شهادات ومذكرات

ما قبل النشر (2): تقديرات خاطئة من زمن المعارضة

في لقاءاتي شبه اليومية مع العلامة الكبير السيد مرتضى العسكري رحمه الله، كنتُ أحرص على طرح الأسئلة عن ذكرياته، وكان يستعيدها بدقته المعروفة، ويعرضها ممزوجة بروحه المثقلة بهموم الإسلام وقضاياه الكبيرة.

ذات يوم سألته عن السبب الذي يمنعه من كتابة مذكراته، بدل أن يُحدثني بها في أوقات متفرقة. أجابني بذكر محاورة جرت بينه وبين السيد الشهيد محمد باقر الصدر عام ١٩٦٩ في منطقة جُبع في لبنان.

يقول السيد العسكري، إن السيد الصدر طلب منه أن يكتب مذكراته. فأبدى له العسكري انشغاله ببحوثه الكثيرة وعدم وجود وقت كافٍ لكتابة مذكراته. لكن السيد الصدر بقي يصرّ عليه بكتابتها لما لها من قيمة تاريخية وميدانية، تنفع الأجيال القادمة بالتعرف على التجارب التي خاضها منذ عشرينات القرن الماضي بوعي حركي.

وبعد طلب وتمنع، وإصرار واعتذار، اتفق السيدان أن تكون كتابة المذكرات بعد سقوط نظام البعث في العراق. ولكي يكون الأمر قاطعاً فقد طلب السيد الصدر من السيد العسكري أن يعقد صيغة النذر الشرعي بكتابتها اذا زال حكم البعث من العراق.

قال العسكري: كنا نظنّ أن البعثيين سيسقطون في غضون عدة أشهر.

قال ذلك وابتسم ابتسامة ذات دلالة، كأنه يدين حقبة من الزمن غلب عليها التفكير الحالم ومنطق النظريات التي تعشق الفضاء.

لقد بقي التفكير الحالم صفة ملازمة لعدة أجيال من حزب الدعوة الإسلامية، وكنتُ واحداً من الحالمين بتلك الأفكار المستقبلية، ولم أكنْ أقتنع على مدى سنوات الشباب بأن هناك منهجاً سياسياً عملياً أفضل من منهج حزب الدعوة، وأنه الأكثر دقة وكفاءة وقدرة على تحريك الأمة وإسقاط الحكم وإقامة النظام الإسلامي. وهي النظرية التي قام عليها الحزب تحت عنوان (المرحلية).

لم تكن الدعوة الإسلامية تمتلك نظرة واقعية عن طبيعة صراعها مع السلطة. فقد بالغت في تقدير قدراتها، كما بالغت في وضع ثقتها بالشعب، وكانت مقولة (كسر حاجز الخوف) راسخة في عقول القيادات الإسلامية، فتصورت أن تحدي النظام والدخول معه في مواجهة مسلحة، من شأنه أن يكسر حاجز الخوف عن الأمة فتخرج ثائرة ضده. في حين أن (كسر حاجز الخوف) هو محطة في غاية الدقة في مسيرة الثورات، فما لم تكن هناك احاطة تفصيلية بطبيعة المجتمع، ومعرفة بوسائل السلطة وردود فعلها، فان كسر حاجز الخوف سيتحول الى مجازفة قاتلة.

كانت هذه النظرة تسيطر على تفكير قيادات حزب الدعوة، كما أنها سيطرت أيضاً على تفكير السيد الشهيد محمد باقر الصدر. كانت العاطفة والاندفاع الثوري يتغلب على الموضوعية الميدانية بمراتب عديدة. ولم يكن التعامل مع طبيعة المجتمع العراقي ومع طبيعة السلطة البعثية بحكمة السياسي ذي النظرة الثاقبة.

إن وفود البيعة التي حشّد لها حزب الدعوة قدراته عام ١٩٧٩، والتي جاءت بتنسيق مع السيد الشهيد الذي نظر اليها على أنها ستكون الحدث الذي يخيف السلطة ويجعلها تتراجع عن التعرض لقيادته، جاءت بنتيجة معكوسة، فقد صنعت ردة فعل عنيفة من قبل السلطة، أدت الى اعتقال السيد الصدر ومن ثم إعدامه في نيسان ١٩٨٠.

كانت المعادلة مختّلة في تلك السنوات، فهناك تفكير سياسي غير ناضج، يُحرّك قاعدة حزبية من الدعاة في غاية الإخلاص والنضج والتضحية. كانت القيادة بعيدة عن فهم الواقع، لكن التضحيات البطولية غطتْ على هذا الخلل.

ان فداحة الخسائر وحجم التضحيات وعظمة البطولات في مقابل بشاعة الهجمة البعثية، حالت ولسنوات طويلة دون الوقوف بهدوء لمراجعة تلك التجربة وتقييمها موضوعياً بعيداً عن تقديس الأشخاص وعاطفة الارتباط بهم.

لقد تأخر تقييم تلك المرحلة، وتأخرت دراستها، وكان من نتائج ذلك أن تعمقت الأخطاء وضاعت الكثير من فرص الحل. قيمة التجربة أنها تنقذ الحركات من السقوط، وتمنح العاملين أفقاً أوسع لرؤية المستقبل.

للحديث تتمة

***

سليم الحسني

في المثقف اليوم