين ازداد اندهاشه اكثر . ثم قال لي، انه امس علّم ابنته هذه السورة، وانه سيقول لها اليوم انها سورة الاخلاص، وأضاف قائلا، انه يقدسّ هذا النص لانه من القرآن الكريم، ولكنه لا يفهم معناه بتاتا (تذكرت قصة زميلتي الصحافية الكبيرة د. سلوى زكو، التي قرأتها قبل ايام في الفيسبوك عن صديقتها السوفيتية ايام زمان في كلية الصحافة بجامعة موسكو، والتي اسمها تكزبان، والتي قالت لسلوى – وهي تعيّرها – انها (اي سلوى) لا تعرف ان اسمها مقتبس من الاية الكريمة – وبأي آلاء ربكما تكذّبان !!!، اذ انهم يلفظون الفعل – تكزبان، دون ان يفقهوا معناه طبعا).

بدأ هذا السائق بعدئذ يتحدث بأسى وبشكوى مريرة جدا عن وضع حياته في موسكو، وقال لي انه يعمل طوال النهار و بعض الاحيان في الليل ايضا، وكذلك تعمل زوجته الاوزبيكية، وانهما – مع ذلك - يعيشان بالكاد، لان ايجار الشقة بموسكو غال جدا، ومتطلبات الابن والبنت في المدرسة تقتضي صرف مبالغ كبيرة بالنسبة لدخلهم المحدود، ويجب عليهما ايضا مساعدة والديهما في اوزبكستان رغم انهم لازالوا يعملون هناك، وذلك لان وضع اوزبكستان الاقتصادي صعب جدا جدا.  وأضاف انه لولا عمل زوجته، فانهم (سيموتون جوعا !) . حاولت انا ان اخفف من صعوبات حياته، والتي كان يحكيها لي وهو يتألم بوضوح، وقلت له، انني التقيت كثيرا من ابناء شعوب الاتحاد السوفيتي، وان وضعهم كان لابأس به رغم انهم كانوا ايضا يعانون مثله بشكل او بآخر، ويساعدون اهلهم في بلدانهم، فقال، نعم، ولكن معظمهم لا يأتون بعوائلهم، و يسكنون في موسكو سوية و في غرف صغيرة، و حتى غير ملائمة للسكن الطبيعي بعض الاحيان اقتصادا بنفقات الايجار، أما انا، فلا استطيع ان اسكن هكذا مثلهم، اذ اني مع زوجتي وابني وابنتي، ولهذا فاننا نؤجّر شقة مستقلة .

 وانتقل بعدئذ بالحديث عن مشكلة اخرى يعاني منها، وهي قضية تربية الاطفال، اذ انهما – هو وزوجته – يحاولان دائما الكلام معهم باللغة الاوزبيكية وتعليمهم لها، ولكن الاطفال يدرسون في مدرسة روسية ويتحدثون في الشارع مع الاخرين بالروسية، ولهذا فان اللغة الروسية اصبحت بالنسبة لهم اللغة الام قراءة وكتابة وكلاما، اما اللغة الاوزبيكية، فانها ثانوية بالنسبة لهم، وقال لي وهو يبتسم، ان الاطفال يسخرون مني ومن والدتهم عندما نتحدث معهم بالروسية، ويصلّحون الاخطاء التي نعملها  اثناء الكلام، واختتم حديثه عن هذه المشكلة وهو يتنهد بعمق قائلا، كيف سيكون مصيرهم عندما نرجع الى اوزبكستان ؟ فسألته، وهل تخططون للرجوع الى هناك ؟ فقال انا وزوجتي نريد الرجوع حتما، ونتمنى ذلك كل يوم، ولكن الاطفال لا يرغبون بذلك بتاتا، ولا يمكن لهم حتى ان يتصوروا العيش دون مدرستهم الروسية، ولهذا، فانهم جميعا يستمرون بالعيش في موسكو، ولا يعرفون مستقبل حياتهم، وتحسّر هذا السائق على ايام الاتحاد السوفيتي، وقال، لم تكن الامور معقدة هكذا رغم بعض المشاكل، فقد كانت الحياة بسيطة و مضمونة من دراسة وعمل و علاج مجاني وتقاعد، وكنا نعيش بدولة واحدة، ولم تكن هناك امام الاوزبيك او غيرهم من الشعوب السوفيتية مثل هذه الصعوبات، التي نعاني منها اليوم، وقال بحسرة، انه من المستحيل العودة الى تلك الايام .

عندما وصلنا الى العنوان المطلوب، دفعت له المبلغ اللازم مع اكرامية بسيطة، فرفض ذلك، وقال ان ذلك (حرام)، فابتسمت انا، وقلت له، ان ذلك (حلال)، اذا كان برضا الزبون ومبادرته ...     

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم