شهادات ومذكرات

جان دارك.. عندما تكون الحرية ثمنًا!

يسري عبد الغنيفي عام 1415 م، المعروف باسم عام أجنكور، استطاع جيش الملك هنري الخامس المتهافت المنهك، أن يهزم سرية من الفرسان الفرنسيين أوفر منه عددًا، ولم يفقد أكثر من مائة من رجاله، وبعد ذلك بخمس سنوات وقع هنري الخامس معاهدة في مدينة (تروي) بإقليم شمبانيا، أعطته نصف فرنسا في الحال، ووعدًا بتقلد العرش الفرنسي في المستقبل .

وقد بدا أخيرًا وكأن هدف الملوك الإنجليز العديدين في العصور الوسطى بات مكفول التحقيق، وأن شعار زهرة الزنبق متمثلاً في زاوية الراية إلى جانب شعار الأسد الإنجليزي، سوف يعني لا مجرد طموح وحلم، بل حقيقة سياسية واقعة .

ومع ذلك، ففي خلال 35 عامًا من معاهدة تروي، كان كل ما يحتفظ به الملك الإنجليزي من التراب الفرنسي، هي بلدة كاليه المحصنة، فكيف حدث هذا ؟! .

إن هنري الخامس، الفاتح الكبير ولكن المنعدم الضمير كما يصفه التاريخ، توفي عام 1422 م، ووريثه لا يتجاوز الشهر التاسع من عمره، وكانت كبريات الأسر في إنجلترا نهمة متعطشة إلى السلطان والنفوذ، وبوجود ملك لا يعدو أن يكون طفلاً، فقد بدا محتملاً في إمكانهم تحقيق ما يصبون إليه من قوة الشأن، وقد استطاع شقيق هنري الخامس، دوق (بدفورد)، أن يمسك بالزمام بعض الوقت، حتى هزم الفرنسيين مرة أخرى عند (فيرني)، وقد تم تتويج الطفل هنري السادس ملكًا على فرنسا عقب وفاة شارل السادس الذي وصف بالمجنون، وبدا وكأن العاصفة يمكن تجنبها.

ولعله كان من المحتمل أن يتحقق هذا لفترة من الوقت، بالرغم من الجماعات المتنافسة المتطاحنة حول العرش الإنجليزي، لولا أن ظهرت على المسرح فتاة صغيرة غير عادية .

كان مولد جان دارك عام 1412 م، في قرية (دومريمي) على حدود إقليمي (شمانيا) و(اللورين)، وكان أبوها مزارعًا بسيطًا، نشأ أبناءه تنشئة قويمة على الأخلاق الفاضلة وحب الوطن، ولما كان هو نفسه رجلاً متدينًا تقيًا، فقد حرص على أن يذهب الأبناء إلى الكنيسة بانتظام، وأن يلقنوا تعاليم الكنيسة، ولكن حدث ذات يوم، في نفس صيف 1424 م، الذي وقعت فيه معركة (فيرني) وانتصر فيها الإنجليز، حدث في هذا اليوم، وكانت جان دارك تلعب وتتسابق مع أترابها في المروج الخضراء المجاورة لنهر (ميز) أن سمعت فجأة صوتًا غريبًا يقول لها : ” اذهبي قدمًا ! وسوف يتم كل شيء وفقًا لما تأمرين ” !! .

ومنذ تلك اللحظة، تغيرت حياة جان دارك كلها، إنها لم تعد بعد مجرد صبية فلاحة تؤهل لحياة الكدح والزواج، كانت أينما ذهبت، ومهما فعلت، تلازمها الأصوات التي سمعتها، ناصحة، أمرة، مشجعة، وقد وجهت إليها أمرًا واحدًا فوق ما عداه من الأوامر : مؤداه أنها هي التي قدر لها أن تطرد الإنجليز المحتلين البغيضين في أرض فرنسا إلى الأبد .

وكان عليها أن تلبس دروع الجندي المحارب، وتقوم بتتويج ولي العهد بوصفه الملك الشرعي لفرنسا، وتتولى قيادة الجيوش الفرنسية ضد الحصون الإنجليزية المنبثة في الجزء الشمالي من فرنسا، وعندما أخبرت جان دارك صواحبها بهذه الأوامر الغريبة والمروعة، لم يقولوا لها إلا أنها فتاة مجنونة أو مخبولة .

في عام 1429 م، سمع ضابط في الجيش الفرنسي يدعى (روبير دي بود ريكو) هذه الصبية الغريبة، وهي تقول: ” أنا جان دارك من (دو ميريمي)، وعندي شيء غريب جدًا أقوله لك . إن الله هيأ لي أن أسمع صوته، وأمرني أن أنقذ فرنسا، فخذني في الحال إلى الملك ” !! .

وشيئًا فشيئًا، غدا روبير بدريكو مقتنعًا بأن جان دارك ليست مجنونة أو مدعية أو كاذبة، ولكنها أداة ملهمة من الله، وفي خلال أيام قلائل، كانت جان دارك واقفة أمام ولي العهد غير المتوج في (شينون) وهي أبعد ما تكون عن التهيب أو الخوف، وقد واجهت شارل السابع ـ طبقًا لما اعتزمت أن يسمى بهذا اللقب ـ دون أدنى وجل، إنها حددته من بين أفراد حاشيته بالرغم من محاولاتهم إخفاء شخصيته، وهتفت قائلة : ” أنت الملك، باسم الله، إذا لم يكن منك ألا أن تفعل كما أقول لك، فإن الإنجليز سوف يطاردون ويطردون، وسوف يعترف بك الجميع ملكًا على فرنسا ” .

وفي مواجهة هذا الذي بدا معجزة، اقتنع ولي العهد اقتناعًا تامًا، وقرر برغم الشكوك التي هجست في صدور بعض أتباعه، أن يمنحها ما طلبته، وهو قيادة الجيش الفرنسي، ودون تردد من جانبها، أعلنت أنها تقودهم لنجدة المدينة التي كان يحاصرها أكبر الجيوش الإنجليزية، أي مدينة أورليان .

ظلت مدينة (أورليان) مدى ستة أشهر، وهي تقاوم هجمات الإنجليز عليها، بيد أن الإنجليز أخذوا يضعفون، وقد قررت جان دارك القيام بهجوم شامل، وهكذا زحفت على رأس جنودها مهاجمين، وقد ارتدت كسوة مدرعة ذات بريق، وظلت المعركة تضطرم تحت أسوار المدينة مدى ثلاثة أيام كاملة، وتراجع الإنجليز وتحررت المدينة، وأصبحت جان دارك بطلة الساعة .

ولكن جان دارك لم تقنع بهذه النجدة العارضة، وهذا الخلاص الوقتي، فتبعت الإنجليز حتى مدينة ريهمس، وحررتها أيضًا، وفي اليوم السابع عشر من شهر يوليو 1429 م، جرى تتويج شارل السابع ملكًا لفرنسا .

كان الإنجليز بدورهم قد عقدوا العزم على وضع حد، بطريقة ما، لوجود هذه الفتاة الشجاعة، ولم يلبثوا أن سنحت لهم الفرصة التي كانوا ينشدونها في بلدة (كومبلجين) على مقربة من باريس، فقد وقعت الفتاة جان دارك في الأسر إبان إحدى المعارك، وقرر الإنجليز محاكمتها بتهمة الهرطقة، أي الانشقاق على المعتقدات المقررة والمعمول بها، وكذلك لكونها ساحرة، وفقًا لعريضة اتهامهم لها .

ومثلت جان دارك أمام محكمة كنسية، ورفضت أن تنكر مسألة الأصوات التي كانت تناديها، وقالت إنها أصوات إلهية، فكيف يمكن أن تنكرها وتتبرأ منها !!؟، ومن أجل هذا لم يكن بوسع المحكمة أن تتجاوز عنها، وكان من رأي القضاة أن الإله لا يتكلم إلا من خلال الكنيسة، وليس من خلال عقول فتيات فلاحات ناشئات، ولا بد أن هذه الأصوات من عند الشيطان !!! .

وهكذا سيقت جان دارك إلى ساحة السوق ببلدة (روان)، وأحرقت كساحرة في صباح اليوم الثلاثين من شهر مايو عام 1431 م، وفي لحظة عذابها، كانت شجاعة لم يتطرق إليها الخوف أو الفزع، وبينما كان أحد الجنود يوثق يديها إلى المحرقة، أخذت تردد الكلمات التي طالما قالتها مرات عديدة أثناء محاكمتها : ” إن كل ما فعلته إنما كان بأمر الله ” .

إن حياة البطلة جان دارك الحربية كانت قصيرة بصورة يرثى لها، بيد أنها أعطت فرنسا حياة جديدة، فارتد الجنود الإنجليز المتذمرون إلى بلادهم، وفي إنجلترا كان المسرح هناك معدًا أو مهيئًا لنشوب ما عرف بحروب الورود، على حين كانت فرنسا توشك أن تستفتح عهدًا جديدًا لسلسلة من الملوك، كان مقدرًا أن يعيدوا القوة والسلطان للعرش، والوحدة للبلاد .

وفي خلال هذا كله، كانت الحياة القصيرة للفتاة المحاربة / جان دارك، سليلة إقليم (اللورين)، بمثابة ومضة إلهام مثيرة مذكية لفرنسا كلها .

إن لسان الحال قصة جان دارك، يقول لنا : إن الله سبحانه وتعالى، يخاطبنا جميعًا في كل زمان ومكان، أن نعمل على حرية بلادنا، فحرية البلاد تعني حرية العباد، وحب الوطن الحقيقي يكون في العمل بكل الجهد والطاقة على وحدته و أمنه واستقراره ورقيه وتنميته وتقدمه، من أجل واقع أفضل لنا ولذوينا، إن الله جل شأنه يريد لنا جميعًا الأفضل والأحسن دائمًا وأبدًا .

وبعد موت جان دارك بخمسة وعشرين عامًا، أعيد بحث قضية محاكمتها، وصدر القرار بنقض الحكم وإبطاله تمامًا، وفي السادس عشر من شهر مايو عام 1920، أعلن البابا بنيدكيت الخامس عشر، أن جان دارك أصبحت في عداد القديسين، وعلى هذا فإن كنيسة الروم الكاثوليك تعتقد أن الأصوات التي كانت تناديها هي أصوات حقيقية .

ولعلك تتذكر معي أن الكاتب الإنجليزي الكبير / جورج برنارد شو كتب مسرحية سماها : جان دارك، تحكي قصة حياة عذراء أورليان، وهناك مسرحية أخرى عن القديسة / جان دارك، هي مسرحية جان أنوي، المسماه (القنبرة)، في حين كتب الألماني / برتولد بريخت، مسرحية طريفة عن القديسة جان دارك العصرية، هي مسرحية: القديسة جان دارك في حظائر الذبائح .

 

بقلم: د.يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم