شهادات ومذكرات

في ذكرى جلال الماشطة (4-4)

ميثم الجنابيجلال الماشطة ومهمة الإعلام الملتزم بقضايا العرب القومية

إن احدى الصفات الجوهرية التي تميز جلال الماشطة في ميدان الكتابة الصحفية هو تمثيله لما يمكن دعوته بصحافة الانتماء العربي. فقد كانت القضية الفلسطينية بالنسبة له قضيته الشخصية. وفيها ومن خلالها تبلور موقفه من إشكاليات العالم العربي، على الأقل، في مستوى تحسسها الوجداني.

إذ لم يكتب جلال الماشطة دراسات علمية اكاديمية حول القضية الفلسطينية أو إشكاليات الوجود التاريخي للعالم العربي الحديث والمعاصر، إلا أن ذلك لا يقلل من توهجها فيما كتبه. اذ يمكن تلمس هذه الأبعاد في اغلب ما كتبه من مقالات صحفية.

والمقصود بصحافة الانتماء العربي حالما نطلقها على كتابات حلال الماشطة، هو وجودها الظاهر والمستتر في كل ما كتبه، بما في ذلك في المقالات المتعلقة بالشأن الروسي البحت. الأمر الذي يشير إلى تغلغل وفاعلية هموم الانتماء العربي في أعمق أعماقه. ونعثر على ذلك في دفاعه الدائم والمستميت عن المصالح العربية العليا في مواجهة الدعاية الصهيونية، التي اخذت بالهيمنة شبه المطلقة بعد انحلال الاتحاد السوفيتي في الصحافة الروسية المرئية والمسموعة والمكتوبة. من هنا نقده المبطن والصريح للكسل والانحدار المنحط في الوعي الصحفي العربي. كل ذلك يكشف عن مستوى وطبيعة الالتزام السياسي والثقافي الواضح في مواقفه بهذا الصدد. إذ كانت مهمة كشف مؤامرات الصهيونية في روسيا عبر الصحافة من القضايا التي اثارت اهتمامه على الدوام.

وليس مصادفة أن تكون هي أيضا إحدى القضايا التي كانت في صلب اهتمام الكتاب الدوري الذي كنا نعمل عليه وإصداره نحن الثلاثة (جلال الماشطة والدكتور نوفل نيوف وأنا). وقد كنا نعمل سوية في هيئة التحرير. فقد كانت قضية التصدي للدعاية والسياسة الصهيونية هي من اهتمام جلال الماشطة، بينما كان الدكتور نوفل نيوف يتناولها من خلال ترجمة مختلف الأعمال الفكرية والأدبية والفنية. فقد قام بترجمة مختصرة لكتاب شولغين (ما لا يعجبنا فيهم)، ومقال ايغور يرماكوف (اليهودية الصهيونية والدولة العالمية)، ومقال كيسيليوف (الحريق الذي لا ينطفئ)، ومقال (الكنيسة والدولة. سياسة روسيا تجاه فلسطين) وكثير غيرها. فقد كان الدكتور نوفل نيوف ماهرا باهرا في الترجمة، شديد الحذر والنقد تجاه كل ما هو يهودي بشكل عام وصهيوني بشكل خاص. وتبين مع مجرى الأحداث في روسيا ما قبل وبعد انحلال الاتحاد السوفيتي صدق وسلامة وصحة جميع ملاحظاته النقدية بهذا الصدد. بينما تناولت انا القضية اليهودية والظاهرة الصهيونية في سلسلة ابحاث فكرية وفلسفية وتاريخية وثقافية مثل (الصورة والمعنى في الصراع العربي اليهودي) و(اليهودية الصهيونية في روسيا) وغيرها، والتي جمعتها لاحقا وأضفت اليها الكثير من الفصول والأبواب وأصدرتها في كتاب مستقل متكامل من حيث بنيته ومنطقة الداخلي هو (اليهودية الصهيونية والصراع العربي اليهودي) الذي طبع مرتان، ثم توسعت فيه وصدر في كتاب آخر بعنوان (اليهودية الصهيونية وحقيقة البروتوكولات) الذي طبع خمس مرات.

غير أن ما يميز جلال الماشطة عنا (الدكتور نوفل وأنا) هو احتكاكه العملي بهذه القضية في روسيا وعمله عليها في ميدان الدعاية والكتابة الصحفية واللقاءات السياسية والنشاط الشخصي بين الهيئات الدبلوماسية العربية والروسية. ووجد ذلك انعكاسه في المقالات التي كتبها بهذا الصدد، والتي انشر اثنتين منها وهي على التوالي (آن للأبكم أن ينطق!) في نقده وتمرده وحسرته على صمت الهيئات الدبلوماسية العربية والصحافة العربية حول مختلف جوانب هذه القضية، ومقال (الإعلام الصهيوني في روسبا). ومن خلالهما يمكن رؤية شخصيته الصحفية وطبيعة الهموم والالتزام الشخصي بقضايا الأمة العربية ككل.

***

ميثم الجنابي

.............................

آن للأبكم أن ينطق!

جلال الماشطة

صمت العرب على تشويه صورتهم في الإعلام الروسي

من المذنب في كون العربي اصبح، في الإعلام الروسي ، صنوا للجهل والتخلف والإرهاب؟

ما العمل لتغيير هذا الواقع الذي يسيء إلى العرب، والانكى انه يحول دون قيام علاقات طبيعية بينهم وبين القارة الاورآسوية التي اسمها روسيا؟

السؤالان مصاغان على الطريقة المألوفة في الفكر التقليدي الروسي الذي غالبا ما  يبحث عن العلة خارج الجسد. ونحن إذ نقتبس الصيغة، فإننا لا نريد أن نجعل من الآخرين مشجبا يعلق عليه العرب ذنوبهم وعيوبهم، بل نقر سلفا بأنهم يتحملون وزرا، بل ربما الوزر الأكبر في إخلاء ساحة المعركة الإعلامية في روسيا خمولا يقارب العيّ المخجل أحيانا.

ولكن لماذا غدا العرب عرضة لهجوم إعلامي كاسح ووقح، وهل أن وسائل الإعلام هي فعلا مرآة للمجتمع، أو بعبارة أخرى هل يرى الروسي في العربي عدوا؟

تاريخيا، كان الروس يستخدمون مصطلح "باسورمانين" في الحديث عن الأجانب عامة والمسلمين تحديدا. وهذه المفردة مثقلة بظلال سلبية ولعلها اقرب إلى كلمة "الأعجمي" في استعمالها الشائع على لسان العرب اليوم. وقدم أدباء روس كبار، مثل ليرمنتوف وتولستوي، صورة متميزة لـ "الباسورمانين" الذي حاربه الروس في القوقاز إلا أن تلك كانت صورة خصم عنيد لا عدو مكروه.

ونظرا لجهل عامة الروس بالعرب فان العربي كان في نظرهم "الباسورمانين" البعيد الذي يشبه القوقازيين إلا انه يقطن الصحارى وليس الجبال. هذا الموقف "المحايد" اخذ يتغير بعد الثورة البلشفية التي سعى  قادتها إلى جعل الشرق حليفا استراتيجيا لهم، لذا فان الإعلام المؤدلج في العهد السوفيتي دأب على الحديث عن الشعوب المضطهدة والحضّ على التعاطف معها. إلا أن العالم العربي ظل مفهوما  تجريديا لا يلامس عقول وعواطف رجل الشارع السوفيتي، لحين بزوغ نجم الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي اصبح رمزا  لحركة التحرر الوطني وتجسيداً ملموسا لصورة العربي لدى الإعلام الموجه. واعتمدت الآلة الدعائية السوفيتية معادلة تسطيحية تقضي بفرز لونين من العرب: التقدمي ذو الوجه النير، الطويل القامة، الجهوري الصوت الشجاع…الخ، والرجعي القميء الكئيب الخبيث وهكذا دواليك. وبما أن التقدميين اكثر، طبعا، من الرجعيين فان صورة العربي رسمت بألوان زاهية في الغالب وان كانت تثير الشفقة اكثر من الاحترام.

هذا على الصعيد الرسمي. أما الشارع فقد كان متأثرا بعوامل عدة منها "الإعلام الشفاهي" الذي اعتمد أحيانا روايات كاذبة كتلك التي نشرتها صحيفة "كمسمولسكايا برافدا" في مطلع الستينات عن عربي تزوج فتاة روسية ثم باعها بناقات معدودات. واذكر أن هذا المقال اليتيم أثار ضجة كبرى في أوساط الطلاب العرب وشكلت وفود للاحتجاج واضطرت الصحيفة إلى نشر توضيح يقول أن اسم الشاب (محمود) لا يعني انه عربي. واليوم نجد الصحف والمجلات الروسية غاصة بمثل هذه المقالات أو ما هو أسوأ منها، ولا من يحتج ولا من يعترض.

وساعد على خلق صورة اقرب إلى الواقع عن العالم العربي أن مئات الآلاف من الخبراء السوفيت عملوا في مصر والجزائر والعراق وسورية واليمن ودول أخرى فنقلوا مشاهداتهم التي كانت خليطا من الإعجاب والاستياء. إلا أن الإعلام الرسمي ظل في خطوطه العامة يرسم العرب باللونين الأبيض (الدول التقدمية) والأسود (الرجعية). ومن حيث العموم كان مؤيدا للحقوق العربية ضمن حدود السياسة الرسمية لموسكو آنذاك. ورغم أن اللوبي الصهيوني لم يكن يمارس نشاطه في شكل مكشوف كما يجري حاليا، إلا انه سعى إلى "تكوين الصورة" وطمس بعض الحقائق. وحسبنا الإشارة إلى أن كتاب "حذار من الصهيونية" ليوري إيفانوف  صدر بموافقة من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي إلا انه لم ينزل إلى الأسواق لان ما طبع منه كان يشترى و… يحرق. وما زال المثقفون الروس يتذكرون المعركة الكبرى التي دارت في السبعينات حينما منعت مراجع عليا، بتحريض من جهات معروفة تضمين المؤلفات الكاملة لدستويفسكي بحثا كان صاحب "الجريمة والعقاب" كتبه عن اليهود، في حين أن ترجمة الاعمال الكاملة لغوته ،مثلا، صدرت من دون أي اعتراض .

ولان المواطن السوفيتي كان محروما من فرصة الاستماع إلى الرأي الآخر علنا داخل بلاده، فانه غالبا ما كان يلجأ ، سرا، إلى الإذاعات الغربية التي قدمت الصورة المنحازة المألوفة في الغرب عن العرب واليهود والصراع الشرق اوسطي.

إلا أن الإعلام الرسمي السوفيتي ظل في خطوطه العامة مؤيدا للحقوق العربية ضمن حدود سياسة الدولة آنذاك. وفي السنوات الأولى للبيريسترويكا وضمن عملية قلب معادلة "الأسود والأبيض" إلى ثنائية جديدة اخذ الإعلام في الاتحاد السوفيتي أولا، وبعد انهياره في روسيا بصورة خاصة، يسعى إلى تلطيخ ما كان يظهر مشرقا في العقود السابقة وتلميع ما كانت الدعاية السوفيتية ترسمه بألوان قاتمة. ولئن كان قلب المفاهيم نوعا من "التمرد" في البداية فانه اصبح تدريجيا أيديولوجية جديدة عززها النهج السياسي الذي اتبعته الدولة ابتداء من عهد ميخائيل غورباتشوف الذي قرر "الانسحاب" من الشرق الأوسط أولا وبالتالي التخلي عن الحلفاء الاستراتيجيين لبلاده والتقارب مع إسرائيل التي تدفق عليها مئات الآلاف من اليهود (وغير اليهود) الذين سمح لهم بالهجرة من الاتحاد السوفيتي.

وفي عهد غورباتشوف تحديدا بدأ الإعلام السوفيتي يتحدث عن "إهدار الأموال لمساعدة العرب المتخلفين" وبدأت الصحف تنشر معلومات صحيحة عن صادرات عسكرية وخدمات وبضائع سوفيتية صدرت إلى الدول العربية، لكن الأعلام كان يوحي بان كل ما قدم كان مجانا واقتطع من رزق المواطن السوفيتي المسكين، متناسيا أن يقول إن موسكو كانت أحيانا تتقاضى الثمن سيولة نقدية (من العراق والجزائر وليبيا) أو مقايضة (البضائع المصرية) أو تسهيلات للأسطول السوفيتي (موانئ سورية والجزائر).

إلا أن العداء للعرب اصبح سياسة شبه رسمية إثر تفكيك الدولة السوفيتية، ولم يعد وزير الخارجية الروسي اندريه كوزيريف يجد غضاضة في استخدام كلمة "أوباش" للتحدث عن قادة عرب.

وشهدت وسائل الإعلام هجمة مدروسة على طول خط الجبهة تكللت بالاستيلاء شبه الكامل على أهم أدوات التأثير في الرأي العام. فعلى سبيل المثال أسس فلاديمير غوسينسكي رئيس المؤتمر القومي اليهودي في روسيا إمبراطورية إعلامية ضمت تلفزيون "أن. تي. في" وإذاعة "صدى موسكو" وصحيفة يومية واسعة الانتشار هي "سيفودنيا" ومجلات مثل "ايتوغي" و"7 أيام" وغيرها. وغدت القناة الاولى  "أو. آر. تي" واقعة تحت هيمنة الملياردير اليهودي الآخر بوريس بيريزوفسكي رغم انه لا يملك سوى 11 في المئة من أسهمها مقابل 51 في المئة تملكها الدولة التي "لا تتدخل" في سيل الشتائم التي توجه من هذه القناة إلى العرب. ولم يتخلف عن الركب تلفزيون "أر. تي. أر" وهو ملكية حكومية صرف من الناحية القانونية إلا انه يبدو ملكا خالصا للوبي الصهيوني من الناحية العملية.

وغدا الافتراء على العرب لازمة لا بد منها لكي تفتح أمام المطبوع الروسي الأبواب (والخزائن). وتتبارى الصحف أما في تشويه الحقائق أو طرح الأكاذيب السافرة واثقة أن أحدا لن يتصدى لها. مجلة "ايتوغي" الأسبوعية ، مثلا، تقدم الصورة التالية :"المزابل تبدأ فورا بعد العبور"من إسرائيل إلى الأراضي الفلسطينية. والفلسطينيون الذين كانوا يستقبلون الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن وصفوا بحرس شرف يشبه أفراده رجال الأنظمة الدكتاتورية في أميركا اللاتينية وباعة البنزين في الشيشان".

هذه الصورة التي تجمع بين الازدراء والسخرية والعنصرية مألوفة حد القرف في الصحف "الروسية" اليوم، إلا أن هناك مطبوعات "متميزة" مثل "أنباء  موسكو". فهي تقول أن إسرائيل جعلت من الجولان "جنة زاهرة" واستخدمت في الزراعة وتوزيع الموارد المائية تكنولوجيات عالية المستوى "يعجز عن ادارتها السوريون الذين ينظرون حتى الآن بارتياب إلى لكمبيوتر".. وهذا، بالطبع، تبرير لإبقاء الجولان لدى الإسرائيليين المتحضرين الذين يتقنون العمل الكمبيوتري.

وفي موضع آخر تنقل الصحيفة عن يهودي من اصل روسي صار أحد المسؤولين عن هياكل الاحتلال في الجولان تساؤله: "هل تريدون أن نعطي (ولتنتبهوا إلى هذه "النعطي" وليس ننسحب) إلى السوريين ما تعبنا هذه السنوات الطوال في صنعه؟ انهم سيلوثون المياه فورا". واستطرادا تشير إلى أن الوافدين من روسيا يشكلون 35 في المئة من 17 ألف مستوطن في الجولان وبالتالي فانهم الشريحة الأكثر عدوانية في رفض إعادة الحق إلى نصابه.

وفي مقال تحليلي تتحدث صحيفة "نوفيه إزفيستيا" عن احتمال إجراء استفتاء في إسرائيل في شأن "التنازل عن جزء من أراضي الدولة" هكذا وبجرة قلم صارت الجولان جزءا من إسرائيل.

ولا باس من الكذب السافر كما يفعل الكاتب دميتري رادتشيفسكي بادعائه أن الرئيس السوري حافظ الأسد "أيديولوجي القومية العربية رغم انه ليس عربي الدم الرجل الذي يتلاعب  بأفكار الأصولية الإسلامية (هكذا في النص) في حين انه يعتنق في السر دينا دخيلا على الإسلام".

وعلى ذات المنوال تتحدث صحيفة "موسكوفسكي كمسمولتس" عما وصفته بـ "زيف" الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي قالت انه "يغازل" الكنيسة الأرثوذكسية في حين أن المقربين إليه يبشرون بان المسيحية "اشتقاق يهودي" يعادونها.

وحتى الكتاب المتخصصون الذين عرفوا سابقا بالموضوعية بدءوا يقدمون صورة غريبة للوضع في المنطقة. ومن هؤلاء قسطنطين كابيتونوف الذي أقام فترة طويلة في الشرق الأوسط، فهو في مقال نشرته مجلة "ايتوغي" يقول أن دمشق تريد أن "تحصد عوائد" المفاوضات مع الإسرائيليين باسترجاع الجولان من دون أن "تسدد ديونها" المتمثلة بالتطبيع الكامل. ووفق هذا المنطق العجيب يصبح استرداد الأراضي المحتلة ليس تنفيذا لقرارات دولية وإحقاقا لحقوق شرعية بل "عوائد"، وفي المقابل يصبح التطبيع "دينا" لا بد من الوفاء به! بل انه يمضي شوطا ابعد بإشارته إلى أن توقيع معاهدة السلام مع سورية بدفع أميركي سيعني أن إسرائيل والولايات المتحدة تصبحان "حاميتين لنظام تعسفي" (في سورية طبعا) على أساس معاهدة "ليست في صالح إسرائيل أبدا"

واستثمرت القوى المناوئة للعرب الحرب الشيشانية لشن حملة واسعة شارك فيها عدد من كبار المسؤولين ووزعت خلالها الاتهامات من دون أي قرائن لإسنادها، إلا أنها أفلحت في خلق جو معاد للعرب بوصفهم "يساندون الإرهاب". ولعل من المثير أن مطبوعات مختلفة نشرت نصوصا متطابقة تقريبا، ما يوحي بان مصدرها واحد. إذ أن "ايتوغي" ذكرت أن بين "جنرالات عرفات" عددا من قادة … منظمتي "فتح" و"حماس" اللتين يجري في معسكراتهما إعداد مقاتلين وإرسالهم إلى الشيشان". وصحيفة "أنباء موسكو" تكرر الأكذوبة وتوسعها بالإشارة إلى أن "الإرهابيين الإسلاميين الذين يحاربون روسيا تدربوا في قواعد فتح وحماس" وتمضي إلى القول أن مدربين سوفيت كانوا شاركوا في إعداد تلك القواعد.. في الأراضي الأردنية.

كيف لروسيا، أذن، أن تواجه هذا "الإرهاب" العربي الشيشاني؟ الجواب يغدو بديهيا، إذ أن صحيفة "إزفيستيا" تشير إلى أن "الإسرائيليين فهموا أن آهات وتأوهات المدافعين عن حقوق الإنسان لا يمكن أن تغدو المنقذ". ولمزيد من الوضوح تقول أن "إسرائيل وروسيا تواجهان الإرهابيين (… ) وتل أبيب تفهم لماذا تحارب روسيا في الشيشان".

هكذا تكتمل الحلقة ويتضح الفرز بين "الحليف" و"العدو" وفي الوقت ذاته تغدو إسرائيل الطرف المسكين الذي يتعرض لـ "إرهاب" عربي.

ويشارك في رسم هذه الصورة مسؤولون كبار. فالناطق الرسمي باسم الكرملين سيرغي  ياسترجيمبسكي لم يكف عن الحديث عن "مرتزقة عرب" يقاتلون إلى جانب الشيشانيين بل أشار إلى قوى في الشرق الأوسط تسعى إلى زعزعة الاستقرار في روسيا. والتقط زميله المتحدث باسم وزارة الأمن الكسندر زدانوفيتش المبادرة ليعلن أن 1500 مليون (!) دولار جمعت في دول عربية وإسلامية بهدف التأثير في الإعلام الروسي. ويبدو أن "القابضين" لم يفهموا المطلوب فتواصلوا إطلاق السهام المسمومة إلى "المانحين" العرب!!

والى جانب الكذب السافر، غالبا ما يعمد الإعلام الروسي (روسي بمعنى الانتماء الجغرافي فقط) إلى قول نصف الحقيقية أو إخفاء نصفها الآخر. فقد أثارت تلفزيونات موسكو ضجة كبرى عن أموال جمعت في السعودية لمساندة الشيشانيين وبذا خلق انطباع وكأن السعوديين اصبحوا في صف من يحملون السلاح ضد روسيا. إلا أن التلفزيونات إياها لم تورد حرفا واحدا عن عشرات الملايين من الدولارات التي قدمت فعلا كمساعدات إلى اللاجئين الشيشانيين عبر قنوات حكومية فيدرالية.

وباتت نغمة "المرتزقة العرب" أثيرة لدى المسؤولين الروس الذين قدموا أرقاما عن أعداد هؤلاء "المرتزقة" توحي بان في الشيشان جيشا عربيا جرارا كان يمكن أن يحرر فلسطين. ومن دون إنكار احتمال وجود عرب في القوقاز فان الموضوعية كانت تقتضي أن تقدم موسكو براهين أخرى غير "قوائم بأسماء الضباط العرب" التي ضمت 41 اسما يبدأ كلها بـ "أبو". وكان لمدبجي هذه القوائم أن يحصوا 41 مليون اسم فهي كلها مختلقة، والهدف الأساسي كان الإيحاء للمواطن الروسي بان "الآباء" العرب يذبحون شبان روسيا.

وثمة قصاصة من نشرة "ايتار ـ تاس" وهي وكالة أنباء حكومية رسمية تدعي الرصانة، وقد نقلت عن أحد رجال الشرطة إن معركة في موقع ما في الشيشان أسفرت عن مصرع عدد من "الإرهابيين" وان جثة واحد منهم … توحى بأنها لعربي. وهكذا يغدو الشرطي عالما انتروبولوجيا يحدد "المنشأ" من النظرة الأولى ومن دون البحث عن البراهين، فالمهم أن تضع الفرشاة بصمة سوداء أخرى على وجه العرب.

أين العرب من ذلك كله؟ من لم يكن نائما فهو يتثاءب بكسل، ومن كف عن التمطي يتذرع بان الإعلام الروسي صهيوني كله واختراقه مستحيل وكفا الله المؤمنين شر القتال! والحال، انه رغم قوة مواقع اللوبي الصهيوني، فان العرب ما برحت أمامهم أبواب، إن لم تكن مفتوحة على مصاريعها فهي ليست موصدة تماما. فالمصالح الاستراتيجية العليا والبعيدة المدى لروسيا تدفع نحو التحالف مع العرب أو على الأقل نحو إقامة علاقات طبيعية معهم. وثمة مجموعات متنفذة داخل روسيا يمكن التعاون معها بهدف التصدي للحملة الشرسة والظالمة في آن. ونعنى بذلك شرائح واسعة من المجمع الصناعي العسكري وهياكل إنتاج الطاقة والنفط والري… وما إلى ذلك من القطاعات المهتمة بالتعاون مع العرب.

والإجابة على سؤال ما العمل؟ تقتضي، أولا، الإقرار بوجود ظاهرة العداء للعرب والاعتراف بأنها انتشرت كالورم في الجسد الإعلامي الروسي، والتصدي لها يحتاج جهدا عربيا مشتركا لا تعيقه الخلافات الثانوية.

وقد خسر العرب هذه الساحة الإعلامية في أواخر الثمانينات لأنهم اعتبروها في حينه "وقفا" لهم بحكم الاستمرارية، وحينما تحرك القطار لم يحاولوا اللحاق به وتذرعوا بان قاطرات صهيونية اندفعت به بسرعة ولم يبق لنا إلا أن نتفرج من على الرصيف.

ولذا ظلت على الرفوف مقترحات طرحت منذ سنوات، وهي ما برحت حيوية حتى الآن، جوهرها تشكيل فريق عمل لوضع خطة تحرك إعلامي في روسيا. وفي إطار هذا الفريق ينبغي أن تعمل مجموعة رصد تتابع ما تكتبه الصحف والمجلات وما تبثه محطات الإذاعة والتلفزيون وتقترح صيغ الرد والتفاعل. ولكن الأهم من ذلك أن يجرى "اختراق مضاد" هدفه اطلاع الرأي العام الروسي على الحقائق وليس "تلميع" صورة العرب. وفي هذا السياق ينبغي الإفادة من خبرات الكتاب والباحثين الذين ظلوا أوفياء لموقفهم النزيه من العرب، إلا انهم غدوا مهملين منسيين. وربما كانت على حق تلك الصحافية التي أخذت اثر عودتها من رحلات في الدول العربية، تكتب مقالات فيها الكثير من الغمز أن لم نقل الهجوم الصريح، وحينما عوتبت أجابت "هكذا انتم العرب تكرمون من يشتمكم وتهملون من يقول الحقيقة".

وقد حان الوقت للتعلم من الإسرائيليين، فهم دعوا مستعربين لإلقاء محاضرات في إسرائيل أو زيارتها وعاد كثيرون منهم بعدها ليجد "حرجا" في الكتابة الموضوعية عن مشاكل الشرق الأوسط. وكل مسؤول إسرائيلي يزور موسكو يضع في خطة عمله برنامجا طويلا للمقابلات الصحافية في حين أن العرب غالبا ما يغلقون الأبواب في وجه الصحافة متذرعين بـ "ضيق الوقت" ثم يتعالى بكاؤهم على "فقدان" روسيا وعبث الصهاينة فيها.

بديهي أن أي خطة لتحرك إعلامي عربي لن تكون فاعلة إذا لم تستند إلى رؤية استراتيجية واضحة لموقع روسيا ودورها في القرن الواحد والعشرين. فهذه القارة الاورآسيوية، وإن  فقدت الكثير من مقومات الدولة العظمى، ما زالت تملك السلاح النووي وصوتا دائما في مجلس الأمن وتملك ثروات طبيعية وبشرية هائلة. فهل يرضي العرب أن تشوه صورتهم في "مرآة" تشغل مساحتها سبع اليابسة في العالم كله؟

***

الإعلام الصهيوني في روسيا

جلال الماشطة

لسان الكذب

الإعلام في روسيا يصّبح بناتان شارانسكي ويمسي ببنيامين نتانياهو وأثناء النهار تقدم صورة للعربي "الإرهابي القاتل" الذي يردع "المستوطنين" (المستعمرين) اليهود "المساكين"، ثم تعود أناء الليل لتعرض سيناريوهات مرعبة عن أممية أصولية إسلامية تخطط لاكتساح العالم.

ومع انتفاضة الأقصى سقطت أوراق التوت وهتكت الأقنعة لتظهر الصورة من دون لبس. فالإعلام في روسيا (هل الإعلام وحده؟) تحت سيطرة القوى اليهودية، بل قل غلاة الصهاينة، في حين أن الرسميين في البلد اصمت من أبي الهول، وان احسنا الظن قلنا انهم عاجزون، أما إذا أطلقنا للمنطق الصوري العنان فلا بد أن يقودنا إلى مقولة أن السكوت من الرضى.

وغالبا ما يردد الاصلاحيون في روسيا أن من بين المثالب الكبرى للنظام السوفياتي انه كان معاديا للسامية محابيا للعرب، ناسين أو متناسين أن نسبة اليهود بين القيادات السوفيتية اثر الثورة بلغت 70 في المئة أو اكثر. ولن نرتكب إثم الظن فندعي أن الحركة الثورية استخدمت مطية لتحقيق أغراض معينة، ولكن لا شك أن اختلال التناسب القومي لم يخدم بأي حال الغايات العليا للثورة.

وثمة من يزعم أن موجة العداء للسامية اكتسحت الاتحاد السوفياتي أبان حكم يوسف ستالين وان اليهود ابعدوا لاحقا عن جميع مراكز القرار والسلطة. إلا أن ميخائيل غورباتشوف (وهو ليس على الإطلاق من المحبين للعرب) أو المناوئين لليهود، بل ربما كان العكس هو الصحيح، أكد في حينه أن اليهود يشغلون زهاء 20 في المئة من المناصب الحاسمة رغم أن نسبتهم إلى العدد الإجمالي للسكان لم تكن لتتعدى 1 إلى 2 في المئة.

ولا نذكر هذه الأرقام بدوافع عنصرية إنما لوضع الحق في نصابه، وكشف واحد من الافتراءات الكثيرة التي تساق على أنها حقائق بديهية.

ويعرف مجايلو المرحلة السوفياتية أن اليهود غالبا ما كانوا يحتلون مواقع في الظل كمساعدين للأمناء العامين للحزب الشيوعي أو أعضاء المكتب السياسي، وهذه المواقع كانت مفصلية، إذ أنها تتيح لشاغليها التحكم في عتلات أساسية من دون أن يتحملوا مسؤولية مباشرة أو يكونوا في الواجهة.

وتغيرت اللوحة في زمن البيريسترويكا ثم بانهيار الاتحاد السوفيتي حيث انتفت الحاجة إلى الحجب، وصار الانتماء اليهودي مدعاة للتفاخر والمباهاة وأحيانا دليلا على التفوق القومي اعتمادا على مقولة "شعب الله المختار".

وفي عهد الرئيس السابق بوريس يلتسين بلغت نسبة اليهود في الحكومة والديوان الرئاسي 40 ـ 50 في المئة، وفي قيادة المؤسسات المالية 80 ـ 90 في المئة. إلا أن السيطرة غدت شبه كاملة على وسائل الإعلام وخاصة الإلكترونية، إذ أن فلاديمير غوسينسكي رئيس المؤتمر اليهودي يملك مؤسسة "ميديا موست" الإعلامية الكبرى التي تضم تلفزيون "ان. تي. في" وإذاعة "صدى موسكو" التي تبث على مدار الساعة وصحيفة "سيفودنيا" اليومية الواسعة الانتشار ومجلتي "ايتوغي" و"7 أيام" وعددا كبيرا من المحطات التلفزيونية الإقليمية. وعلى منواله سار الملياردير بوريس بيريزوفسكي فهو اشترى من الدولة بـ 300 ألف دولار قرابة 11 في المئة من اسهم القناة التلفزيونية الأولى "أو. آر. تي" التي كان دخلها الإعلامي وحده يصل إلى 40 مليون دولار، ثم زاد حصته إلى 49 في المئة من الأسهم. ورغم أن الـ 51 في المئة المتبقية ظلت شكليا ملكا للدولة فان بيريزوفسكي تمكن من تنصيب رجاله في جميع المناصب القيادية في "أو. آر. تي"، ثم وسع إمبراطوريته ليضم إليها 75 في المئة من اسهم شركة "TV6” واشترى صحيفة "كوميرسانت" و"نيزافيسيمايا غازيتا" وكلتاهما كانتا تعدان من المطبوعات الرصينة قبل انتقال ملكيتهما إلى "راسبوتين" الجديد الذي استحوذ على أهم المفاصل في ميادين المال والإعلام… والسلطة من خلال صلاته الوثيقة مع "عائلة" الرئيس السابق بوريس يلتسين.

والإعلام في روسيا ليس مجالا استثماريا أو واحدا من فروع البيزنس، بل انه اصبح أداة لممارسة السلطة أو ابتزاز القائمين عليها، إلى جانب كونه قناة لتمرير اطروحات أيديولوجية مغرضة. ولم تكن القوى المهيمنة على هذا الحقل في روسيا بحاجة إلى إتقان تكنولوجيات مرهفة ومعقدة للإيحاء بوجود نوع من الموضوعية، بل أنها اعتمدت أسلوب "اللي اختشوا ماتوا". فكانت تكذب من دون حياء ثم تعدو فتنتقض الكذبة بأخرى. واستند الإعلام في المرحلة اليلتسنية إلى "ثوابت" منها إلغاء الآراء الأخرى بالكامل واحتكار المنابر ومخاطبة الغرائز واعتماد أساليب الإثارة للتغطية على الحقائق الموضوعية وادعاء ملكية مفاتيح الحق والحقيقة.

وقد سلبت الغالبية الساحقة من الروس حق الكلام وغدا "الديمقراطيون" المتحدثين الوحيدين باسم الشعب رغم أن حزبهم "الخيار الديمقراطي" اخفق في حينه في عبور حاجز الخمسة في المئة المطلوب للتأهيل إلى البرلمان. وكانت الانتخابات الرئاسية عام 1996 تحديا سافرا للأحكام الديموقراطية والأعراف الأخلاقية والقواعد المهنية. فقد كرست كل قنوات التلفزيون لرفع بوريس يلتسن من حضيض الـ 2% (اثنين في المئة) الذي بلغته شعبيته وتلميع صورته وتسويقه إلى الناخبين، أو بالأحرى فرضه عليهم، في حين لم يوفر الإعلاميون أكذوبة إلا وأطلقوها لتشويه سمعة منافسه غينادي زيوغانوف. واجمع المراقبون الأوربيون على انه إجحاف غير مسبوق لحق منافسي يلتسن. واقر غوسينسكي نفسه لاحقا بان المنابر الإعلامية التي يملكها كانت "منحازة".

وبانتهاء حكم يلتسن عقدت آمال على أن يفتح خلفه فلاديمير بوتين النوافذ لـ "تهوية" البيت الروسي، وتعززت هذه التوقعات حينما أعلن نيته التصدي لتسلط عدد من أساطين المال على مفاتيح السلطة وبدأت النيابة العامة فتح ملفات التجاوزات القانونية وعمليات نهب المال العام التي قام بها بيريزوفكسي وغوسينسكي.

ولكن اهتزاز مواقع القطبين الماليين لم تغير أسلوب الإعلام الروسي في التعاطي مع المعارضة اليسارية التي ظلت المنابر الإعلامية مغلقة دونها، ولم يبدل من طريقة التعامل مع الملفات الحساسة المتعلقة بالعرب واليهود والقضايا الإسلامية.

ومنذ قيام ارييل شارون باقتحامه الاستفزازي للحرم القدسي استنفرت قنوات التلفزيون في روسيا كلها عمليا للدفاع عن "المستضعفين" اليهود والتنديد بـ "الإرهابيين" الذين يجب أن تكوى أجسادهم بالدبابات.

وقد نقلت صحيفة "فريميا نوفوستيه" عن عميد كرسي لغة الايدش في إسرائيل، أن إسرائيل "قد يصل بها الغضب حدا يدفعها إلى أن تبصق على الرأي العالم العالمي". واستشهد بمقولة لبن غوريون الذي أكد انه "ليس المهم ما يقوله ويفكر فيه غير اليهود، بل المهم ما يفعله اليهود". واستنادا إلى ذلك أشار إلى أن إسرائيل "دولة اليهود والحقوق القومية هناك لهم وحدهم". وأبدى هذا العميد أقصى قدر من "الروح الإنسانية" حينما "وافق" على منح الفلسطينيين "فرصة الحياة في بلدان أخرى".

الدعاية الصهيونية – العداء للإنسانية

وكما القرد في الأساطير المعروفة "لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم" فان التلفزيونات الروسية تبدو مصابة بالصم والعمى والخرس حين يتعلق الأمر بالفلسطينيين، إذ أن مشهد القتل العلني لمحمد الدرة لم يعرض سوى مرة واحدة في النهار ولم يسمع به الكثيرون من الروس، لكن المشاهد ظل يحقن بجرعات مسمومة عن "الهمج" الفلسطينيين الذين زعم انهم دمروا مقام النبي يوسف، من دون التطرق بحرف واحد إلى الثكنة العسكرية ومستودعات السلاح التي كان الإسرائيليون أقاموها هناك. وفي الوقت الذي لا يدعى العرب أو حتى الخبراء المحايدون للحديث عن الوضع الراهن في الشرق الأوسط، فان كل القنوات تشرع شاشاتها أمام دعاة الحرب الإسرائيليين أمثال شارانسكي ونتانياهو، أو أمام حلفائهم واصدقاتهم في روسيا. ولم يغب عن كل الحلقات سفير روسيا السابق في إسرائيل ألكسندر بوفن الذي يصفه زملاؤه في الخارجية بأنه "سفير يهود روسيا لدى يهود إسرائيل".

وفي العهود الماضية كان بوفن أحد مساعدي الأمين العام للحزب الشيوعي لكنه صار بقدرة قادر "ديمقراطيا" غربويا متحمسا واختار لكتاب أصدره أخيرا عنوان (خمس سنوات بين اليهود والدبلوماسيين)، أي انه "لم يلاحظ "خلال فترة سفارته في إسرائيل أن اكثر من 1،2 مليون عربي يحملون جنسية هذا البلد. ويحاول بوفن أن يقنع المشاهد الروسي بان باراك "قدم تنازلات لم يكن ليحلم بها عرفات"، لكن الأخير أبدى تعنتا ورغبة في الاستحواذ على "القدس المقدسة لدى اليهود كما الكرملين لدى الروس". وكرر بوفن هذه العبارة غير مرة من دون الإشارة إلى قدسية المسجد الأقصى لدى المسلمين وكنيسة القيامة لدى المسيحيين، ساعيا إلى الإيحاء بان التنازل عن القدس "مرفوض" كما هو مرفوض لدى الروسي أن يتنازل عن الكرملين.

ولا يتورع صديق بوفن، المفوض السابق لحقوق الإنسان سيرغي كوفاليوف عن استخدام تعابير مثل "السافل" في الحديث عن الرئيس ياسر عرفات، بينما اقتفت خطاه صحيفة "اوبشيا غازيتا" حين وصفت القائد الفلسطيني بأنه "قاتل موهوب وضليع" وأضافت أن "وعيه القروسطي يتجاوب مع الأصولية الإسلامية المعاصرة".

وغالبا ما تلجأ محطات التلفزيون والصحف إلى مغالطات وأكاذيب سافرة. فتقول "ازفيستيا" أن المتظاهرين الفلسطينيين في بيت لحم رفعوا شعارات تطالب بـ "تفجير باصات الركاب الإسرائيلية". وفي سلسلة تحقيقات تحت عنوان "حملة مشتركة لاتحاد الجاليات اليهودية والإدارة الدينية لمسلمي روسيا" نشرت صحيفة "كوميرسانت" ريبورتاجات حافلة بالحقد وتحدثت عن "عرب فقدوا الضمير والشرف" وقالت أن مراسليها سمعوا فلسطينيين "يرددون أغاني توحي بأنهم يدعون إلى شيء مرعب وعندما ترجمت كلمات الأغاني اتضح أنها مرعبة حقا، إذ تضمنت دعوة إلى دولة فلسطينية".

اذن الإدارة الدينية الإسلامية تنفق على إيفاد مراسلين عن صحيفة يملكها الملياردير اليهودي بيريزوفسكي لتكتب عن "خطيئة" المطالبة بدولة فلسطينية، وبذا فان أيهود باراك الذي المح إلى انه يوافق بشروط على قيام الدولة يغدو ارحم من الكتاب الذين تدفع لهم القيادات الإسلامية في روسيا.

وغدا العنصر "الإسلامي" عاملا مهما في التحرك الأيديولوجي والسياسي والإعلامي الإسرائيلي. وقد أشار نتانياهو إلى أن روسيا وإسرائيل تقفان في خندق واحد لمواجهة عدو مشترك هو "التطرف الإسلامي".

ويكرر هذا اللحن باستمرار المسؤولون الإسرائيليون الذين غدوا "نجوم الشاشة". وفي حال غيابهم ينوب عنهم أصدقاؤهم في روسيا. والمؤسف أن مسؤولين كبارا في الدولة تلقفوا هذه المقولة، فقد أشار سكرتير مجلس الأمن القومي سيرغي إيفانوف إلى وجود "منشأ واحد للإرهاب" يدير العمليات التي تجري في جميع أنحاء العالم ابتداء من الفيليبين وانتهاء بكوسوفو مرورا بالشرق الأوسط والقوقاز". ونجح الإسرائيليون في تسويق أطروحة "تماثل الحالتين" الفلسطينية والشيشانية، وبالتالي فانهم دعوا روسيا إلى أن تقف إلى جانبهم لمواجهة "خطر مشترك". ولم ينتبه الساسة والمعلقون الروس الذين "بلعوا" هذا "الطعم" إلى انهم بذلك اعترفوا بتدويل المشكلة الشيشانية رغم انهم كانوا يصرون على أنها شأن داخلي روسي صرف. وبلغ الأمر بسيئ الذكر بوفن حد التحريض السافر فهو يتساءل: لماذا يلومون إسرائيل على ما يسمونه رد فعل غير مكافئ للتحرك الفلسطيني؟ ماذا تراك تفعل إذا أطلقت عليك النار؟ نحن في الشيشان نرد بإطلاق النار على المسلحين وأحيانا يموت مدنيون". هذه العبارة تكثيف نمطي للمغالطات التي غدت معهودة في إعلام روسيا، فبوفن يتهم الفلسطينيين بأنهم يطلقون النار وليس الحجارة، ويتجاهل "أسبقية" الاحتلال على رفضه ويقارن بين ما يقوم به الجيش الفيدرالي داخل روسيا وتصرفات المحتلين الإسرائيليين، وأخيرا يعترف بـ "موت" مدنيين من دون أن يسمح لقلمه أو لسانه أن "يزل" بكلمة رأفة بهم.

ولوحظ أن وسائل الإعلام الموالية لليهود كانت تتخذ موقفا مناوئا للحرب القوقازية الأولى، وتحدثت عن تجاوزات قانونية وانتهاك حقوق الإنسان في الشيشان، إلا أنها عمدت في الآونة الأخيرة إلى تخفيف لهجتها تدريجيا لكي تبدو محايدة أو حتى موالية للسلطة. وقد يوحي ذلك بوجود ترتيب معد سلفا لإذكاء نيران الحرب ومنع موسكو من إحراز النصر ثم استثمار الوضع القائم لصالح أطروحة "التحالف في مواجهة الخطر الإسلامي". وما يعزز هذا الاعتقاد أن الماكنة السياسية والأيديولوجية الإسرائيلية تحركت في وقت واحد على عدة محاور، فإضافة إلى روسيا توجه مبعوثون إسرائيليون على رأسهم ناتان شارانسكي (المنشق السوفياتي سابقا ورئيس حزب "إسرائيل باعاليا" المتطرف) إلى عدد من جمهوريات آسيا الوسطى التي تخوض مجابهة مع مجموعات إسلامية في المثلث الواقع بين اوزبكستان وطاجكستان وقرغيزيا. وقام شارانسكي باتصالات واسعة لإقناع قيادات هذه الدول بالانضمام إلى ائتلاف واسع يضم إسرائيل وروسيا والهند ودول آسيا الوسطى وتركيا لمواجهة "الأصوليين".

والى جانب التحرك السياسي والأيديولوجي المباشر يلجأ الإعلام الموجه إلى أساليب إيحائية هدفها التأثير في الأحاسيس أو العقل الباطن أو اعتماد مصطلحات لها دلالات تخدم الطرح الإسرائيلي.

فعلى سبيل المثال لا تكف وسائل الإعلام في روسيا عن استخدام كلمات مثل "الأراضي" أو "يهودا والسامرة" للحديث عن الأراضي الفلسطينية، أو أنها تشير إلى "اضطرابات في إسرائيل" مكرسة بذلك مفهوم الضم القسري للأرض الذي تخلى عنه الإسرائيليون أنفسهم.

ووصفت وكالة "ايتار ـ تاس" الحكومية الرسمية كوادر الانتفاضة الفلسطينية بأنهم "قادة ميدانيون" وهو مصطلح يطلق على قيادات المقاومة المسلحة في الشيشان، ويستدعي في نفس المواطن الروسي مشاعر سلبية. ودأب مراسلو القنوات التلفزيونية على إجراء مقابلات مع جنود إسرائيليين وافدين من روسيا للإيحاء بوقوع عدوان على "أهلنا في إسرائيل" على حد تعبير صحيفة "سيفودنيا".

وعرض التلفزيون "أن. تي. في" مقابلات مع عدد من هؤلاء الجنود جمعها إلى مشاهد تشييع شهداء فلسطينيين تعمد المخرج إظهار الأعلام الخضراء وإبراز هتافات "الله اكبر" في محاولة لإقناع المشاهد الروسي بوجود "عدو واحد" في فلسطين والشيشان، وبالتالي دفعه إلى القبول بأطروحة التحالف بين روسيا وإسرائيل.

ضرورة محاكمة الإعلام الصهيوني

لقد شن الإعلام في روسيا (لا نقول الإعلام الروسي إذ أن الانتماء القومي معروف) عدوانا سافرا على العرب والمسلمين، وقدم "نماذج" فريدة من الأكاذيب والمغالطات وغدا انحيازه الفاضح فجا إلى حد جعله أسوأ من الإعلام الأميركي المعروف بمحاباته المطلقة لإسرائيل.

ولعل لهذه الظاهرة الجديدة أسبابا جديرة بدراسة معمقة، إلا أن المهم أن يجري عمل منسق لمواجهة الصلف الذي جسد عمق الحقد المتراكم من جهة، وأوضح أن المعتدين واثقون أن عدوانهم وعدوانيتهم سوف يبقيان دونما حساب.

ولذا ندعو إلى رفع سلسلة من الدعاوى القضائية على الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون التي تعمدت إثارة العداء القومي والحط من قيمة القوميات والأديان منتهكة بذلك الدستور وسائر التشريعات المعتمدة في روسيا. ومثل هذه المحاكمات يحقق أغراضا عدة. فهي ستنهي الحالة الغريبة التي كان أبانها الطرف الآخر يحصى على الناس أنفاسهم ويجهز يافطة "العداء للسامية" لإلصاقها بكل من يخالفه الرأي. وبرفع الدعوى سيشعر الجميع أن العرب اخذوا يبرأون من داء الصمم. والى ذلك فان استصدار قرار قضائي ضد مخالفي قانون المطبوعات والدستور الروسي سوف يدفع سائر وسائل الإعلام إلى أن تزن الكلام قبل إطلاقه.

وأخيرا فان المحاكمات بحد ذاتها توفر ما يسمى بـ "المناسبة الإعلامية" لكسر حاجز الصمت وكسب منابر كانت حتى الآن حكرا على الخصم.

***   ***   ***

 

في المثقف اليوم