شهادات ومذكرات

يوميات رجل هزم الكورونا بالثقافة!

ماهر عبد المحسنمثل الكثيرين من سكان هذا العالم، صحوت ذات يوم علي خبر ذلك الفيروس المرعب الذي حصد الآلاف من بني البشر في خلال أيام قليلة.. وكانت وسائل التواصل الاجتماعي وتقارير منظمة الصحة العالمية تنقل إلينا أخبار الإصابات وأخبار الموت بشكل يومي مع وجبات الإفطار ومشروبات المساء، وأحاديثنا الحميمية التي لا تخلو من المرح. فقد باتت الحقيقة التي لا خلاف عليها أن الكورونا صارت جزءاً من حياتنا، وأن أخبار الموت صارت مثل أخبار المسلسلات ومباريات الكرة، خاصة في فترة العزل المنزلي التي فرضتها الحكومات علي مواطنيها.

وأذكر أني في الموجة الأولي للكورونا تعاطيت معها ثقافياً وكتبت عن أدب الكورونا وسينما الأوبئة، وعلاقة الكورونا بالسياسة والاجتماع والدين، كما كتبت أكثر من قصيدة نثرية حول الكورونا، بالإضافة إلي مشاركتي في أكثر من حوار فكري وثقافي حول الكورونا عن طريق برامج التليفزيون والبث المباشر لمواقع التواصل الاجتماعي.

وبفعل الاعتياد تخلي الناس عن حذرهم في الموجة الثانية، الأخطر، وبدا وكأن الأمر نوع من الوهم أو المؤامرة السياسية كما كان يروج البعض، وقبل أن يتسلل إليّ الشعور نفسه، صحوت ذات صباح آخر، ومع بدايات العام الجديد، لأكتشف أني مصاب بالكورونا مع التهاب رئوي حاد علي الصدر، وأن الأمر، وفقا للأشعة والتحاليل، جد خطير، ويستلزم العزل الكامل والراحة التامة مع الالتزام الصارم ببرنامج العلاج.

بالرغم من هشاشة الفيروس، وحالات الشفاء الكثيرة المبشرة، إلا أن فكرة الموت لاحت أمامي في الأفق فجأة، لا لشيء إلا لكوني، لأول مرة أجدني في مواجهة الفيروس مباشرة دون وسيط ثقافي، فالحقيقة التي كانت حاضرة في وعيّ بقوة هي أني مصاب بالكورونا، لا أكتب عن الكورونا أو أقرأ عنها. وأذكر أني عندما هبطت من السيارة التي أقلتني من المستشفي إلي البيت وقع نظري علي محل البن البرازيلي الذي اعتدت علي طعم قهوته، وشركة الإنترنت التي كنت أسدد فيها اشتراكاتي الشهرية لمواصلة التفاعل اليومي مع العالم، ومحل الفرسان الذي أحببت مخبوزاته الشرقية وكنت أشتريها منه كل يوم بانتظام.

 وهنا بدا لي أني أودع العالم، وأني حتماً سأتوقف عن شرب قهوتي المفضلة، وتناول مخبوزاتي المحببة، والتعاطي مع العالم الافتراضي الذي أودعته أفكاري وأحلامي ومنحني الأصدقاء الأوفياء. وتساءلت إذا كنت أعاني كارثة حقيقية تستدعي التفكير في الموت، فلماذا تنحصر أزمتي الوجودية في تفاصيل الحياة الصغيرة؟!

في اليومين الأولين كنت متعباً جداً، فكنت ألف جسمي بالغطاء واتخذ الوضع الجنيني، وأطفئ أنوار غرفتي ثم أخلد إلي النوم طويلاً علي صوت القرآن الكريم. كنت أشعر بما يشبه الحمي، وأحلم أحلاماً مفككة لا تعبّر سوي عن الإجهاد وعدم الارتياح. في الليل كنت أغرق في الهلاوس،  وفي النهار كنت أفقد طعم الأشياء، وشحب وجهي حتي قال لي أطفالي إني صرت أشبه جدتهم في أيامها الأخيرة. ولأول مرة في حياتي بدأت أصلي وأنا جالس على مقعد، كالمشلول، لأن الصلاة وقوفاً كانت تشعرني وكأني أسقط من شاهق!

تناولت كماً كبيراً من الأدوية والفيتامينات وحقن الكورتيزون، وبدأت استرد شيئاً من تماسكي في اليومين الثالث والرابع، فكرت أن أعلن أني مصاب بالكورونا علي صفحتي بالفيس كي يشاركني أصدقائي محنتي ويمطروني بالدعوات، لكني سرعان ما استبعدت الفكرة، وفكرت أن أبدو طبيعياً وأتصرف وكأني في كامل صحتي، فالفيس ووسائل التواصل الاجتماعي، عموماً، ما هي إلا عوالم افتراضية مستقلة بذاتها، ولا تعكس بالضرورة واقعاً حقيقياً.

وبهذا المعني قررت، كخطوة أولي، أن أكون متواجداً علي مواقع التواصل الاجتماعي، وأن أتفاعل مع أصدقائي بانتظام، حتي المصابين مثلي كنت أبعث إليهم بدعواتي وتمنياتي بالشفاء وكأني سليم ومعاف ولا أعاني الآلام ذاتها، ليس هذا فحسب، بل إني كنت أعمد إلي إشاعة روح الدعابة والمرح بين أصدقائي كعهدهم بي دائماً. ثم بدأت ألحظ أنى، في العزل، لدي وقت طويل للتأمل دون أن يقطع علي أحد تفكيري، فبدأت أفكر في مشروعاتي الفكرية المؤجلة. شرعت فى كتابة دراسة مطولة حول "كانط والإسلام"، أحاول أن أجيب فيها عن سؤال مدى أهمية أن يكون كانط مسلماً أو أن تكون أفكاره الأخلاقية متفقة مع تعاليم الإسلام. كما كتبت عدة مقالات كنت أنشرها بانتظام في الصحف الإلكترونية في الأدب والسينما والفلسفة والاجتماع.

وأذكر أنى لمحت ولديّ الصغيرين، المحرومين من التفاعل معي يتحركان في الشقة من بعيد كالغرباء، ويلعبان على الموبايلات كعصفورين محبوسين فى قفص من ذهب. فتذكرت طفولتي السعيدة، وأشفقت على أبنائي، فكتبت مقالاً بعنوان "أبناؤنا وطفولتهم التى لم يعيشوها". ولم يكن الأمر يتوقف عند مرحلة الكتابة أو النشر، فكنت أواصل تفاعلاتي ومناقشاتي مع الأصدقاء حول ما أكتب، ما حقق لي شعوراً إيجابياً بالتعافي التدريجي بمرور الوقت.

الأشعة المقطعية الثانية أظهرت تقدماً ملحوظاً علي مستوي الالتهاب الرئوي، وأن نسبة الكورونا صارت أقل وأضعف، ويسهل التغلب عليها. تزامن ذلك مع برنامج ثقافي كنت قد وضعته لنفسي في أوقات التوقف عن الكتابة أو القراءة، فكنت أعمد إلي مشاهدة الأعمال القديمة ذات الذكريات المبهجة أو الأعمال الجديدة ذات التجارب الفنية المبتكرة. غير أن المفارقة التي لم أجد لها تفسيراً أن اختياراتي الدرامية كلها كانت مفعمة بالأمل، حدث ذلك دون قصد مني، لكن عن طريق المصادفة البحتة، ربما بفعل اللاوعي، وربما اتساقاً مع فلسفة شرقية تري أنك إذا أردت شيئاً بقوة فإن الكون كله يتحرك علي النحو الذي يحقق لك ما أردت.

ففي هذا السياق، وجدتني أحرص علي مشاهدة حلقات المسلسل الأمريكي "الهارب"، الذي كان يُذاع في الستينيات من القرن الماضي، وتدور قصته حول الطبيب ريتشارد كيمبل الذي اتُهم ظلماً بقتل زوجته، وحُكم عليه بالإعدام، غير أن القطار الذي كان يقله لتنفيذ الحكم انقلب في الطريق، وظل علي مدار ما يزيد علي المائتي حلقة ينتقل من بلد إلي بلد، ويمتهن حرف مختلفة، بحثاً عن القاتل الحقيقي، الذي لا يعرف عنه سوي كونه بذراع واحدة.

وقادتني المصادفة أيضاً إلي فيلم  "الخلاص من شاوشانك "، الذي تدور أحداثه حول المحاسب  "آندي" الذي اتُهم ظلماً أيضاً بقتل زوجته الخائنة، وحُكم عليه بالسجن لمدة خمسين عاماً، فظل يحفر نفقاً بآلة صغيرة جداً لمدة سبعة عشر عاماً حتي نجح في الهرب، وبداية حياة جديدة في أرض بعيدة. والشيء المهم في هذا الفيلم هو أن الأعوام التي قضاها آندي في السجن لم تكن تمر هباءً مثلما كان يحدث مع باقي المساجين، لأنه كان حريصاً علي ألا يفقد شعوره بالحرية رغم السجن، فكان يمارس هواياته التي يحبها داخل زنزانته، فكان يقرأ ويرسم ويستمع الي الموسيقي.

حتي فيلم الرعب  "خاطفة الأرواح" الذي لا يمكن تحميلة بأي رسالة فكرية عدا كونه فيلم رعب يهدف الي المتعة والاثارة، استوقفني فيه المشهد الاستهلالي، الذي كانت تظهر فيه صاحبة المنزل المعروض للبيع، وهي تشرح لأفراد الأسرة التي جاءت  تعاين المنزل تمهيداً لشرائه، مزاياه وختمت كلامها بأن قانون الولاية يحتم عليها أن تخبرهم بأن المنزل مسكون بالأشباح. المفارقة الكبيرة جدا التي استوقفتني في هذا المشهد، ليست فقط في التزام صاحبة المنزل بالقانون الذي من شأنه أن يضيّع عليها الصفقة، لكن في أن الأسرة وافقت علي شراء المنزل. ربما لا تتعلق المسألة هنا بالأمل، لكن من المؤكد أنها تتعلق بإرادة الحياة وقوة الرغبة في العيش والتمتع بمباهج الدنيا بالرغم من المخاطر التي يمكن أن تكتنفها.

بعد مرور أسبوع قررت أن أخبر أخي الوحيد أنى مصاب بالكورونا حتى يحتاط لنفسه. أرسلت له رسالة على الواتس، فكتب لي رسالة مفعمة بالأمل، ثم أتبعها بصورة لكم كبير من الأدوية والفيتامينات يتعاطها بانتظام، لأنه هو أيضاً كان مصاباً بالكورونا. والغريب أنه لم يجزع بالرغم من صغر سنه، وذكر لي أنه يرحب بالموت لأنه سمع أن الذى يموت بالكورونا يعتبر شهيداً، وأنه يشعر أنه أدى الدور الذى أتى من أجله إلى الحياة، وهو رعاية أمه المريضة قبل وفاتها رحمة الله عليها. طالبته بالتمسك بالإيمان بالله، فهو سبحانه الملاذ الأول والأخير، ولأنه محب للفنون، ذكرته بكلمات محمد منير "على صوتك بالغني.. لسه الأغاني ممكنه".

مشاهدة الأفلام متعة، والكتابة عن الأفلام لا تقل متعة.. وكانت وفاة وحيد حامد الكاتب السينمائي الكبير، صاحب الأعمال السياسية المتميزة، بالتزامن مع وفاة صفوت الشريف رجل المخابرات الأسبق مثاراً للجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، وبدأت تتردد الأقاويل حول التاربخ السياسى المظلم لمصر الثورة، ومعها بدأت الإشارة للأفلام السياسية ذات الأهمية الخاصة، التى منعتها الرقابة من العرض، وكان على رأسها فيلم كشف "المستور" الذى كتبه وحيد حامد وأخرجه عاطف الطيب عام ١٩٩٤.

مع بداية الأسبوع الثاني من العزل شعرت بحالة معنوية مرتفعة بعد أن اعتدت العزل وأصبح لي برنامج شبه ثابت من القراءة والكتابة ومشاهدة الأفلام.. فشاهدت فيلم "كشف المستور"، وكتبت مقالاً بعنوان "كشف المستور فى زمن الكورونا"، حاولت فيه أن أحيل القضايا السياسية التى بالفيلم إلى قضايا فلسفية تخص علاقة المرئى باللامرئي، وكيف أن كلا من أجهزة المخابرات وفيروس كورونا يستمد قوته، بالرغم من هشاشته، من كونه كيان خفي لا يمكن رؤيته ولا معرفة كيف يعمل. والغريب أن الفيلم، رمزياً، كان يقاوم القهر السياسي بالفن من خلال إذاعة أغنيات عبد الحليم حافظ وعمرو دياب فى خلفية الأحداث القاتمة، كما كنت أقاوم الفيروس بالكتابة عن هذه الأفلام.

فى اليوم التالي قرأت عن فيلم "حياة باي"  life of pi  قررت مشاهدته، ثم كتبت مقالاً بعنوان " حياة باي.. الإيمان بوصفه حكمة الحياة الكبرى"، حاولت أن أثبت فيه أن الفن قادر على أن يثبت وجود الله، كما سبق للعلم أن قام بهذا الدور. فليس فقط التفكير العقلي والمنطقي هو الذى يمكن أن يدلل على قضايا الدين والميتافيزيقا، لكن الخيال والصورة الفنية قادران كذلك، وربما بنحو أكثر إقناعاً.

فى اليوم نفسه أرسل لي أخي علي الواتس أغنية لحمزة نمرة تقول كلماتها "فاضي شوية نشرب قهوة في حته بعيدة.. نسمع نكته جديدة.. وخلي حساب الضحك عليه"..

وفاة الداعية عبلة الكحلاوي بفيروس الكورونا، أحدث تعاطفاً كبيراً من قبل الجماهير، لكنه لم يكن أمراً مزعجاً بالنسبة لي، فالمغفور لها كانت قد جاوزت السبعين، لكن دلالة الوفاة أعادت للأذهان فكرة الارتباط بين الكورونا والموت، خاصة أن مواقع التواصل الاجتماعي تطلع علينا في كل يوم بأخبار المصابين الذين يطلبون الدعاء بالشفاء، والمصابين الذين رحلوا عن الدنيا بفعل الإصابة!

نصحتني زوجتي بالإكثار من قراءة القرآن، فاستجبت للنصيحة الغالية، وكنت قد اعتدت على الصلاة مقعداً خلال الأسبوع الأول، فقررت أن أعود لصلاتي بشكلها الطبيعي..

فى الصباح الباكر أرسل لي أخي مقطع فيديو طريف يشرح كيف تقضي يوماً فى ميدان رمسيس دون أن تنفق أكثر من خمسة عشر جنيهاً!

فى المساء سمعت طبيباً  فى أحد البرامج يحذر مرضى الكورونا، الذين تجاوزوا الخمسين، من الانتكاسات التى يمكن أن تحدث لهم حتى بعد الشفاء من الفيروس، وأكد على أن كورونا فيروس مراوغ نجح في تغيير المفهوم الطبي عن الأمراض، لأنه في كل مرة يبتكر طرقاً جديدة للإصابة، بحيث لا يمكنك أن تتنبأ بسلوكه حتى تحاصره بالعلاج، ويكفى أنه لم يعد يصيب الجهاز التنفسي فقط، لكن الهضمي والقلب كذلك!

وكما لم يكن الشك أو الحيرة هو دافعي لمشاهدة فيلم "حياة باي"، كذلك لم يكن الجنون هو دافعي لمشاهدة فيلم "جزيرة شاتر" Shutter Island. فربما كانت الصدفة هي السبب أيضاً، كما سبق وأن حدث معي من قبل، وربما لأن الفيلم يجمع بين  المخرج الكبير سكورسيزي، الذى لم أشاهد له سوي تحفته الكلاسيكية "سائق التاكسى"، والنجم ليوناردو دي كابريو، الذى لم أشاهد له سوى الفيلم الأسطورة "تيتانيك".

و" جزيرة شاتر" فيلم ينتمى إلى الدراما النفسية، و ينطوى على بعد بوليسي غامض ومثير، لكن ما استوقفنى هو أداء دي كابريو العالي، وقدرة سكورسيزي على تقديم أحداث الفيلم المقبضة من خلال رؤية بصرية بديعة، ولوحات تشكيلية مبهرة. لكن تظل القصة هي البطل الحقيقي للفيلم، و التساؤل غير المعروف إجابته عن معنى الجنون؟ فهل كان تيدي مجنوناً حقاً يتوهم كل أحداث الفيلم أم كان ضحية للمؤسسة العلاجية التى يُشاع أنها كانت تقوم بغسل أدمغة المرضى كى يسهل السيطرة عليهم؟.. وربما يكمن المعني الأعمق للفيلم في شعور دي كابريو أنه ضحية مؤامرة، ورغبته المتجددة فى الهرب من العالم الذى يضعه فى دائرة الجنون، رغم قوة الحصار المضروب حوله.

والحقيقة أن فكرة المؤامرة، والسيطرة على الأدمغة ليست ببعيدة عن وباء كورونا، الذى قيل إنه نتاج للحرب البيولوجية بين الدول الكبرى التي تسعى إلى الهيمنة على العالم. بل إن المبالغة فى استدعاء فكرة المؤامرة وصل إلى حد الدعوى إلى رفض تعاطي الأمصال التى صنعتها الدول الغربية، اتساقاً مع فكرة ماسونية انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤداها القضاء على سكان العالم عدا ما يُعرف بالمليار الذهبي.

الموت إذن يهيمن على المشهد، ونهاية العالم اقتربت!

وفى الصباح الباكر يرسل لي أخي قصيده كتبها لي خصيصاً، مطلعها "أكتب.. أكتب.. متبطلش كتابة.. اتحدى ألمك بقلمك.. أوعى تخلّي أى سحابة".

علاقتي بالسينما ونجومها وطيدة، لكن علاقتي بالمخرجين العالميين كانت قد توقفت عند ألفريد هيتشوك وستيفن سبيلبرج، لأنهما ساهما فى تشكيل وعى الفنى فى مرحلتي الصبا والشباب، وبحكم الحياة العملية حدثت قطيعة معرفية بيني وبين المخرجين الأكثر معاصرة. في المساء الهادئ من ذلك اليوم، كانت فرصتي من أجل ترميم هذا الصدع، فسهرت حتى الصباح أشاهد أفلاماً تسجيلية حول: سكورسيزي، وفرانز كوبولا، وستانلي كويبرك، وكوينيتين تارانتينو، وكريستوفر نولان.

فى اليوم التالي تذيع الأخبار أن الفيروس يقتل الشباب، كما سبق وأن قتل الكبار.. وكنت أتساءل دائماِ عن موقع سني الخمسيني، هل ينتمى إلى الشباب أم إلى الكبار؟!.. غير أن الكورونا لم تجعل للسؤال معنى!

ويرسل لي أخي رابط أغنية حمزة نمرة "مولود سنة ٨٠"، و مطلعها "تتفك اللعبة مني وأرجع أصلحها تاني.. عمري ما بصيت لسني ده أنا لسه ما جاش أواني".

صوت المقرئ أبي بكر الشاطري، الرخيم، كان رفيقي فترة أيام العزل، فقد كان يشعرني  بسكينة كبيرة، ويشيع جواً روحانياً هادئاً، يبعد عن الجو الجنائزي الذى ارتبط بأصوات مقرئين آخرين مثل الطبلاوي وعبد الباسط.

وكنت قد عزمت على مشاهدة بعض أفلام تارانتيننو ونولان، لأني أدركت من سيرتهما الفنية أنهما يقدمان تجارب سينمائية جديدة، لكن أخي، على غير عادته، كتب لي كلمات قاسية عن الموت مطلعها "كام واحد في صلاة جنازتك هيكون أول الموجودين؟ .. كام واحد هيستني على قبرك مش هيمشي مع الماشيين؟ .. كام واحد ممكن يفتكرك ويدعي لك كل فين وفين؟".. لم أجزع من كلماته، لكنى تساءلت لماذا تغير من موقف الأمل إلى موقف اليأس، ولم أجد تفسيراً سوى كونه جنون الإبداع، الذى يجعل الكاتب يكتب الشئ ونقيضة!

فى هذه الأثناء كنت قد انتهيت من مقالى" الخلاص من شاوشانك.. أن تحيا حراً رغم السجن "، و" جزيرة شاتر.. معني أن تكون مجنونا رغم العقل!"..

فى اليومين الأخيرين من فترة حضانة الفيروس شعرت أنى قد تعافيت تماماً، لكنى لم انته من برنامجي الثقافى الذى وضعته لنفسي بعد. وكعادتي شعرت بشئ من الحنين إلى الماضي، الذى كنت أستدعيه دائماً كوقود محرك لحياتي الحاضرة. غير أن الذى استوقفني أنى صرت أشعر بالحنين تجاه أشياء وأشخاص قريبة، مثل زملائي في العمل وأصدقائي فى الحياة، حتى زوجتي التى كانت تسهر على راحتي وولديّ الصغيزين، اللذين كانا يعيشان على بعد خطوات من حجرتي شعرت تجاههم بالحنين، والرغبة العارمة في استعادة أيامي الجميلة معهم، التى لم تغب عني سوى أيام قليلة. وهنا أدركت أن الحنين لا يرتبط بالماضي البعيد فقط، لكن بالماضي القريب كذلك، فكتبت مقالاً بعنوان "كيف تصنع الحنين كى تعيش حاضراً جميلاً".

فى المساء أخبرني أخي أنه كتب كلماته القاسية عن الموت لأن زميلاً له فى العمل كان يرعى زوجته التي في مرض الموت، وأنه كان يحتاط لنفسه كثيراً، وكان يحافظ على صحته بكافة الطرق، إلا أنه، بالرغم من ذلك، مات بسبب الكورونا!

فى اليوم الأخير كنت قد انتهيت من دراستي المطولة حول "كانط والإسلام"، وتوصلت إلى أن كانط مثل هيجل، ومثل الكثيرين من مفكري الحضارة الغربية ينطلقون فى كتاباتهم من عقد تفوق الرجل الأبيض على باقي الأجناس، وأن آراءهم تدعم العنصرية والاستعمار، وعقولهم الجبارة أضعف من أن تصدر رأياً منصفاً عن الإسلام، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل علي أنهم لم يعرفوا الإسلام بالأساس. وحسناً فعل ادوارد سعيد في "الاستشراق" وحسن حنفي في "مقدمة في علم الاستغراب" عندما صححوا المعادلة وجعلوا الغرب موضوعاً لدراستنا وليس العكس، وهو الطريق الذى ينبغي أن نمضي فيه جميعاً.

كتبت لأخي رساله أنصحه فيها بألّا يفكر في الموت كثيراً، وأن يواصل الحياة بكل ما أوتي من قوة ومن أمل، لأننا لا نعرف متى ولا كيف سنموت، لكن نعرف متى وكيف نعيش، فلنعمل ما نعرف، ولنترك ما لا نعرف إلى مشيئة الله.

فى أول يوم خرجت فيه من العزل المنزلي استنشقت هواء نقياً، بعيداً عن روائح الأدوية والفيتامينات وحقن الكورتيزون. وعندما وقعت عيناي على محل البن البرازيلي وشركة الإنترنت ومحل المخبوزات، لم يكن المشهد مختلفاً كثيراً عن المرة الأولى..

فقط شعرت برغبة عارمة فى تناول فنجان من القهوة المحوّجة بالمستكة والحبهان!

 

د. ماهر عبد المحسن

 

 

 

تعليقات (4)
This comment was minimized by the moderator on the site

الاستاذ الدكتور ماهر عبد المحسن، خالص الامنيات بدوام العافية والعافية. والحمد لله على سلامتك. تبقى سالما معافى بإذنه تعالى

This comment was minimized by the moderator on the site

خالص الشكر والتقدير لشخصكم الكريم الاستاذ ماجد الغرباوي، مفكرنا الكبير..
مع أطيب التمنيات للجميع بدوام الصحة والعافية.

This comment was minimized by the moderator on the site

الاستاذ الدكتور ماهر عبدالمحسن
الحمد لله على السلامة والصحة . الحقيقة تجربة رهيبة مررت بها , ولكن عندك اصرار وارادة قوية , واعتقد هذا جانب بسيط يساعد على الشفاء
اتمنى الشفاء التام والصحة

This comment was minimized by the moderator on the site

خالص الشكر والتقدير لحضرتك..
كانت تجربة شاقة ومريرة فعلاً، لكن الله سبحانه ألهمني القوة والثبات بالطريقة التى أجيدها، وهى العمل الثقافى، بكافة أنواعه وتجلياته..
أتمنى أن يستفيد القراء الأعزاء من هذه التجربة، وأرجو من الله العلي القدير أن يحفظ الجميع..

لا توجد تعليقات على هذه المقالة حالياً.
شارك بتعليقك
Posting as Guest
×
0   Characters
Suggested Locations

في المثقف اليوم