شهادات ومذكرات

منصور فهمي.. شيخ التفسير السوسيولوجي للنسوية الإسلامية (1)

محمود محمد عليفي السادس والعشرين من مارس سنة 1959 فقدت مصر، بل فقد  الوطن العربي، علماً من أعلام الفكر، ورائداً من رواد النهضة الحديثة، وهو الدكتور منصور فهمي .لقد كان رحمه الله فيلسوفاً عميق التفكير، وأديباً مرهف الحس والشعور، وباحثاً واسع الاطلاع علي تراث السلف الأدبي والفلسفي، وعلي وسائل النهضة الأوربية الحديثة، وداعياً من دعاة الإيمان بالله، وحب الوطن، وطلب العلم، والإصلاح الاجتماعي، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، ولا يجهل أحد من أدباء الجيل الحاضر تلك الشخصية الفذة التي مثلت أجمل تمثيل جانب النبل والمروءة والصلاح والخير في جيلها وذلك علي حد قول مصطفي الشهابي.

قال عنه أستاذنا الدكتور بيومي مدكور :" عرفت الفقيد الكريم منذ ربع قرن أو يزيد . عرفته أستاذا وعميداً، مجمعياً وزميلاً، محاضراً وخطيباً، كاتباً وباحثاً، محدثاً ومناقشاً، عرفته فعرفت فيه حماساً بالغاً لما ارتضته نفسه واطمأن إليه هواه . ولم يضعف هذا الحماس في شئ تقدم السن ولا مرور الأيام . حتي لقد كان يقف في شيخوخته  مواقف تعز علي بعض الشباب . عرفته فعرفت فيه التصويب إلي الهدف والحرص علي الغاية . إن تعلق بأمر سعي إليه ما وسعه، وقصد إليه من مختلف جهاته . عرفته فعرفت فيه السباق إلي القول والراغب في مخاطبة الجماهير. ولا يتردد في أن يرفع الصوت جهرة إن حانت الفرصة أو دعا إلي ذلك داع. عرفته فعرفت فيه قوة العارضة والمثابرة في الدفاع عن الرأي . وكم سمعته يدافع عن وجهات نظر معينة، دون أن يمل تكرارا أو يخشي لججا في الخصومة . عرفته فعرفت فيه أخيرا العربي المستمسك بعروبته، المدافع عن أمجاده.

كما قال عنه محمد توفيق دياب بأنه :" شخصية جليلة عزيزة .. عاشقة للغة العربية .. كان يغضب إذا غامزها غامز، كما يغصب للشرف إذا أُهين وللدين إذا مس، فهو في ذلك إنسان محتدم العاطفة، مشوب الحماسة، شديد الحساسية .. لقد عرفتك منذ خمسين عاما أيام طلب العلم في بلاد الغرب . عرفتك ثم صادقتك ثم سعدت بإخائك، لم أخف عليك شائبة، ولم أعرف لك انحرفا عن طريق الخير والحق والكمال، وإنك لتسمع اليوم كلماتي المقصرة العاجزة، ولكنك تمس اخلاصي واخلاص المجتمعين لتحيتك . وعما قريب سألحق بك، وتهنأ روحي المتواضعة بلقاء روحك العالية، وكل آت قريب.

وحول فلسفته حاول محمود تيمور فى كتابه "ملامح وغصون" الربط بـين حيـاة منصور فهمى وأفكاره الفلسفية؛ فهو يري" إن حياة منصور فهمى ونفسيته موصولة أوثــق الاتصال بمـا يدرسـه من الفلسفة وقواميسها ولاسـيما الجانب الأخلاقي منها ... فقد دارت فلسفته حول محور الخيـر والشر فى طبيعـة البشـر، ومـدى اسـتطاعة الإنسان أن يكثـر من الخير ويتجنب الشـر بما يتمسك به من أصول الأخلاق.

ويوضح طـه حسين الذى كان بينه وبين منصور فهمى مناظرات ومساجلات  فى القسم الخامس من كتابه "من بعيد" أثر ثقافـة منصور فهمى الفرنسية ودراسته الفلسفية الاجتماعية فى كتاباته، مبينا تأثره بفريقين من الفلاسفة: فلاسفة القرن الثامن عشـر فى فرنسا، وفلاسـفة الاجتماع فى أواخر القرن الماضي وأول هذا القرن:  روسو صاحب الشعور الدقيق والعواطـف الحـارة والمزج المضطرب والخيـال الخصب، ودوركـيم صاحب العقـل المستقيم والمـنهج العلمي الدقيق. يقول طه حسين: "لو أنني أردت أن أحدد تأثير روسو فى خطرات منصور فهمى لأشرت إلى هذا الطموح الظاهر إلى مثـل أعلى من الخير يلتمسه منصور كما كان يلتمسه روسو فى الطبيعة الحرة الساذجة التي لم تفسدها الحضارة".

ولد منصور فهمي في متنصف العقد التاسع من القرن التسع عشر في تلك الفترة من تاريخ مصر الحديثة المليئة بالألآم والآمال . ويمكن أن نقسم حياته إلي مرحلتين واضحتين كما قال الدكتور إبراهيم مدكور : مرحلة الإعداد والنشأة، ومرحلة النضج والإنتاج . وامتدت المرحلة الأولي إلي نحو الثلاثين سنة بداها بالالتحاق بمدرسة المنصورة الابتدائية علي مقربة من مسقط رأسه . وانتقل بعدها إلي القاهرة لمتابعة دراسته في مدرسة فرنسية حرة حصل فيها علي شهادة الدراسة الثانوية سنة 1906 واجتذبه الفقه والتشريع، فالتحق بمدرسة الحقوق دون أن يمكث فيها طويلا . ذلك لأن الجامعة المصرية القديمة أعلنت عن بعثة للفلسفة إلي جامعة باريس، فتقدم لها، وفاز بمسابقتها.

وسافر سنة 1908 إلي أوروبا حيث قضي خمس سنوات نهل فيها من حياض العلم والأدب، فلم يقنع بالدراسات الفلسفية التي سافر من أجلها، بل ضم إليها بعض الدراسات العلمية كالجغرافيا الطبيعية، والفسيولوجيا، وعلم الأجنة ، وكأنما شاء أن يستكمل وسائل منهج الدراسات الاجتماعية التي كانت سائدة في السربون حين ذاك . وتتلمذ لأكثر من عالم وفيلسوف . وتأثر خاصة بـ" ليفي بريل" أحد أقطاب المدرسة الاجتماعية الفرنسية في أوائل هذا القرن، وكللت دراساته بالنجاح وحصل علي شهادة الدكتوراه .

ولم تصرفه قراءاته الأجنبية عن مصادر الثقافة العربية التي نهل منها في طفولته وشبابه واستمر يرجع إليها طول حياته . فتوفرت له بذلك ثقافة شرقية وأخري غربية . وأجاد الفرنسية اجادته للعربية وألم بقليل من الإنجليزية والفرنسية . وكل تلك أدوات صالحة للبحث والدراسة . وكل تلك أدوات صالحة للبحث والدراسة . وأتيح له قبل عودته إلي مصر أن يطوف ببعض بلاد أوروبا فكانت الرحلة كتابا آخر أفاد منه إلي جانب ما درس وقرأ .

وقبل أن أنتقل إلي المرحلة الثانية من حياته، لا بد لي أن أشير إلي حادث رسالته للدكتوراه وكان موضوعها :" مركز المرأة في الإسلام La condition de la femme dans l`Islamisme وكان طبيعيا أن يختار موضوعا كهذا في جو تحرير المرأة المصرية في ذلك التاريخ الذي تزعمه قاسم أمين وزملائه . إلا أن إدارة الجامعة التي أوفدته رأت أنه جري علي قلمه عبارات تتنافي واحترام التقاليد الدينية . وسعت جاهدة إلي منع تقديم رسالته ز ولكن منصور فهمي الشاب أبي عليه حماسه إلا أن يسير في الشوط حتي النهاية . فنوقشت الرسالة، ونال عليها أعلي درجات الشرف.

قدّم منصور فهمي أطروحته للدكتوراه إلى جامعة السوربون في ديسمبر/كانون الأول 1913، تحت عنوان «حال المرأة فى التقليد والتطور الإسلامي»، التي صدرت بعدها في كتاب بالفرنسية بعنوان «أحوال المرأة في الإسلام» ــ لم يُترجم حتى عام 1997، وصدر ضمن منشورات دار الجمل. ترجمة رفيدة مقدادي ــ والموضوع كان في ذلك الحين حديث الساعة، فقد كانت المرأة ترسف في أغلال ثقيلة من الحجاب، لم تكن مفروضة عليها من الدين نفسه، ولكنها كانت أثراً من آثار التقاليد في العصور المتأخرة من حياة المسلمين، ورأي أحرار الفكر؛ وعلي الطهطاوي وقاسم أمين صاحبا الفضل في تحرير المرأة، وصاحبا الفضل في إنشاء الجامعة المصرية، أن نهضة الشرق وبعث المسلمين لا يمكن أن يتم إلا بتحرير المرأة . ولقي احرار الفكر المنادون بهذا التحرير معارضة من انصار التقاليد المتمسكين بها، وأصيب قاسم أمين برذاذ من هذه المعارضة.

كما أصيب منصور فهمي أيضا ؛ وليس أدل علي ذلك من أنه وقبل مناقشته الرسالة بأيام ورد إلى الجامعة المصرية تقرير يقول إنها رسالة معادية للإسلام، كما إنها تحت إشراف أستاذ يهودي ـ المقصود ليفي برول ـ عندئذ طلبت إدارة الجامعة منه تأجيل المناقشة، إلا أنه لم يستجب، ونوقشت الرسالة فى موعدها المحدد، بعدها عاد إلى مصر، لتكون في استقباله حملة شنتها صحف السلطة والأزهريون والسياسيون الرجعيون ضده، وكانت الاتهامات الموجهة إليه أنه ملحد وعدو للدين ومفسد للشباب وذيل للمؤامرة اليهودية على الإسلام. وفي النهاية وجد نفسه مفصولاً من الجامعة المصرية.

وأبعد من منصبه وظل مبعداً عنه ست سنوات، ولم يعد إلي منصبه إلا في عام 1920 ولم يجد الرجل سوى الاختباء في قريته حتى قيام ثورة 1919، ليحاول بعدها العودة إلى الجامعة، لكنها كانت عودة مشروطة بأن يعتذر، أو بمعنى أدق يُعلن توبته عما اقترفه عقله، فأذعن قائلاً «يظهر أنني انحرفت قليلاً، حيث كانت معلوماتي عن الإسلام طفيفة، وحين قوبلت في مصر بضجة كبرى ازددت عناداً، ثم كتب الله أن أجلس طويلاً مع بعض مشايخ العلماء من ذوي الأفق الواسع والصدر الرحيب، فبدأت أخلص من الزيغ لأعود إلى حظيرة الدين والحمد لله». حتى أنه انتقد أطروحته بعد ذلك في عدد من المقالات نشرها في بعض الصحف والدوريات.

وعندما عاد إلي عمله ظل يدرس الفلسفة إلي أن تحولت الجامعة المصرية إلي جامعة حكومية، وأصبح أستاذا مساعداً، ووكيلاً لكلية الآداب، ثم عميداً لها، ولم يترك العمادة إلا ليشغل منصب مدير دار الكتب، ثم اختير مديراً لجامعة الإسكندرية، وبقي بها حتي أحيل إلي المعاش سنة 1946.

وفي سنة 1933 اختير عضوا بالمجمع اللغوي، وفي العام التالي أصبح كاتب سر المجمع، وظل في هذا المنصب إلي أن اختاره الله لجواره سنة 1959... وللحديث بقية

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

......................

1-  دياب، محمد توفيق: المرحوم الدكتور منصور فهمي، مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، مجمع اللغة العربية، ج14، 1962.

2-أحمد عبدالحليم عطية: فهمى "منصور" والتأسيس للأخلاق الإجتماعية، أوراق فلسفية، ع 51، 2016.

3- محمد عبد الرحيم: منصور فهمي صاحب «أحوال المرأة في الإسلام»: محاولة التثوير الفكري ومصيرها البائس .. مقال بالقدس العربي.

4-الأهواني، اكرام أحمد فؤاد: منصور فهمي، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة - كلية الآداب، مج 19، ج2، 1957.

 

 

في المثقف اليوم