شهادات ومذكرات

وداعا هاني المرعشلي.. المفكر التنويري

محمود محمد عليبقلوب حزينة وأعين ذرفت منها الدموع، ودعنا مساء  الخميس الماضي (الموافق 26 نوفمبر 2020) بعد صراع شجاع ومثالي مع المرض أخاً وصديقاً وأستاذاً عزيزاً علينا، ألا وهو الأستاذ الدكتور هاني عبد الوهاب المرعشلي (أستاذ الفلسفة الإسلامية المتفرغ بكلية الآداب - جامعة طنطا بجمهورية مصر العربية)، غادرنا جسداً لكن ذكراه ستبقي طيبة، مثمرة  ما بقيت الجامعة بين طلبته وزملائه وبين محبي الفلسفة والمعرفة . عرفناه لطيفاً، خدوماً، عميقاً في بحثه، جدياً في عمله، موسوعياً في اطلاعه، ووالله  لهو في نظري نعم الرجل المتميز، والمنهل الثر، والمفكر التقدمي، والمنظومة المتكاملة من العطاء، وهو أيضاً أحد الرموز الثقافية بمصر والعالم العربي ؛ وهو ليس مفكرًا عاديًا أو باحثاً كان مبتغاه أن يحصل على المعلومة ويحنطها، لقد كان أبعد من ذلك حيث غطت معارفه مجالات مختلفة.

يعد هاني المرعشلي من المفكرين المصريين المعاصرين الذين نذروا حياتهم للفلسفة، حيث عاش راهباً يؤمن بأن رسالته الخالدة، هي أن يبحث عن الحقيقة بين ما جادت به تأملات الفلاسفة والحكماء في كل العصور، غير أن رحلة البحث عن الحقيقة عند من خبروها من أمثال الدكتور هاني المرعشلي كشفت لنا علي أنه صاحب رؤية فلسفية عميقة وخصال فريدة، علماً وتفكيراً، منهجاً وتحليلاً، عمقاً واتساعاً، إخلاصاً وعطاءً، طهراً ونقاءً، ولاءً وانتماءً، موقفا والتزاماً،  فله في كل هذه الخصال وفي غيرها مما يصعب حصره، الباع الطويل والنصيب الأوفر .

ولد هاني المرعشلي ( مع حفظ الألقاب) في السادس من أغسطس عام 1947 م بمدينة الإسكندرية بحي الأزاريطة، وقد حصل علي شهادة ليسانس الآداب ( فلسفة حديثة ومعاصرة) بتقدير جيد جداً عام 1975، ثم حصل أيضاً علي درجة الليسانس في موضع بعنوان " التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر دراسة في فكر جمال الدين الأفغاني عام 1982 بجامعة الإسكندرية، كما حصل علي درجة الدكتوراه في موضوع بعنوان مفهوم الأيديولوجيا في الفكر الحديث والمعاصر .

وفي الثالث من مارس عام 1984 عين مدرساً مساعداً بكلية التربية بجامعة طنطا، ثم مدرساً في 1989، إلي أن أحيل إلي المعاش عام 2007م، وله مؤلفات عديدة من أهمهما وأشهرها سلسلة نقد العقل التجريدي في الإسلام،وكان الهدف الذي يسعي إليه في هذه السلسلة هو خلع الأرضية القديمة التي كنا ولا نزال نرتديها حتي الآن سواء بفعل المستعمر أو المستشرق أو حتي الجهل الذاتي الذي يدفعنا للانسياق وراء مقولات جاهزة وترديدها دونما بحث أو تمعن، فما يغرقنا في متاهة انعدام الوعي.

وكان هاني المرعشلي صاحب مشروع فلسفي،  ولتحقيق هذا المشروع فقد سعي في هذه السلسلة بمعارضة المعروف ومخافة المألوف، سعيا وراء هدف واحد هو : تجلي الحقيقة بوضوح، كما قام المرعشلي بقراءة جديدة للعقل التجريدي كما تجلي لدي الأفغاني – محمد عبده – محمد إقبال .. الخ . قراءة تعتمد التحليل والفحص النقدي كي تستند عملية إعادة بناء الذات علي الواقع أولا، قبل الوجود المأفول ثانياً.

وقد صدر منها عدة كتب لعل من أهمها الكتاب الأول وهو بعنوان التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، حيث حاول المرعشلي في هذا الكتاب أن يبرز لنا قضية تجديد الفكر الإسلامي وما قام به رموز التنوير والإصلاح الديني من أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده والكواكبي وغيرهم.

أما الكتاب الثاني فكان عن "المادية والليبرالية : الدين والعلم . قراءة متأنية عبر منهج تحليلي وفحص نقدي للعمل الفكري المتكامل والوحيد لجمال الدين الأفغاني وهو رسالة الرد علي الدهريين، ومن خلال تحليل المضمون يحاول المرعشلي وضع هذه الرسالة في مكانها الطبيعي من خلال محتوياتها بالإضافة إلي رؤيتها في مرآة النقاد .

وأما الكتاب الثالث والذي حمل عنوانا " العقل والدين"، فهو كتاب يختص بجمال الدين الأفغاني، ويحاول المرعشلي أن يتغلغل داخل عقل الرجل ليتعرف المرعشلي علي اتجاهاته الأساسية وأفكاره الرئيسية.. علاوة علي مشاركته في الكثير من المؤتمرات الفلسفية الدولية والمحلية داخل وخارج مصر.

وتتميز كتاباته وبحوثه بالوسطية والعقلانية، وتكشف عن تعمق كبير في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، ويتميز أسلوبه بالوضوح والمنطقية؛ ولقد شهد له كل من كتب عنه من الباحثين بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة، إلي جانب ما يتمتع به من خلق رفيع. ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثاً ومنقباً، محققاً ومدققاً، مخلفاً وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والبحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه؛ مثل الدكتور أحمد سالم، وأسماء كثيرين غيره، كانوا ينهلون من مراشف معرفته، ويتلقون عصارات تجاربه، وتحدياته الفكرية، ومفاهيمه الحديثة في الفكر الإسلامي.

وهنا لا أنسي أن هاني المرعشلي كان أحد المفكرين المصريين البواسل في معركة الدفاع عن فكر نصر حامد أبو زيد، حيث يري المرعشلي أن نصر حامد اهتم خلال رحلته العلمية بثلاث محاور رئيسة هي: دراسة التراث على أسس علمية ووضعه في سياقه التاريخي، ونقد خطاب الإسلام السياسي، وتأصيل وعي علمي بدلالة النصوص الدينية، وقد أصل نصر لهذه المحاور كما يري المرعشلي في العديد من كتبه، ومنها "الاتجاه العقلي في التفسير، وفلسفة التأويل، ونقد الخطاب الديني، ومفهوم النص دراسة في علوم القرآن، وغيرها من الكتب والأبحاث في هذا المجال". كذلك يري المرعشلي أن نصر حامد أبو زيد، كان يعتمد في موقفه من التراث، وفي القلب منه القرآن الكريم على منهج تأويلي، يرتكز على الفكر المعتزلي الذي أعلى من دور العقل في فهم وتحليل النصوص، وكذلك على التراث الصوفي؛ وخاصة التأويل عند محى الدين ابن عربي، وطبق هذا المنهج في قراءته للتراث الإسلامي بشكل واضح، مستعينًا بآليات جديدة لم تكن موجودة من قبل، فقد استفاد من المناهج الفلسفية واللغوية الحديثة، كنظرية التلقي والهرمنيوطيقا والسيموطيقا وتحليل الخطاب وغيرها.

كما كانت للمرعشلي صولاته وجولاته في الدفاع عن فكر الدكتور علي مبروك ؛ حيث يري المرعشلي أن الدكتور علي مبروك لم يكن مدرس الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، بل كان مشروعًا فكريَّا وثقافيًّا لم يمهله الوقت ليكتمل المشروع، فكان يفكر في قضايا وإشكاليات علمية خاصة بالمرحلة الراهنة فهو امتداد لمدرسة تشق طريقها في الفكر العربي بصعوبة شديدة، وهي مدرسة مُساءلة التراث بالعقل، فهو يربط القضايا التراثية بالواقع المعيش والحاضر، فضلًا عن عدم إغفاله للبعد التاريخي لهذه الظواهر.

وثمة نقطة مهمة أود الإشارة إليها وهي أن هاني المرعشلي يعد من أبرز تلاميذ حسن حنفي ؛ حيث ينظر إليه بأنه الأستاذ الرائد والمفكر الكبير الذي يترك بصماته على كل تلاميذه، ومن زمرة الفلاسفة المصريين المعاصرين الذين انطلقوا وتاريخ الذات، ولأنّها ربطت نفسها بتراث الآخر الغربي وواقعه، فوقعت في التغريب، وامتدت روافدها وجذورها في الغرب، سواء في العقلانية أو العلمانية أو الليبرالية والاشتراكية.

ويتمتع هاني المرعشلي بذكاء خارق ومقدرة ظاهرة وكامنة أتاحت له في بعض الأحيان العمل على مدى أربع وعشرين ساعة متواصلة من دون كلل، وكان حيوياً ونشيطاً في عمله،  وحيويا في تنظيمه وإدارته لكثير من الندوات الأدبية. فلا أنسي ذلك اليوم الذي نظم فيه  بيت ثقافة بالإسكندرية يوم 26 يوليو الماضي (2020) لقاءا عن الشاعر الغنائي الراحل مرسى جميل عزيز، قدمه هانى المرعشلى حيث تحدث خلاله عن نشأة مرسى جميل عزيز وتأليفه للأغاني الرومانسية مضيفاً أنه يعد رائداً من رواد الرومانسية، وصاحب كتب مجموعة من الأغاني آثرت في الوجدان وأعطت قيمة رفيعة للمستمعين منها حبك نار لعبد الحليم حافظ وأنا قلبي ليك ميال لفايزة أحمد.

رحم الله هاني المرعشلي، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

نعم رحم الله " هاني المرعشلي " الذى رحل عن عالمنا تاركاً لنا إرثاً عظيماً من الدراسات الفلسفية ممثلاً في مئات من الطلبة والعديد من الكتب والمقالات والأبحاث العلمية ... فهل نستفيد من هذا الإرث؟ أم نكتفي بقراءته والترحم على عصر جميل قد مضى؟، أم نستفيد منه لبناء المستقبل؟.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم