شهادات ومذكرات

محمد عبد العظيم طلب.. فيلسوف الاقتصاد (3)

محمود محمد علي"الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا"

لقد وجَّهت جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19) ضربة موجعة إلى اقتصاد عالمي يعاني بالفعل من الهشاشة.  ومع أن النطاق الكامل للآثار البشرية والاقتصادية للجائحة لن يتضح قبل مرور بعض الوقت، فإن الخسائر في هذين المجالين ستكون كبيرة. وتجعل مواطن الضعف القائمة بالفعل على صعيد الاقتصاد الكلي بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية عرضةً لاضطرابات اقتصادية ومالية، وقد يحد هذا من قدرة وفعالية المساندة على صعيد السياسات في وقت تشتد فيه الحاجة إليه. وحتى مع وجود مساندة السياسات، فمن المتوقع أن تكون التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا طويلة الأمد

ومن هذا المنطلق نحاول أن ندرس منهجية محمد طلب حول دراسة الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا؛ حيث يقول: منذ الوهلة الأولي لظهور جائحة كورونا أدرك الجميع أنها ليست فقط أزمة صحية بل لها آثار اقتصادية خطيرة. ولذلك سرعان ما عكف الاقتصاديون سواء فرادى أو من خلال فرق عمل ومراكز بحوث على إجراء دراسات هادفة إلى الوصول إلى توقعات عن الأثر الاقتصادي للجائحة. ولكن مع الأسف خرجت التوقعات متضاربة وغير دقيقة ولا تتمتع بدرجة عالية من المصداقية. فعلى سبيل المثال وطبقا لدراسة صندوق النقد الدولي في إبريل الماضي توقع الصندوق انكماشا في الاقتصاد العالمي خلال هذا العام بنسبة 3 ٪؛  أي أن الناتج المحلي الإجمالي للعالم سوف ينخفض عما كان عليه قبل أزمة كورونا بما يعادل 3 ٪.

وتم تقدير الخسائر الاقتصادية تبعا لذلك بما يساوي 9 تريليونات من الدولارات. وهذا الأداء الكارثي للاقتصاد العالمي يعد في نظر محمد طلب الأسوأ منذ الكساد الكبير الذي ضرب الاقتصاد العالمي في ثلاثينيات القرن الماضي . ثم عاد الصندوق أخيراً وغير توقعاته وأصبح أكثر تشاؤما حيث قدر معدل الانكماش بمقدار 4.9 ٪،  مع تباين بالطبع في المعدلات الدولية عن هذا المتوسط العالمي.

فأمريكا مثلا يتوقع أن يكون معدل النمو الاقتصادي لها بالسالب بما يعدل ٨٪، أما الصين فسوف تحقق نموا موجبا رغم الأزمة بنسبة 1٪، وهو معدل يقل كثيرا عما كان عليه قبل الأزمة ولكنه على كل حال ليس سالبا كما يقول محمد طلب ؛أي أن الناتج المحلي للصين سوف يزيد عما كان عليه بنسبة 1 ٪.

وفيما يتعلق بمصر فقد كانت توقعات الصندوق في إبريل أن يكون النمو موجبا بمعدل 2 ٪، وإن كانت التوقعات تميل الآن كما يقول محمد طلب إلى تخفيض المعدل إلى 1 ٪، وهو أقل بكثير عما كان عليه قبل الأزمة ورغم انخفاض المعدل إلا أنه لا يتوقع لها الدخول في الركود الاقتصادي . وقدر الصندوق خسائر العالم من كورونا عن هذا العام والعام القادم بحوالي 12 تريليونات من الدولارات .

ورغم إن تفاصيل التوقعات المختلفة سواء الدولية أو المحلية ليس من أهدافه كما يقول محمد طلب؛ فضلا عن أن جوجيل يوفرها بكرم شديد ! ولكن ما يود لفت الانتباه إليه هو ضعف وعدم كفاءة أساليب التقدير ولذلك خرجت التوقعات غير مرضية بالمرة . البعض يستخدم أسلوب قبل وبعد الأزمة في التقدير؛ وبالتالي يجري عملية التوقع . وطبقا لهؤلاء يتم مقارنة الوضع قبل أزمة كورونا وبعدها أو أثناءها ويرى أن التغير مسؤول عنه الجائحة فإذا انخفض الناتج أثناء كورونا عما كان قبله اعتبر هذا التغير بسبب كورونا ! فيقومون بعمل التوقعات عن فترة قادمة طبقا لما حدث في فترة ماضية وهذا أسلوب معيب .

فالظواهر الاقتصادية يحكمها متغيرات كثيرة ونحن نعيش كما يقول محمد طلب في عالم ديناميكي متغير ومن غير المعقول افتراض ثبات كل المتغيرات ما عدا صدمة كورونا ! والبعض الآخر يقدر ما يحدثه كورونا من أثر اقتصادي طبقا لما أحدثته أزمة صحية مشابهة وقعت في الماضي وهذا أيضًا أسلوب غير معقول فأزمة كورونا تختلف تماما عن باقي الأزمات. والبعض الثالث من الاقتصاديين يعتمد على خبرته النظرية وقدرته التحليلية.

النظرية الاقتصادية وحدها لا تساعد على تقدير الأثر فضلا عن توقعه .فغاية ما تسعى إليه النظرية كما يقول محمد طلب هو تحديد العوامل المؤثرة في ظاهرة اقتصادية ما مثل معدل النمو الاقتصادي ونوع الأثر الذي يحدثه كل عامل من هذه العوامل أي إن كان الأثر سلبا أو إيجابًا ثم تقف النظرية هنا. ولذلك تعتبر النظرية الاقتصادية هي المرحلة الأولى لدراسة علم الاقتصاد يتلوها دراسة الاقتصاد الرياضي والتحليل الإحصائي وصولا إلى علم الاقتصاد القياسي . والاقتصاد القياسي كما يقول محمد طلب هو بيت القصيد وبدونه لا نستطيع دراسة الأثر وتقديره كميا وتوقعه في المستقبل. ولتطبيق الأساليب القياسية للتقدير والتنبؤ لابد من مرور فترة زمنية كافية وتوفير بيانات عن المتغيرات الاقتصادية لها درجة عالية من المصداقية !

هل يجب على الاقتصاديين الانتظار لفترة طويلة يتاح عنها بيانات عالية الجودة لكي يتم دراسة الأثر الاقتصادي لكورونا بالأساليب القياسية الأكثر كفاءة ؟ الإجابة بالقطع لا كما يقول محمد طلب. ولكن يجب عند إجراء التوقعات بالأساليب الأخرى الأقل كفاءة ألا تأخذ صيغة التأكد بل تتم في إطار السناريوهات التي تختلف طبقا للفترة المتوقعة لسريان كورونا ومدى احتوائه وامكانية وتوقيتات وجود علاج ولقاح ..الخ كل سيناريو له توقعاته الاقتصادية وعلينا أن نصمم السياسات الاقتصادية طبقا للتوقع أو السيناريو الأسوأ . فيما عدا ذلك علينا أن نتعامل بحذر شديد مع التوقعات المبنية على حالة التأكد أي التي تجرى بدون سيناريوهات متعددة حتى لو كانت صادرة من مؤسسات دولية يتوفر لها ما لا يتوفر لغيرها من قدرات بشرية ومادية ..

وثمة نقطة أخري مهمة وجديرة بالإشارة نود أن نناقشها هنا في إطار حديثنا عن الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا، ألا وهو عن الكساد الكبير وركود كورونا ؛ حيث يقول محمد طلب: بوغت العالم بالكساد الكبير الذي ضرب الاقتصاد العالمي لمدة عشر سنوات 1929-1939 حيث استمر النشاط الاقتصادي في الانخفاض فانخفض الإنتاج العالمي بشدة وارتفعت معدلات البطالة ارتفاعًا كبيرًا .

والمباغتة هنا كما يقول محمد طلب لم تكن قاصرةً على عامة الناس بل شملت عموم الاقتصاديين والتنفيذيين ! ويرجع سبب المفاجأة إلى أن الفكر الاقتصادي كان مستقرا عند رأي المدرسة الكلاسيكية في أن الكساد غير ممكن الحدوث وإن حدث انخفاض في الإنتاج أو بطالة فيعتبر أمرا عاديا وعارضًا سرعان ما يزول بفضل قدرة الاقتصاد على التصحيح الذاتي بدون تدخل حكومي .

فعند الكلاسيكيين العرض دائما يخلق الطلب، فما على المنتجين إلا الاستمرار في الإنتاج ولا يخشون حدوث الكساد، لأن عملية الإنتاج كما يقول محمد طلب يتولد عنها دخول لمن شارك فيها تتمثل في دفع الأجور وإيجارات الأرض المستخدمة والفوائد والأرباح، هذه الدخول تستخدم في شراء السلع، فالعرض بالتالي يخلق الطلب ! وإذا افترضنا كما يقول محمد طلب حدوث بطالة مثلا فإن الأجور ستنخفض وهو ما يشجع المستثمرين على التوسع في التشغيل وتزول بالتالي البطالة من تلقاء نفسها بدون حاجة لتدخل حكومي تراه المدرسة الكلاسيكية ضارا بالنشاط الاقتصادي.

باختصار كان الكلاسيكيون لا يعتقدون في حدوث كساد أو ركود عام متزامن في كل الدول يستمر لسنوات ؛ وعندما حدث الكساد الكبير بالمخالفة لتوقعات الاقتصاديين الكلاسيكيين، دفع الباحثين كما يقول محمد طلب إلى إعادة النظر في توجهات المدرسة الكلاسيكية وظهر الاقتصادي الانجليزي الشهير جون ماينارد كينز .

بدأ كينز يوجه سهامه للمدرسة الكلاسيكية وبعد أن اطمأن إلى نجاحه في هدم أركان هذه المدرسة أو هكذا كان يظن قدم نظريته في تفسير الكساد الكبير وكيفية علاجه وذلك في كتاب صدر عام 1936 تحت عنوان " النظرية العامة في التوظف والفائدة والنقود " وقد أسس كينز وأتباعه كما يقول محمد طلب ما أصبح يعرف بالمدرسة الكينزية في مقابل المدرسة الكلاسيكية .

وطبقا لـ "كينز" كما يري محمد طلب فإن العرض لا يخلق الطلب كما يدعي الكلاسيكيون بل الطلب هو الذي يخلق العرض ! فعلى قدر الطلب ينتج المنتجون ويزيد بالتالي التشغيل والعمالة. ويقل الإنتاج وتزيد البطالة عندما ينخفض الطلب على المنتجات أي أن الطلب هو المتغير الحاكم أو المستقل والإنتاج والتشغيل متغيران تابعان . وأطلق كينز على هذا المتغير المستقل الطلب الكلي الفعال، وهو الطلب كما يقول محمد طلب على المنتجات بغرض الاستهلاك وبغرض الاستثمار . ويشترك في الطلب الكلي الفعال كل من الأفراد والحكومة . ويزيد الطلب الاستهلاكي الخاص بزيادة الدخل .

والحكومة تستطيع التأثير في الطلب الاستهلاكي الخاص من خلال الضرائب والإعانات أي السياسة المالية؛ أما الطلب الاستثماري الخاص فيتحدد بعاملين كما يقول محمد طلب: توقعات المنتجين بالأرباح ومعدل الفائدة فيزيد الطلب الاستثماري بزيادة توقعات الأرباح وانخفاض معدلات الفائدة وبالتالي تستطيع الحكومة زيادة الاستثمار الخاص عن طريق بث روح التفاؤل عند المنتجين بتخفيض الضرائب وتقديم إعانات للمنتجين المتعثرين والعمل على تخفيض معدل الفائدة، فيرى كينز أن الحكومة ممثلة في البنك المركزي هي المتحكمة في سعر الفائدة من خلال تحكمها في عرض النقود أي سياستها النقدية .

ظهر الآن دور فاعل للحكومة وهو ما نادى به كينز، فعلى الحكومة كما يقول محمد طلب أن تتدخل في النشاط الاقتصادي بزيادة الطلب الكلي سواء بزيادة الإنفاق العام أو بتشجيع الطلب الخاص الاستهلاكي والاستثماري . وبزيادة الطلب الفعال بالتدخل الحكومي النشط سيزول الكساد الكبير .

ظلت المدرسة الكينزية مهيمنة على الفكر الاقتصادي كما يقول محمد طلب حتى ظهور المدرسة النقدية بزعامة استاذ للاقتصاد شهير بجامعة شيكاغو حاصل على حائزة نوبل وهو ميلتون فيريدمان الذي نجح هو وأتباعه في إعادة المدرسة الكلاسيكية في ثوب جديد، فتراجع الفكر الكينزي كثيرا وظهرت الحرية الاقتصادية والنظام الاقتصادي الحر كما يقول محمد طلب . وهيمنت المدرسة النقدية منذ منتصف الستينيات بفضل جاذبيتها والتماسك البنياني لنظرياتها على الباحثين الاقتصاديين ودوائر صنع القرار محليا وعالميا، إلى درجة أن بعض الدارسين يرون أن جاذبية الفكر النقدي كانت من أسباب التعجيل بتفكك الاتحاد السوفيتي والتسابق الدولي نحو تطبيق النظام الاقتصادي الحر.

منذ الكساد الكبير ظهرت موجات كثيرة من الرواج والركود الاقتصادي فيما يعرف بالدورات الاقتصادية كما يقول محمد طلب، وهذه الدورات الاقتصادية المتكررة تميز التاريخ الاقتصادي لمعظم دول العالم ولكن لم يصل الركود أبدا في حدته واستمراره إلى حالة الكساد الكبير .

ظهرت جائحة كورونا فأصيب الاقتصاد العالمي بركود اقتصادي وارتفاع كبير في معدلات البطالة ؛ ويحلو للكثيرين كما يقول محمد طلب مقارنة حالة الاقتصاد العالمي الراهنة بما كانت عليه أثناء الكساد الكبير ويشطح البعض ويعتبر أننا نعيش حالة كساد تشبه الكساد الكبير .

وبدون الدخول في جدل علمي مكانه ليس هنا فيمكن القول كما يؤكد محمد طلب بأن حالة الركود الاقتصادي التي يعيشها العالم الآن هي الأكبر منذ الكساد الكبير ولكن لم تصل في حدتها إلى وضع مماثل لما كانت عليه أثناء الكساد الكبير . ومن ناحية أخرى، إن كان السبب في حدوث الكساد الكبير محل جدل كبير ولكن سبب الركود الراهن معروف وليس موضع خلاف كما يقول محمد طلب. ومن ناحية ثالثة، فترة سريان الركود الراهن لن تطول بإذن الله فهي محددة بوجود الوباء وتنتهي باكتشاف علاج أو لقاح للفيروس أو رحيله اختياريا بانتهاء دورته ؛ ويقدر علماء الفيروسات أن اللقاح يحتاج لفترة اقصاها عام ونصف العام كما يقول محمد طلب ... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم