شهادات ومذكرات

ذو النون المصري.. صاحب الأحـوال والمقامات

علي كرزازي"آثروا الله على كل شيء فآثرهم الله على كل شيء"

رأى النور في أخميم بمصر سنة 180هـ وعاش في القاهرة، هو ثوبان بن إبراهيم يكنى بأبي الفيض ولقبه ذو النون، أحد أساطين التصوف في القرن الثالث للهجرة، عدا عن كونه من المحدثين الفقهاء، إذ روى الحديث عن مالك بن أنس والليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة.

ارتحل ذو النون إلى الشام والحجاز (مكة) لاستكمال طلب العلم، لكنه عاد إلى مصر حيث استقر بالجيزة، وعن مسرى رحلاته يقول: «ارتحلت ثلاث رحلات وعدت بثلاثة علوم: أتيت في الرحلة الأولى بعلم يقبله الخاص والعام، وأتيت في الرحلة الثانية بعلم قبله الخاص ولم يقبله العام، وأتيت في الثالثة بعلم لم يأخذ به الخاص ولا العام فبقيت شريدا طريدا وحيدا ». ومن خلال استقراء المسار الصوفي للرجل استنتج الكثير من الدارسين أنه  يقصد بالعلم الأول علم التوبة وهو بلا شك علم يتقبله الخاص والعام، و العلم الثاني  هو علم التوكل والمعاملة والمحبة يقبله الخاص لا العام، في حين أن العلم الثالث هو علم الحقيقة الذي لا يدركه علم الخلق ولا عقلهم، ولذلك هجره الناس وأنكروه عليه حتى انقضت أيام حياته .

اشتهر ذو النون بفك طلاسم الخطوط المصرية الهيروغليفية قبل وصول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1789م بألف سنة على الأقل، وقد سبق في ذلك العالم الفرنسي شامبليون، كما اطلع على الفلسفة اليونانية وتأثر بالفلسفة الهرمسية والأفلطونية المحدثة. ومن أشهر مؤلفاته "حل الرموز وبرء الأرقام في كشف أصول اللغات والأقلام".

يعد ذو النون – بحسب القشيري في رسالته- أول من عرف التوحيد بالمعنى الصوفي، عدا عن كونه أول من وضع تعريفات للوجد والسماع والمقامات والأحوال.

أودع ذو النون السجن مرارا لأنه قاوم المعتزلة لقولهم بخلق القرآن، كما اتهمه معاصروه بالزندقة وألبوا الخليفة المتوكل عليه بدعوى إحداثه علما لم تتكلم به الصحابة، فاستدعاه المتوكل لبغداد سنة 829م، ويقال أنه لما دخل عليه وعظه فبكى فرده إلى مصر مكرما.

من أقواله المأثورة التي تدل على رسوخ قدمه في العلم والورع:

- «مدار الكلام على أربع: حب الجليل، وبغض القليل، واتباع التنزيل، وخوف التحويل».

- «لا تسكن الحكمة معدة ملئت طعاما».

- سئل عن التوبة فقال: «توبة العوام تكون من الذنوب، وتوبة الخواص تكون من الغفلة».

-«من تذلل بالمسكنة والفقر إلى الله رفعه الله بعز الانقطاع إليه ».

-«إن لله عبادا تركوا المعصية استحياء منه بعد أن كانوا تركوها خشية منه، أفما وقد أنذرك ».

ومن أشعاره قوله:

أموت وما ماتت إليك صبابتي

***   ولا قضيت من صدق حبك أوطاري

مناي كل المنى أنت له منى

***   وأنت الغني كل الغنى عند اقتداري

وأنت مدى سؤلي وغاية رغبتي

***   وموضع آمالي ومكنون إضماري

تحمل قلبي فيك ما لا أبثه

***   وإن طال سقمي فيك أو طال إضراري

وكغيره من الزهاد المتصوفين نُسجت حول ذي النون العديد من الخوارق والأساطير والكرامات، من ذلك مثلا ما يرويه صاحب (شذرات الذهب) من أنه لمّا توفي بالجيزة سنة 245هـ أخذت الطير الخضر ترفرف في جنازته حتى وصل إلى قبره.

رحم الله العارف بالله أبا الفيض.

 

د. علي كرزازي/ المغرب

 

في المثقف اليوم