شهادات ومذكرات

يوسفنا عاد

طاهر ناصر الحمودعثروا على احمد يوم امس، بعد 40 عاما من اختفائه، اذ كانوا يحسبونه قد اعدم مع عائلته في السجن، حين كان طفلا سنة 1980، لكن عثروا عليه حيا ببغداد ولله الحمد.


 

لست ادري كيف ومن اين ابدأ حديثاً عن جرح رافقني وأهل بيتي اربعين عاماً ثم شاء الله تعالى له البرء بعد هذي السنين الطوال. جرح فقدان الطفل ذي العامين احمد ابن اخي الشهيد جواد الذي (اعتقل) مع امه وأبيه وشقيقه حيدر ذي الاربعة اعوام ونصف

في ايلول سنة ١٩٨٠ فقدنا اثره منذ ذلك الحين، منذ تمكنت جدته أمي رحمها الله من تهريب شقيقه حيدر من السجن في واقعة هي أقرب للمعجزة منها للحادثة الطبيعية.

بعد مرور اكثر من شهرين على اعتقال اخي جواد وعائلته؛ زوجته وولديه بالاضافة الى شقيقي الاخر عبد الرضا وابن شقيقتي طالب وخالة حيدر الذين كانوا جميعاً في بيت اخي ابي حيدر حينها في بغداد وأعدموا اثر ذلك كلهم، سمعتْ والدة ام حيدر من احدى النساء في منطقتنا بمحلة الجمهورية في البصرة ان أمن صدام جاؤوا بالنساء المعتقلات من حزب الدعوة الى سجن النساء في الزعفرانية، وان أم حيدر هي ضمن هؤلاء المعتقلات، وكانت قريبة هذه السيدة نزيلة في هذا السجن على خلفية قضية لاعلاقة لها بمعارضة النظام، فاتفقت معها والدتي على القدوم الى بغداد والذهاب الى السجن بذريعة مواجهة السجينة العادية ومحاولة اللقاء بأم حيدر المعتقلة في جناح معزول عن السجينات العاديات، لكن مع ذلك كان هناك فرصة ضئيلة للتلاقي بين سجينات كلا الجناحين عند الذهاب الى دورة المياه. وبعد ان اتفقت هذه السيدة مع قريبتها على اخبار ام حيدر بقدوم والدتي ووالدة ام حيدر لمواجهتها في المرة القادمة ذهبت الحاجّتان معها الى سجن الزعفرانية باعتبارهما خالتي السجينة، ولم يكن التحرك داخل السجن امام اعين الحراس وعناصر امن النظام بالأمر السهل لكن الله سبحانه يسّر لهما اللقاء بزوجة اخي لدقائق معدودة كانت حداً فاصلاً لتقرير مصير الولدين وإنفاذ مشيئته تعالى بخروج حيدر من بطن الحوت وبقاء شقيقه ينتظر تقدير الله للقاء باهله وشقيقه. خاطبت ام حيدر والدتي بالقول:" عمة اخذي واحد من الولد وياج" فوقع الاختيار على حيدر لانه الأكبر سناً والأقدر على ضبط انفعالاته فلايبكي او يطلب امه عند الخروج من السجن فيعرض والدتي للاحراج.. مع ذلك لم يكن اخراجه من السجن سهلاً لان الداخلين لمواجهة اقربائهم من السجناء تختم ايديهم في العادة للتمييز بينهم وبين السجناء، وعندما خرجت والدتي بعد انتهاء الزيارة تحقق الحارس من وجود الختم فاكتشف ان يد حيدر تخلو منه فسأل والدتي عن ذلك، فأجابته بثقة ان موظفي السجن انفسهم لم يختموه عند الدخول فاضطر لتصديقها وسمح لها بالذهاب.

1845 احمد الموسويخرج حيدر وبقي احمد مع أمه التي أعدمت وهي الحامل في شهورها الاخيرة. بقي احمد ليكون جرح الأسرة الذي لم يندمل يوماً والمأساة التي لم تقوَ الاعوام الاربعون على محوها او التخفيف من وطأتها، مأساة عاشها الجميع وورثها الابناء عن الآباء الى ان كان ذات مساء وتحديداً يوم الجمعة المصادف ٢٥ أيلول ٢٠٢٠ مساء اتصلت احدى الاخوات بزوجتي وسألتها عن حيدر وعائلته وعن شقيقه احمد وقصتهما ثم طلبت الحديث معي واستفسرت مني بعض التفاصيل عن قصتهما، وكانت بذلك تمهد للخبر الصادم، وقالت اريد ان أخبرك بشيء ارجو ان تتماسك وتضبط اعصابك عند سماعه: احمد موجود وهو قريب منك في الكرادة !صُدمت عندما سمعت قولها وانعقد لساني فلم استطع مواصلة الحديث لفترة وشرد ذهني وحاولت بصعوبة التركيز في حديثها وغرقت في عرق غزير . وواصلت الاخت حديثها : ان صورة المنشور الذي حظي بانتشار واسع في الفيس بوك الذي تحدث فيه شقيقه حيدر عن مأساته ومأساة اخيه احمد نُشرت في الكروب النسائي المشارِكة هي فيه رأتها احدى السيدات المشاركات فاتصلت بها واخبرتها ان صاحب هذه الصورة حي يرزق وانها اخته بالتبني، وعرفت ان هذه الصورة تعود لاحمد لدى مقارنتها بالصور التي التقطوها له في الايام الاولى بعد العثور عليه مع طفل اخر اسمه فراس يكبره بعامين وانهم عرفوا من هذا الطفل ان اسمه احمد بعد ان سمعوه يناديه بهذا الاسم. وقالت انها زودتها برقم تلفونها للاتصال بها.

أن تتواجد أخت أحمد بالتبني في الكروب الذي نشرت فيه صورته وتقرأ ماكتب حولها من تعليق لتقرر بعدها الاتصال والاعلان عن بقاء احمد على قيد الحياة ليس مصادفة او أمراً عارضاً، بل انني على يقين تام لايخالجه أدنى شك ان الله سبحانه شاء بهذا التدبير ان تنتهي مأساتنا في فقده عند هذا الحد وان يعود وهو الذي عرف في وقت مبكر نسبياً ان له أهلاً سوى هذه الاسرة الكريمة التي تبنته، ان يعود الى اهله وشقيقه وكل محبيه 

اللقاء بأحمد

بعد انتهاء المكالمة مع الاخت التي ابلغتني بخبر العثور على احمد وكانت الساعة وقتها الحادية عشرة ليلاً اتصلت زوجتي بأخت احمد بالتبني وسألتها عن امكانية المجيء الى بيتهم في هذا الوقت لرؤية احمد فأخبرتها ان احمد موجود في بيت العائلة حيث توجد اختها الكبرى واعطتها رقم تلفون الاخت، فاتصلت بها زوجتي واخبرتها برغبتنا في المجيء لرؤية احمد، فرحبت هذه السيدة الفاضلة بطلبنا وعبرت عن فرحتها وطيبة قلبها حين قالت انها لاترحب بقدومنا فقط بل هي تتمنى ان تطير لتخبرنا بهذا الخبر السعيد. وصلنا الى بيتهم الساعة الثانية عشرة واستقبلنا احمد...... كان صنو شقيقه حيدر في حركاته وايماءاته، في نبرة صوته، واكتشفت في مارأيت وسمعت ولمست سلطان الوراثة وسطوتها ليس في المرئي والمسموع فقط بل كذلك في الخصال التي قد يختلف الناس في مسؤولية الوراثة عنها، حقيقةٌ اخذت تتكشف لي كل يوم منذ التقيناه الجمعة وحتى اليوم الخميس الاول من شهر تشرين الاول رغم ان احمد وبسبب مشكلة الوثائق الثبوتية لم يتجاوز تعليمه السادس الابتدائي

1845 احمد الموسوي 2

كيف تم العثور على احمد؟

حكت لنا أخته الكبرى بالتبني قصة العثور على احمد فقالت: كان والدي مختاراً للمحلة فأُخبر من قبل مركز شرطة السعدون بالعثور على طفلين، والمعتاد في مثل هذه الحالات ان مركز الشرطة يحتفظ بالاطفال الضائعين في النهار ويرسلهم للمبيت في بيت مختار المحلة ليلاً حتى يتم العثور على ذويهم. ولما ذهب المختار ليأتي بالطفلين الى داره وجد احمد وقد تسلّخ جلد رجله وفراس قد تأذت احدى ركبتيه، ولم يعرف السبب في ذلك وإن كان المرجح ان قسوة عناصر الامن هي السبب، وليس بمستبعد ان يكون غلاظ الاكباد هؤلاء قد ألقوا بهما من السيارة قبل توقفها تماماً. وبعد أيام من التنقل بين مركز الشرطة وبيت المختار وعدم العثور على اهل الطفلين او ظهور من يسأل عنهما قرر هذا الرجل الطيب تبنيهما وضمهما الى أهله وعياله، وقرار التبني كما روت القصة اخت احمد بالتبني كان لحظة مفعمة بالعاطفة والشجن ومليئة بالنبل والنخوة من جانب هذا الرجل الطيب حين سأل والدها الطفل فراس وهو الاكبر عن عائلته وابيه فأجابه ببراءة : انت أبي! عندها قرر الرجل الاحتفاظ بهما والاحسان اليهما ومعاملتهما كأولاده حتى وافاه الاجل عام ١٩٨٥ وأوصى بهما اهله من بعده، فكانوا له نعم البررة في حفظ وصيته والوفاء لها وبها.

تزوج احمد ابنة خاله بالتبني وله منها ابنان وبنتان ووضعه المادي مستقر فهو يعمل ككاسب ناجح في السوق، ويحتفظ بعلاقات وثيقة للغاية مع الاسرة التي تبنته، وعلاقته اكثر من وثيقة مع فراس الذي تزوج بسيدة قريبة من الاسرة نفسها. كان احمد فرحاً بنا غاية الفرح لكنه مع ذلك لم يشأ ان يفرض نفسه علينا، فلعله رأى ان بين رؤيته والتثبت من انتمائه فسحة تحوم فيها الظنون وتتحاور فيها القلوب فشاء ان يمنحنا اياها، وقد أشعرني هذا السلوك بغصة في حلقي ولم تزد هذه اللمسة التي لطالما عرفتها وخبرتها انطباعنا الاول بانتمائه الينا الا رسوخا. لم نكن بحاجة لهذه الفسحة للتأكد من انه احمدنا، فحركاته وسكناته وكل شمائله تُحيل الى شقيقه حيدر الذي اخبرته بالامر صباح اليوم التالي.....

بقي ان اقول ان فراساً يحتفظ بذكرى أشبه بالحلم عن اهله ومنزلهم الذي يقول انه كان قريباً من بيت شقيقي ابي حيدر في منطقة الحبيبية، ويقول ان الذكرى الوحيدة التي يحتفظ بها عن اهله هي ان والدته كانت تحمله في مكان مظلم وهي تبكي بخوف وحرقة، ويتذكر انه كان يلعب مع احمد بدراجة اطفال حمراء، واكد حيدر وجود هذه الدراجة لديه هو حين كان يلاعب شقيقه احمد بها. نرجو ان يكون هذا رأس خيط للعثور على اسرة هذا الرجل الذي شاب رأسه وهو يبحث بإلحاح عن أهله وذويه، فكم من فراس يبحث عن بقية اهله بعد ان أباد نظام البعث آباءهم وذويهم المقربين؟!!

 

طاهر ناصر الحمود

(أبو رضوان الموسوي)

30/9/2020

 

في المثقف اليوم