شهادات ومذكرات

أنور مغيث.. عاشق الترجمة الفلسفية

محمود محمد عليما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأنّ النصوص الفلسفية ليست كالنصوص الاعتياديّة التي يمكن ترجمتها بحسب كلماتها، بل هي تندرج ضمن الترجمة الأدبية التي تحتاج إلى وجود حس إبداعي لدى المترجم بحيث يستطيع قراءة ما بين السطور والحفاظ على أسلوب الكاتب الفلسفي وروح النص الأصلي. وهذا يعني وجود مترجم محترف متخصص بالترجمة الفلسفية من أصحاب الخبرة في هذا المجال من الناحية اللّغوية والإبداعيّة.

والدكتور أنور حامد مغيث هو كاتب، ومترجم مصري، ومدير المركز القومي للترجمة، ويعمل أستاذا للفلسفة الحديثة والمعاصرة، بجامعة حلوان، بجمهورية مصر العربية، وهو يعد واحداً من جيلنا العظيم الذي تعلم فن الترجمة الفلسفية علي يد كل من الدكتور فؤاد زكريا، والدكتور زكي نجيب محمود، والدكتور إبراهيم بيومي مدكور، والدكتور أحمد فؤاد الأهواني، وغيرهم أقطاب وأعلام الفلسفة.

والدكتور أنور مغيث أعرفه معرفة شخصية،  فقد كان لي الشرف أن أكون زميلاً له بكلية الآداب بجامعة حلوان، حيث استلمنا معنا العمل في عام 1995 ـ حيث عُينت أنا مدرساُ في تخصص " المنطق وفلسفة العلوم"، وعين سيادته والدكتور مجدي عبد الحافظ في درجة مدرس فلسفة حديثة ومعاصرة خلال عهد الأستاذ الدكتور محمد حسيني أبو سعده (رحمه الله عليه)، والحق يقال كان أنور مغيث من الشخصيات المصرية المحترمة التي وهَبَت حياتها كلها للجامعة: تعليماً وبحثاً، وظلت اهتماماته الرئيسة هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن . كان يعتقد أن قدراته الخاصة لا تقل بحال من الأحوال عن قدرات أي باحث مماثل له في جامعة السوربون . لذلك فإن حواره مع كبار الأساتذة في فرنسا، كان يتسم بالندية . وكان يصحح الكثير من آرائهم بالاعتماد علي المنهج العلمي الحديث في البحث والدرس الفلسفي؛ وبالذات عند روجية جارودي  وجاك دريدا وبيير بورديو وغيرهم.

علاوة علي أن أنور مغيث (مع حفظ الألقاب) مثقف أكاديمي غزير الإنتاج، وذو اهتمامات فكرية متنوعة، وله شخصية مميزة أقدرها وأجلها، فقد كان وما زال يتميز بطابع الجدية، حيث كان الحوار معه من أصعب الأمور؛ وخاصة مع أولئك الذين لا يحسنون استخدام عقولهم ؛ فهو لا يقبل هذراً ولا فوضي. والألفاظ لديه ينبغي أن تكون علي قدر معانيها، فالتزيد مرفوض، والفيهقة مستحيلة . لذلك كانت دائرة أصدقائه ضيقة جدا، ومعارفه قليلين، وصارت الفكرة التي شاعت عنه أن الصغار يخشون منها، والكبار يهابونها.

ولد الدكتور أنور مغيث في الثاني عشر من شهر مايو عام 1956 بمدينة الباجور بمحافظة المنوفية جنوب دلتا النيل. وقد نشأ  سيادته في بيت كان الجميع فيه يقرأون، وكان أباه معلماً ومشتركًا في كثير من الدوريات الثقافية التي يحملها ساعي البريد إليه.. أنهي أنور مغيث في المنوفية دراسته الابتدائية، وانتقلت بعد ذلك الأسرة بكاملها إلى بني سويف بصعيد مصر، حيث أنهي مغيث المرحلة الإعدادية، وكانت المرحلة الثانوية بشارع الأهرام بمدينة القاهرة، وطوال هذا الوقت كانت القراءة هوايته المفضلة، بل وأيضاً سبباً لتفوقه في الدراسة.

ثم التحق أنور مغيث بكلية الآداب فى قسم اللغة اليابانية الذي كان أول افتتاح له في هذا العام 1974، ولكن انخراط مغيث في النشاط السياسي اليساري بالجامعة، جعل من الصعب المواظبة في قسم اللغة اليابانية، فعالج الأمر بأن التحق بقسم الفلسفة التى كانت في نظر رفاقه لا تحتاج الكثير من المواظبة كما يقول.. اهتمام أنور مغيث بالعمل السياسي بالجامعة جعل له مصدرًا آخر للمعرفة غير تلك التي تلقاها في الجامعة، وهي الفلسفة الماركسية.. وكان إعداد المناضل السياسي يتطلب أن يكون ملماً بشيء من العلوم السياسية والاقتصاد والأدب والفن، وأنور مغيث أعتبر ذلك فرصة عظيمة جعلته غير مقيد بالفلسفة الأكاديمية الجامعية، ونجح بتفوق في الليسانس.

بيد أن حلم السفر إلى فرنسا لإعداد الدكتوراه كان يراوده صباح مساء، وبالفعل سافر أنور مغيث إلى فرنسا بدون منحة أو بعثة، وبدأ في إعداد الجزء الأول من الدكتوراه مع الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي في جامعة ستراسبورج. وكان الموضوع عن البراكسيس أو "الممارسة العملية" عند ماركس الشاب. وكان دافعه وراء ذلك هو التعرف على ماركسية جديدة ونقد الماركسية التقليدية الستالينية التي تربينا عليها.

في خلال تلك الفترة حصل أنور مغيث علي شهادة الـ A.E.D فـي الفلسفة من جامعة II Strasbourg  عام 1985، ثم شهادة الـ A.E.D في الدراسات العربية الإسلامية من نفس الجامعة في العـام التـالي. قام بعد ذلك بالتسجيل لنيل درجـة الدكتوراه بجامعة X Paris  عـام 1987.

وبعد سفر المشرف نانسي إلى أمريكا للتدريس بها، انتقل أنور مغيث إلى جامعة نانتير بباريس تحت إشراف الفيلسوف جورج لابيكا الذي أقنعنه بإنجاز رسالة عن التلقي المصري للفلسفة الماركسية. حصل على الدكتوراه عام 1992 وعاد أنور مغيث إلى القاهرة لتدريس الفلسفة بجامعة حلوان عام 1995، وإلى جانب التدريس أهتم بنشاطين آخرين: أولهما الترجمة عن الفرنسية، وثانيهما المشاركة النظرية فى الجدل السياسي العام منحازاً إلى قضيتين أساسيتين وهما الديمقراطية والعلمانية.

أثري أنور مغيث المكتبة العربية بترجمات العدد من الكتب والأبحاث المهمة لكبار مفكري فرنسا ومنهم روجيه جارودي وجاك دريدا وبيير بورديو وغيرهم .. من أبرز الترجمات: من هو تشارلي لايمانويل تود، وكتاب كيف نصنع المستقبل ؟ -  روجيه جاردي، وفي علم الكتابة – جاك دريدا، نقد الحداثة للمفكر ألان توريه، ومسيحيون ومسلمون: إخوة أمام الله للإيطالي كريستيان فان نسن، كما قام بمراجعة عدد من الكتب منها الترجمة العربية لكتاب " جهاد" – للمفكر الفرنسي جيل كيبل، وكتاب الغرفة المضيئة  - تأملات في الفوتوغرافيا لرولان بارت .

تم انتداب أنور مغيث ليتولى إدارة المركز القومى للترجمة فى يونيو سنة 2014، بعد أن أقال وزير الثقافة الأسبق الدكتور محمد صابر عرب، مديرة المركز السابقة الدكتورة رشا إسماعيل، بسبب خلافاتها المستمرة مع العاملين والتى وصلت إلى حد اتهامهم بالبلطجية.. واجه مغيث بعد انتدابه مشكلات كبيرة كان عليه أن يجد حلولا لها، فلم يقف مكتوف الأيدى وتصرف بكل حكمة، ومع ذلك لم تفارق الابتسامة وجهه، وبدأ بحل مشكلات العاملين بالمركز أولا، وكان حريصا على مخاطبة ودهم والاستماع إلى شكواهم وفتح صفحة جديدة معهم وأقفل على كل الماضى.. بعد مشكلة العاملين بالمركز، كانت هناك مشكلة كبرى تتعلق بالمترجمين الذين انتهوا من ترجمة كتب منذ أكثر من 5 سنوات ولم تتم طباعتها حتى تقلد إدارة القومى للترجمة، وعلى الرغم من أنهم قد حصلوا على مستحقاتهم المالية.. واجه مغيث خللاً كبيراً وكتباً متراكمة متأخرة، فحاول مسرعاً لانتهاء من كل الترجمات المتكدسة ليتم طبع الكتاب فور انتهاء المترجم منه، وعلى الرغم من الميزانية التى لم تكن تسمح وقتها لاستيعاب مترجمين جدد، فقد فتح مغيث الباب لأى مترجم للتعاون مع القومى للترجمة، ليصبح لدى المركز 120 كتاباً مقترحاً للترجمة، كما كان يتمنى وقت تقلده منصبه، ووجد وقتها أن الميزانية الخاصة بالمركز لا تسمح إلا بترجمة 70 كتابا فقط خلال العام 2014م.

أما فيما يخص موضوع الترجمة فى عالمنا العربى المعاصر، فيؤكد أنوار مغيث بأن: إيقاعها ينتظم مع إيقاع التطور الفكري العام فى المجتمع. ففي فترة النهضة والبحث عن سبل التحديث، كان هناك احتفاء بالترجمة، وفي فترة الليبرالية اهتمت دور النشر الخاصة بترجمة الأدب سعياً إلى الربح، وكان لهذا الاهتمام دور كبير فى تنشيط الحياة الأدبية العربية المعاصرة، كذلك في مرحلة بناء الدولة الوطنية. وفي عصر سيطرة الدولة على النشاط الثقافي كان هناك كما يقول أنور مغيث أيضاً اهتمام بالترجمة، ولكن بتوجيه مباشر من الدولة.

أما في عهد الهيمنة الفكرية للإسلام السياسي فيقول أنور مغيث:" لقد أُهملت الترجمة إهمالاً تاماً بمباركة وتأييد من رجال الدين السلفيين، وبمباركة للأسف من بعض المثقفين الذين تعاملوا مع الترجمة باعتبارها استلاباً وتبعية فكرية. واستمرت هذه الروح عقوداً طويلة، ولم ينتبه العرب إلى غفوتهم فى مجال الترجمة إلا بعد ظهور الإحصائيات المهينة التى تقارن حصيلة الترجمة الضئيلة في العالم العربى بالمقارنة بإسبانيا أو اليونان أو إسرائيل، فانطلقت مبادرات دعم الترجمة وتشجيعها في العالم العربى، وعلى رأسها المشروع القومي للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة بمصر. ولكن على الرغم من نهوض حركة الترجمة إلا أنّ الواقع أقل كثيراً من المأمول".

وقد سئل أنور مغيث من قبل بعض الصحفيين المستنيرين من أمثال يوسف هريمه هذا السؤال: أكد جورج طرابيشي في كتابه هرطقات أنّ بدايات الترجمة في الإسلام كانت مع دولة العباسيين بشكل خاص. هل تتوافقون مع هذا الطرح الفكري؟ وكيف قتلت حركة الترجمة في الإسلام، لتفسح المجال أمام تراث قضى على كل ما هو فلسفي تنويري في تاريخنا؟

وهنا أجاب أنور مغيث قائلا: بالنسبة إلى بدايات الترجمة، علينا أن نميز بين انتقال المعارف والترجمة، وكانت آراء أرسطو وأفلاطون معروفة في الشام وفي الإسكندرية، وبعضها متداول في اللاهوت المسيحي، ولكن ترجمة الأعمال بدأت في العصر العباسي بتشجيع من الخلفاء، وكانت موجهة بشكل عام إلى الرياضيات والعلوم والفلسفة، بالإضافة إلى ترجمات أخرى كانت تتم بمبادرات فردية. فلقد طلب الفيلسوف الكندي من أحد المترجمين السريان أن يترجم له محاورة طيماوس لأفلاطون. ولقد فتحت هذه الترجمات المجال للإسهام العربي الحقيقي في تاريخ الإنسانية، فأغلب الإسهامات العربية فى الرياضيات والبصريات بل وحتى اختراعات العدسات والمرايا الحارقة كانت عبارة عن تعليقات وهوامش على كتب العلماء اليونان المترجمة من اليونان أو من مدرسة الإسكندرية. وبالمثل في الفلسفة التى دخلت فى طور جديد عندما اقترنت بمفهوم للكون يتبنى فكرة الإله الخالق. أما نكوص حركة الترجمة، فقد حدث بسبب حملة الفقهاء على العلم وعلى الفلسفة وميل الحكام إلى أخذ جانب الفقهاء بحثاً عن شرعية دينية لحكمهم، وبالطبع كان لهذا أثر كارثي في التطور الفكري داخل الثقافة الإسلامية.

كذلك سُئل أنور مغيث هذا السؤال: يقال بأنّ الترجمة خيانة في مستوى من مستوياتها. هل الترجمة هنا نص مواز للنص الأصلي؟ أم مختلف؟ كيف تقرؤون هذا الأمر من منظور فلسفي؟

وهنا أجاب مغيث قائلاً: الترجمة ليست خيانة.. ولكن من الطبيعي أنّ المعنى لا ينتقل بكامله. ولدى المترجم شعور بأنّ هناك بالضرورة ترجمة ممكنة أفضل من تلك التي أنجزها. وهو شعور ينتاب المترجمين الذين يقدمون على ترجمة الشعر والنصوص المقدسة. أمّا بخصوص النص الناتج عن الترجمة فلا أتصور أنّه نص مواز، فمن المعروف أنّ التوازي معناه أنّ النصين لا يتلاقيان مهما امتدا. ولكن نقاط التلاقي كثيرة بين النص المترجم والنص الأصلي. وعلى الرغم من ذلك فهما ليسا متاطبقين. فالترجمة ليست استنساخًا ولا إعادة انتاج ولا صورة طبق الأصل. إنّها بمثابة حياة جديدة. إنّها تعطي النص حياة جديدة في سياق جديد. فالترجمة هي أكثر آليات انتقال الأفكار فعالية. فالبيان الشيوعي مترجمًا إلى العربية ليس نًّصا موازيًا للبيان الشيوعي بالألمانية، وليس صورة طبق الأصل منه وليس نصًّا مختلفًا. ولكن الترجمة أعطت للنص مهمة جديدة. إذ تحول بعد ترجمته إلى صيحة لتحرر الشعوب من الاستعمار بعد أن كانت مهمته تحرر الطبقة العاملة من البرجوازية. وكذلك الحال مع برجسون الذي كان فيلسوفًا لليمين الرجعي في فرنسا فإذا به يصبح بعد ترجمته إلى الألمانية فيلسوفًا لليسار غير الماركسي في ألمانيا. أمّا عن الآفاق المعرفية التي تفتحها عملية الترجمة فيكفينا أن نتذكر السؤال الذي طرحه شلايرماخر وهو بصدد ترجمة محاورات أفلاطون إلى الألمانية، فكان يتساءل: أيهما أفضل، أن يصطحب القارئ ليعيش في عصر أفلاطون، أم يأتي بأفلاطون ليعيش في ألمانيا في القرن التاسع عشر؟ وانتهى بأن فضل الاختيار الأول. ولكن هما على أيّ حال استراتيجيتان في الترجمة، فالمترجم ينقل النص إلى لغته وهو مهموم بمشكلات عصره. والترجمة بهذا المعنى تسمح بتجاوز حدود التاريخ والجغرافيا.

وأخيراُ وعلي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الدكتور أنور مغيث بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكر مبدع في أعمال كثيرة ومتنوعة، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته بطوله وعرضه لخدمة الثقافة العربية، وأثري حياتنا الفكرية بكل ما قدمت من جهود.

تحيةً لأنور مغيث الذي  لم تستهويه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

بارك الله لنا في أنور مغيث قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه "أشباه المفكرين" (كما قال أستاذي عاطف العراقي)، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليها ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.............................

المراجع

1-  غادة قدري: الدكتور أنور مغيث.. عام من الإنجازات  (مقال).

2-  يوسف هريمة: أنور مغيث: الترجمة في البلدان العربية؛ الواقع والمآل – مؤمنون بلا حدود ..

3- مايكل مدحت يوسف: د. أنور مغيث، أوراق فلسفية (بحث).

4- د. أنور مغيث: التأويل وثراء النص (مقال بالأهرام المصرية).

5-  د . انور مغيث: هل الانفصال حل ؟ (مقال بالأهرام المصرية).

6-  د . انور مغيث: عصر الاشتباه (مقال بالأهرام المصرية).

7-  د . انور مغيث: لماذا نقرأ الفلاسفة القدماء؟ (مقال بالأهرام المصرية).

 

 

في المثقف اليوم