شهادات ومذكرات

المهدي المنجرة.. رائد فلسفة المستقبل (2)

محمود محمد عليربما يكون علم المستقبليات غريباً علي مسامع معظمنا، فالاذان التي ألفت الحديث عن النبوءات، والتوقعات الفلكية، والتنجيم، ستندهش عندما تسمع عن علم يخبرنا بالمستقبل، لكنه ولأنه علم يعتمد علي المناهج العلمية لاستقراء المستقبل والماضي أيضاً، ويستكشف سياقات التطور ليرسم صورة تقريبية لذلك المستقبل .

ويعد المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة من أعلام ورموز هذا العلم، ليس علي المستوي العربي فقط، بل علي المستوي العالمي كذلك، فحين نعيد اليوم قراءة ما كتبة المهدي المنجرة قبل عقود عن المستقبل الذي هو حاضرنا سيدهشنا كما كان مصيباً !.. كما كان دقيقاً!.. في توصيف واقعنا المعاصر.. حتي يخال لنا أننا نقرأ مقال رأي في عدد اليوم من احدي الجرائد.. تُري ما هو علم المستقبليات؟.. وكيف يساعدها علي قراءة ماضينا؟.. ولماذا نحاجه لفهم مشكلات حاضرنا وصولاً إلي مستقبل أفضل؟..

هذه الأسئلة وغيرها ما نحاول الإجابة عليها بعد أن نستأنف حديثنا السابق من سيرة المنجرة في مقالنا سالف الذكر، وهنا نقول: خلف المنجرة عدة كتابات في مختلف مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية ومنها: نظام الأمم المتحدة، ومن المهد إلي اللحد، والحرب الحضارية الأولي، وحوار التواصل " منشورات شراع"، والقدس العربي رمز وذاكرة، وعولمة العولمة، وانتفاضات في زمن الديمقراطية، والإهانة في عصر الميغا إمبريالية، وقيمة القيم... كما خلف أكثر من 600 مقال في مجالات مختلفة.

وفي تلك الكتابات والمقالات كان المنجرة من أبرز الاستشرافيين في العالم خلال الربع الأخير من القرن العشرين، فإن البعد الاستشرافي لم يكن لديه حقلا عموديا قائم بالذات، بل كان بالأحري حقلاً معرفياً أفقياً يخترق كل الحقول المعرفية الأخري . ومن ثم فإن اقتران اسم المنجرة بالمستقبليات لم يأت من باب التخصص الصرف الذي يحصر الاقتصاد في المؤشرات الاقتصادية والمجتمع في المؤشرات الاجتماعية والثقافية.. بقدر ما أتي من باب الوعي بضرورة إدماج كل هذه المؤشرات في منظومة جامعة، متداخلة ومتفاعلة في الزمن والمكان، تنطلق من حالة الظواهر في ماضيها، وتساءل تموجاتها في الحاضر وتستشرف مآلاتها ومخرجاتها وإفرازاتها في المستقبل .

كما كشف لنا أيضا المنجرة بأنه يمثل لنا:" تجربة رائدة، دوت جدران الجامعات وردهات الإعلام الحر، ورنت مسامع الحالمين بالتحرر من ربقة الاستعمار الجديد، تجربة أريد لها ان تدخل غياهب النسيان، وتطوي في مدلهمات التسطيح، في زمن بات فيه تسييج الحقائق وتنميط العقول ووأد الحقيقة شاهدا علي اغتيال مثقف الكرامة والذاكرة والإنصاف.. وهو يمثل قيمة وقامة، ورمزا لمناهضة الظلم والذل والفقر، فاستطاع أن ينقل المقررات الأكاديمية من مدرجات الجامعات والمختبرات العاجية إلي ميدان الإصلاح والتقدم والنهضة من موقع الخبير الاستراتيجي الذي لا يتوقف عند حدود التشخيص، بل يتعداه إلي التوقع والتدخل لمعالجة الأعطاب التنموية التي راكمها العالم الثالث علي امتداد مساره .

ولا ننسي أنه قد اقتران اسم المنجرة بالمستقبليات، حيث لم يأت من باب التخصص الصرف الذي يحصر الاقتصاد في المؤشرات الاقتصادية والمجتمع في المؤشرات الاجتماعية، والثقافة في المؤشرات الثقافية.. إلخ، بل أتي من باب الوعي بضرورة إدماج كل المؤشرات في منظومة جامعة، متداخلة ومتفاعلة في الزمن والمكان، تنطلق من حالة هذه الظواهر في ماضيها، وتُسائل تموجاتها في الحاضر وتستشرف ملآلاتها ومخرجاتها وإفرازاتها في المستقبل .

ولا نكاد نعثر في كتابات مهدي المنجرة، علي نصوص تأسيسية وتأصيلية لعلم المستقبل، فلأن الرجل لم يكن يشتغل علي هذا العلم لذاته، أو لتحديد مجاله وفضائه، بقدر ما كان ينطلق من أدواته وآلياته، لاستشراف مستقبل الظواهر المختلفة علي آماد زمنية محدودة . إنه كان ينظر إليه بوصفه حقلاً معرفياً يخترق كل الحقول المعرفية الأخرى، وليس بوصفه حقلا عموديا قائم الذات، مستقلاً ومتقوقعاً حول فضائه الخاص .

صحيح أننا نجد المنهجية المستقبلية جلية من ناحية المعالجة الكمية، في بعض من كتاباته، لكنها تبقي محصورة في كونها تمرينا بيداغوجيا قطاعياً كما يقول يحي اليحياوي، لا يستحضر فيها كثيرا المقاربة الشمولية والمنظومية التي كان يدفع بها ويدافع عنها في كل كتاباته . ولئن كان الرجل قد استخدم المفاهيم والمصطلحات المعتمدة والمعتادة في علم المستقبليات، في معظم الدراسات التي كانت تحيل علي هذا العلم، فلوعي مؤكد من لدنه بأن هذا الأخير لا يمكن أن يقوم أو يستقيم إلا إذا حملت مخرجاته وإفرازاته أجوبة عن ظواهر وقضايا تتموج بالشأن الجاري، من المفترض أن يتساءل المرء عن مآلاتها المستقبلية، لأنها ذات تبعات كبري علي الأفراد وعلي الجماعات .

وفي نهاية مقالي أقول تحية طيبة للمفكر المغربي الكبير المهدي المنجرة الذي كان يناضل بأفكاره من أجل تعليم منتج، وتنمية اقتصادية ترقي بكرامة الإنسان، واستثمار التكنولوجيا لصالح المجتمع .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

..................

المراجع

1-هاني، إدريس: الفجور المستقبلي: محاولة في تفكيك المستقبليات على هامش ذكرى وفاة السيد مهدي المنجرة، مجلة الدراسات المستقبلية، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، المجلد 17، العدد الأول، 2016.

3- غريب، عبدالكريم(محاور): مجلة عالم التربية تجري حوارا مطولاً مع الاستاذ المهدي المنجرة حول الاشكالات التى تعترض الحوار الحضاري الثقافي، مجلة عالم التربية، العدد 17، 2007.

3- ويكيبيديا الموسوعة الحرة.

4-اليحياوي، يحيى: المستقبل في فكر مهدي المنجرة، مجلة استشراف للدراسات المستقبلية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدد الأول، 2016.

5- د. مولاي عبد الحكيم الزاوي: عقلانية التشاؤم وتفاؤل الإرادة قراءة في كتاب " الإهانة في زمن الميغا إمبريالية " للمهدي المنجرة، مجلة ليكسوس، العدد 17، 2017.

 

في المثقف اليوم