شهادات ومذكرات

مصطفى رجب.. رحلة عطاء مستمرة (2)

محمود محمد عليعرفت الأستاذ الدكتور مصطفي رجب منذ أكثر من ربع قرن عندما كان يمتحن معي في مركز تعليم اللغة الألمانية بجامعة أسيوط كشرط منح لكل من سجل درجة الدكتوراه بجامعة أسيوط بفروعها المختلفة، وكان يمتحنا في ذلك من عام 1994 الأستاذ الدكتور حسن عبد الحميد (حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية) والدكتور محمد أبو هشه (رحمة الله عليه).. وعرفته حين دعوناه للمؤتمر السنوي بكلية الآداب بجامعة أسيوط (حين كان أخي وصديقي الأستاذ الدكتور "معتمد علي أحمد سليمان"عميداً للكلية).. كان مصطفي رجب من الجيل الذي يعشق الحصول علي أكثر من دكتوراه في تخصصات مختلفة، وكنا جميعاً نحترم ونوقره، يكفي أن تتقابل معه عدداً قليلاً من المرات حتي تتعرف علي "جوهره" المتلالئ، فهو من المؤمنين الذين غرس الله سبحانه وتعالي محبته في قلوب عباده دون أن تعرف بالتحديد ما الأسباب التي جعلت محبته تغزو قلبك فهل تغزوها إلي إنسانيته وطيبته وصدق مشاعره؟.. أم ترجعها إلي تعاطفه الدائم مع الآخرين، ومع الدائب في خير الناس سواء أكان ذلك مادياً أم معنوياً؟.. أم إلي علمه وإيثاره وبحثه عن الخير لذاته أينما كان..؟.. اعتقد أن هذه الأمور مجتمعه هي التي تجعل محبته تنفذ إلي القلب بلا تردد  ..

والحقيقة إنه لا جدال في أن لكل إنسان مادحين وقادحين، إلا أنك إذا ما تصادف وتطرق حديثك مع أستاذ أو زميل أو طالب عرف مصطفي رجب، إلا وسرعان ما يفوح شذي سيرته العطرة مزيجها التقدير والاحترام والمحبة والخير.. ولم لا؟ وهو الأستاذ الحق، فهو من الأساتذة الذين تشهد لهم بصماتهم علي كل المستويات الإنسانية، والأخلاقية، والعلمية بالاحتكام إلي العقل والمنطق؟ بل والعاطفة أيضاً، والإخلاص في العمل، والإيمان برسالة سامية يؤديها بإخلاص من أجل رضا الله عز وجل .. نعم لقد فاح شذي عطره وانتشر متجاوزاً جامعاتنا المصرية ليصل إلي الجامعات العربية . ولم لا أيضاً؟ وهو أستاذ مرموق متمكن في تخصصه، كتاباته العلمية المتنوعة والرسائل العلمية التي ناقشها وأشرف عليها خير دليل علي ذلك، بل إن الجامعات العربية التي دعته إلي التدريس بها تشهد بذلك أيضاً .

ولذلك عندما اضلعت بكتابة هذا المقال في جزئه الأول عن الأستاذ الدكتور مصطفي رجب آثرث أن أقدم الجانب الإنساني، أما في هذا المقال وأخص بالذكر في جزئه الثاني فأود ان أتكلم عن الجانب الاكاديمي له، وهنا في هذا المقال اخترت موقف مصطفي رجب من الجانب التربوي عند طه حسين، ؛ حيث يذكر في مقاله بعنوان له "أهداف التربية عند طه حسين" أنه في 28 أكتوبر 1973 رحل طه حسين الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، والذي كانت قضية "التربية" هي شغله الشاغل طوال عمره، وتتحدد أهداف التربية عند "طه حُسين" في ضوء الأهداف العامة التي تسعى مصر إلى تحقيقها، وهذه الأهداف العامة يحددها "طه حُسين" في "مستقبل الثقافة في مصر" من واقع الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تسود في مصر.

وبوجه عام تتلخص تلك الظروف كما يقول مصطفي رجب إلي أنه في الاحتلال المسيطر على حريات البلاد، والمسيطر على اقتصادياتها، وفي الملك الذي كان يحكم من خلال حكومات قصيرة العمر، معظمها من الأعيان والإقطاعيين؛ مما أفرز نظاماً اجتماعياً يقوم على نظام الطبقات، الذي يستعلي فيه بعض الناس على بعض، ويمتاز فيه بعض الناس على بعض؛ مما يدفع أصحاب الثراء، العريض والجاه الضخم إلى الاستعلاء في الأرض والإشفاق من أن يختلط أبناؤهم بأبناء الفقراء، فهم يسعون إلى المدارس الأجنبية يُلحقون بها أبناءهم.

وقد اشتد هجوم "طه حُسين" كما يقول مصطفي رجب على النظام الاجتماعي والسياسي في مصر، وبخاصة خلال فترة حكم إسماعيل صدقي (1930 – 1934) ؛ حيث ساءت الأوضاع ووصلت إلى درجة لم تصل إليها من قبل، وزاد هذا الهجوم اشتداداً ما تعرض له هو شخصياً من ظلم في تلك الفترة نتيجة تمسكه باستقلال الجامعة.

ويستطرد مصطفي رجب فيقول: ولم تكد الغمّة تنجلي بتولي توفيق نسيم رئاسة الوزارة في ديسمبر 1934 حتى عاد طه حسين إلى الجامعة وانتخب سنة 1936 عميداً لكلية الآداب، وعادت إليه مكانته المرموقة، وفي العام نفسه توقّع مصر معاهدة التحالف مع إنجلترا وتنص المعاهدة على استقلال مصر، ثم تنجح الوزارة الوفدية التي وقعت المعاهدة في إلغاء الامتيازات الأجنبية، وتتقدم مصر المستقلة لعضوية عصبة الأمم لتبدأ عهداً قوامه الحرية والاستقلال.

وتناول "طه حُسين" للحياة الوطنية الجديدة كما يقول مصطفي رجب يستند إلى المُدركات الفلسفية الاجتماعية التاريخية التي كونها في دراسته للتاريخ السياسي والاجتماعي لبلاد اليونان، وفي اهتمامه بنظام الإثينيين في مصر، وفي دراسته لفلسفة "ابن خلدون" الاجتماعية.

إن إضفاء البُعد الاجتماعي في تفسير وقائع التاريخ الذي طبّقه "طه حُسين" كما يقول مصطفي رجب في دراسته لعصر صدر الإسلام في "الفتنة الكبرى" وفي دراسته "لأبي العلاء المعرّي" يعطي ضوءاً يتيح شيئاً من وضوح الرؤية بالنسبة للأهداف التي رأى طه حسين أن مصر تسعى إليها بعد حصولها على الاستقلال 1936 بتوقيع المعاهدة. فهو حين يحدد هذه الأهداف ينظر إلى الواقع الاجتماعي نفس نظرته إلى الواقع السياسي الاقتصادي.

وبصفة عامة يمكن إجمال الأهداف العامة لمصر من وجهة نظره كما يقول مصطفي رجب في:

(1) الحرية الخارجية وقوامها الاستقلال الصحيح، والقوة التي تحوط هذا الاستقلال.

(2) الحرية الداخلية؛ وقوامها النظام الديمقراطي.

(3) الاستقلال الاقتصادي؛ لحماية الثروات الوطنية.

(4) الاستقلال العلمي والنفي والأدبي؛ الذي يجعلنا نقف على قدم المساواة مع الأوربي، نفهم الحياة كما يفهمها، ونرى الأشياء كما يراها.

وإذا كانت هذه هي الأهداف العامة للمجتمع، فإن أهداف التربية يجب أن تكون خاضعة في تحديدها للإطار العام الذي تحدده هذه الأهداف، وعلى هذا الأساس فإن "طه حُسين" قبل أن يتحدث عن هذا النوع أو ذاك من أنواع التعليم يحدد -في البداية- أغراض هذا النوع، وإلام يهدف؟، وكيف يُتاح له أن يحقق أغراضه؟.

فالتعليم الأولي وهو بداية السلّم التعليمي، وسيلة العيش لأنه يمكّن الفرد من أن يعرف نفسه وبيئته الطبيعية والوطنية والإنسانية، وأن يتزيّد من هذه المعرفة، وأن يلائم بين حاجته وطاقته، وما يحيط به من البيئات والظروف.

هذا والتعليم يجب على الدولة الديمقراطية أن تكفُلُه؛ لأغراض عدّة كما يقول مصطفي رجب:

(1) إن هذا التعليم الأولي أيسر وسيلة يجب أن تكون في يد الفرد؛ حتى يستطيع أن يعيش.

(2) إن هذا التعليم أيسر وسيلة يجب أن تكون في يد الدولة نفسها؛ لتكوين الوحدة الوطنية وإشعار الأمة بحقها في الوجود المستقل الحر.

(3) إن هذا التعليم هو الوسيلة الوحيدة في يد الدولة؛ حَـتى تمكن الأمة من البقاء، والاستمرار لأنها بهذا التعليم تضمن وحدة التراث الوطني الذي ينبغي نقله من جيل إلى جيل.

ويعترف "طه حُسين" في حديثه عن التعليم العام كما يقول مصطفي رجب بأن الدولة كانت تقصد به إلى إعداد الموظفين للدواوين والمكاتب، ويذهب إلى أن هذا الأمر "ليس إلا نتيجة من نتائج السيطرة الإنجليزية على شئون مصر عامة، وعلى شئون التعليم بنوع خاص".

ثم يناقش "طه حُسين" بداية نشر التعليم في عهد "محمد علي" كما يقول مصطفي رجب ليصل إلى أن الحاجات العملية اليومية، والضرورات العادية (مثل وجود الحاكم وحاجة الجيش) كانت وراء إنشاء التعليم الحديث المنظم في مصر.

وفي حديثه عن التعليم العالي يحدد "طه حُسين" هدفين رئيسيين، هما كما يقول مصطفي رجب:

(1) المعرفة الخالصة بمعنى تهذيب العقل، وإزالة الجهل، أو طلب العلم لذات العلم.

(2) شغل المناصب الممتازة.

وهو يرى أن رجل الشارع يستطيع أن يحدد هذين الهدفين للتعليم العالي دون عناء، ويستطيع الباحث بعد هذا التحديد للأهداف التي تسعى إليها التربية والتعليم في رأي "طه حُسين" كما يقول مصطفي رجب يستطيع الزعم بأن مُجمل هذه الأهداف لا يخرج عما نادى به رجال التربية المتخصصون على اختلاف مشاربهم، وتباين ثقافاتهم وانتماءاتهم، مما يدفع إلى القول: بأن طه حسين كان على بينة من كتابات رجال التربية.

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الدكتور مصطفي رجب بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكر مبدع في أعمال كثيرة ومتنوعة، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته بطوله وعرضه لخدمة الثقافة العربية، وأثري حياتنا الفكرية بكل ما قدمت من جهود.

تحيةً لمصطفي رجب الذي  لم تستهويه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

بارك الله لنا في مصطفي رجب قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه "أشباه المفكرين" (كما قال أستاذي عاطف العراقي)، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليها ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم