شهادات ومذكرات

معا في بلاط الخان الأعظم!!..

يسري عبد الغنيالإسكندر الأكبر، ويوليوس قيصر، ونابليون بونابرت، رجال تتبادر أسماؤهم إلى الذهن كأكبر الفاتحين في التاريخ، ولكن هناك فاتحًا آخر إذا ما قورنوا به بدا عملاقًا وسط الأقزام، ذلك هو جينكيز خان، الذي تمكن منذ أكثر من 754 عامًا (نحن الآن في 2016 ميلادية) من أن يقهر نصف العالم المعروف وقتذاك، لقد قام على رأس جنوده الجبابرة باكتساح القارة الأسيوية، وتمكن من أن يخضع لسلطانه المنطقة الواقعة بين بحر الصين العظيم والبحر الأسود .

ولابد أن الخان العظيم كان، قد صار أبعد من ذلك خلال فتوحاته، وأحدث من الدمار والخراب في حروبه وغزواته أكثر مما أحدثه أي قائد حربي آخر, وهذا بالطبع سلوك مرفوض مستهجن.. ومع ذلك فإن جينكيز خان لم يكن جنديًا ماهرًا فحسب، بل كان حاكمًا عاقلاً ذكيًا، و كانت الإمبراطورية العظيمة التي أسسها من القوة بحيث بقيت بعد وفاته، و الواقع أن حفيده القوي كوبلاي خان, تمكن من اقتحام طريقه إلى الشرق الأوسط، واستولى على بغداد عاصمة الدولة العباسية، التي كانت تعتبر المركز الثقافي لأسيا الصغرى .

إمبراطور لجميع الرجال:

أطلقت على جينكيز خان مدة حياته أسماء عديدة، فقد سمي بالجزار القوي والسوط الإلهي وسيد التيجان والعروش، كما سمى هو نفسه إمبراطور جميع الرجال، ولكن اسمه الحقيقي لم يكن يزيد عن كلمة تيموجين، وقد ولد عام 1162، وكان والده زعيم إحدى القبائل المنغولية العديدة المنتشرة في صحراء جوبي بأواسط أسيا، فكيف إذن تمكن ابن أحد زعماء القبائل العاديين من أن يخرج من غياهب صحراء جوبي المجهولة، ويسير إلى أقصى أطراف العالم؟!

عندما بلغ تيموجين الرابعة عشر من عمره، توفي والده، فآلت إليه زعامة القبيلة، ولكن أفرادها قابلوه في بادئ الأمر بالثورة والاحتقار بالنسبة لحداثة سنه، غير أن تيموجين تمكن من أن يبث روح الإخلاص في نفوس قبيلته، وأن يصوغهم في وحدة قتالية متماسكة أشد التماسك .

وهكذا تمكنت قبيلته من إخضاع القبائل المنغولية الأخرى، وكانت كلما أخذت شهرة تيموجين تتزايد، كلما تزايد انضواء القبائل الأخرى تحت لوائه, وفي عام 1206 حدث أن اتحد جميع المنغوليين لأول مرة في التاريخ تحت لواء قائد واحد، عندما أجمعوا أمرهم على انتخاب تيموجين، وخلعوا عليه لقب جينكيز خان، وجينكيز معناها المحارب الكامل، وبذلك أصبح جينكيز خان أبًا لكل منغولي، فأخذ يتطلع بأنظاره إلى أفاق بعيدة، إلى البلاد ذات الثروات الخيالية، وأهمها بالطبع كاثاي أي الصين .

جيش منظم ومكاسب جديدة:

ظلت القبائل المنغولية طيلة سنوات تتطاحن أمام جدران الصين المحكمة، ولكن في عام 1211 استخدم جينكيز خان السلطات الجديدة التي منحها له قومه، فقام بتنظيم شرازم قواته العظيمة، وجعل منها جيشًا منظمًا مرعبًا، وتقدم به في عمق الدفاعات الصينية، يعمل النهب والتقتيل جنوبًا في كل ما يصادفه في طريقه، وقامت قواته البربرية الهمجية في إخضاع ونهب المقاطعات الواحدة تلو الأخرى من مقاطعات الإمبراطورية الصينية القديمة ذات الحضارة العريقة، وفي عام 1215 عاد ليستقر في صحرائه المنغولية، تاركًا وراءه أحد قواده ممن كانوا موضع ثقته التامة، للمحافظة على ما اكتسبه من سلطان .

والى هنا كانت أطماع جينكيز خان مقصورة على شرقي أسيا، ولكنه ما أن عاد إلى الصحراء المنغولية، حتى ترامت إليه روايات عن أراض في الغرب، بها مدن تفوق في بهائها وجمالها كل ما شاهده من قصور ومعابد في بلاد الصين الشاسعة .

إلى بلاد خوارزم:

وعليه فقد قام في عام 1219 بعبور جبال هندو كوش، وكانت تلك الجبال الرهيبة منذ قديم الأزل تحجب أهالي الصحراء عن حضارات غرب أسيا، وفي الجانب الآخر من تلك الجبال تقع إمبراطورية الخوارزم الإسلامية العظيمة، التي تمتد من نهر الإندوس شرقًا إلى بغداد العاصمة العراقية غربًا، ومن بحيرة الأورال شمالاً إلى الخليج العربي جنوبًا، فقاد جينكيز خان قواته في مسيرة خيالية بعد أن عززها بقوات من الصين التي غزاها، وعبر بها الصحراء والجبال .

لقد كان ظهور هذا القائد المخيف على مشارف بلاد الخوارزم مفاجأة تامة لأهلها، وقد تمكن جينكيز من التفوق على الحاكم المسلم / محمد شاه، وسرعان ما تهاوت المواقع الإسلامية الواحد بعد الآخر، من أوترار، وكوكند، وبخارى، وسمرقند، وميرف، ونيسابور، وبلخ، وهراة .

وتوفي محمد شاه، وطورد خلفه جلال الدين حتى بلاد الهند، وفي عام 1221، عاد جينكيز إلى منغوليا منتصرًا، بينما قام اثنان من خيرة قواده هما : تشبي نوين، وسوبوتاي بهادور، باستئناف زحفهم المنتصر من الشاطئ الجنوبي لبحر قزوين إلى شبه جزيرة القرم، فدخلوا بلغاريا، بل لقد وصلوا إلى البحر الأدرياتيكي .

البلاط الصحراوي:

كان بإمكان جينكيز خان أن يتخذ من إحدى المدن الجميلة في بلاد فارس أو بلاد الصين عاصمة له، ولكنه بدلاً من ذلك فضل مدينة قرقورم، وهي مدينة منعزلة في هضبة منغوليا الجافة، وكان جينكيز قد ولد في تلك المنطقة بالقرب من بحيرة بيكال، وفيها تعلم فنون القتال، وإليها عاد عام 1227 ليقضي آخر أيام حياته، ومن المحتمل أن يكون جينكيز خان قد أقام بلاطه في تلك البقعة، لأنه أراد أن يبقى على روح المغامرة، وتحمل المشاق التي غرستها حياة الصحراء في نفوس أتباعه من البدو .

أقول لكم: لم يكن جينكيز خان يعرف القراءة والكتابة، ولكن احتكاكه بالثقافتين الصينية والفارسية جعله يدرك أهمية هاتين الثقافتين، وأنه لابد من أن يحصل على مساعدة أو معونة الرجال المتعلمين لحكم إمبراطوريته الضخمة، ولذلك دعا إلى بلاطه عددًا من رجال العلم الأجانب، كان من أبرزهم ليو شو تساي، أحد حكماء الصين والذي أصبح الرفيق الدائم للخان ومستشاره الخاص، كما أنه جند أعدادًا ضخمة من الحرفيين والفنانين من مختلف البلاد التي قهرها وأحضرهم إلى قرقورم، فكان منهم النجارون، والموسيقيون، والأطباء، كما تم نقل الكميات الضخمة من الغنائم التي كان يسمح لرجاله البدو بالاستيلاء عليها بعد الانتهاء من كل معركة، وأحضرها إلى قرقورم، وقام بتشييد العديد من المباني الدينية داخل المدينة، ذلك لأنه كان يسمح لجميع رعاياه بأن يزاول كل منهم عبادته وفقًا للديانة الخاصة به، أي أنه أعلى من قيمة حرية العبادة والتدين .

أقم جينكيز خان حول جدران المدينة صفوفًا من الخيام، كانت بمثابة الثكنات العسكرية لأفراد جيشه، يقيمون فيها بين الحرب والأخرى، وفي فترات الهدوء تلك كان جينكيز خان ينظم رحلات الصيد الشاقة، لكي يحافظ على حسن تدريب قواته، ودوام لياقتهم البدنية .

ومن قرقورم أصدر (ألياسا)، وهي مجموعة القوانين العظيمة التي كانت تحكم جميع مظاهر الحياة لأتباعه، والتي بموجبها تمكن من السيطرة على إمبراطوريته المترامية الأطراف سيطرة قوية، كما ركز في قرقورم جهاز بريده الرائع الضخم، وقد أقيمت سلسلة من المحطات تربط بين طرفي الإمبراطورية، وكانت هناك مجموعة من أمهر الفرسان أو قل جهاز مخابراتي استطلاعي يحيطه علمًا بكل ما يجري في جميع أركان الإمبراطورية لحظة بلحظة.

 

يسرى عبد الغنى

 

في المثقف اليوم