شهادات ومذكرات

الدكتور حلمي القاعود وأدعياء التنوير في مصر

ابو الخير الناصريالدكتور حلمي محمد القاعود علم متميز من أعلام الأدب والفكر في الثقافة العربية المعاصرة، يعرف علمَه وفضلَه وتميزَه قراءُ أعماله العديدة المفيدة التي جاوزت سبعين كتابا في القصة، والرواية، والسيرة، والنقد، والدراسة الأدبية، والمقالة الفكرية والسياسية وغيرها من فنون القول وأنماط الكتابة والتعبير.

قُدّر لي أن أقرأ عددا من كتبه، فوجدتها تنطوي – إلى جانب قيمتها العلمية والأدبية – على قيم أخلاقية رفيعة من أهمها الصدق، والإخلاص لصوت الضمير، وإعلانُ الرأي صريحا في غير تقية ولا مراوغة. وتلك فضائلُ لا تصدر إلا عن الصادقين الذين لا تحركهم الأطماع الشخصية والأهواء المقيتة.

ومن السمات البارزة في مُنجَز الدكتور حلمي اعتزازُه بدينه، ودفاعُه عنه في كتاباته وأحاديثه وحواراته، وهذا ملمح تنطق به عناوينُ كثيرٍ من مؤلفاته في البلاغة والنقد والسياسة والفكر: "الأدب الإسلامي: الفكرة والتطبيق"، "محمد صلى الله عليه وسلم في الشعر العربي الحديث"، المدخل إلى البلاغة القرآنية"، "المدخل إلى البلاغة النبوية"، "القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث: دراسة ونصوص"، "الواقعية الإسلامية في روايات نجيب الكيلاني"، "الرواية الإسلامية المعاصرة"، "العمامة والثقافة: دفاع الإسلام وهجوم العلمانية"، "التنوير: رؤية إسلامية"، "تحرير الإسلام"، "دفاعا عن الإسلام والحرية"، "مسلمون لا نخجل"...

ومن مميزاته في كتاباته انتصارُه للمظلومين في الساحة الثقافية العربية، وذَوْدُه عن المهمشين من الذين لم ينتموا إلى "قبيلة" تُناصرهم، ولم ينخرطوا في جماعة أو اتحاد أو رابطة تمدحهم ويُدبج أعضاؤها مقالات ودراسات في الثناء على أعمالهم ولو كانت خواءً أو كالخواء.

وحَسْبُك كتاباه "أعلام في الظل: رجال نبلاء"، و"المآذن العالية: رجال من ذهب"، لتقف على ما تنطوي عليه نفسُه من نبل، وشهامة، وانتصار للمظلومين والمهمشين، وترفّعٍ عن السير في المسالك التي يتهافت عليها طُلاب الشهرة، والمناصب، والدراهم ونحوها من المطالب التي أذلّتْ أعناق كثير من الرجال.

- 2 –

فاز الدكتور حلمي القاعود، منذ أشهر، بجائزة التميز في النقد الأدبي بمصر للموسم 2020/ 2021م، ووصفه اتحادُ الكتاب المصريين في قرار التتويج بأنه "من القامات المهمة في الأدب العربي الحديث، وأحد الرواد الذين أثروا الحياة الأدبية والفكرية".

لكن أدعياء التنوير والديمقراطية في مصر جُنَّ جنونُهم لفوز الرجل، وأطلقوا ألسنة السوء:

قال واحد من أشهرهم داخل مصر وخارجها "إن اتحاد الكتاب بهذا الاختيار يُشجع الاتجاهات الإرهابية في الأدب".

ودعا ثانٍ إلى قراءة "الفاتحة على روح الاتحاد".

وتساءل ثالثٌ مستنكرا: "هل تحول اتحاد الكتاب إلى مكتب الإرشاد؟".

ووصف رابعٌ فوز الدكتور حلمي بـ"السَّقطة الكبرى لاتحاد كتاب مصر".

وقال خامسٌ "إنني أرى أن هذه فضيحة".

وقال سادسٌ "كنا ننتظر أن يعتذر اتحاد كتاب مصر ويُعلن سَحْبَ جائزة التميز من حلمي القاعود".

وقال آخرون مثل قولهم. تشابهت أقوالهم وقلوبُهم، وكتبوا في محاولة تسويغ ما قالوا إن المُتوَّجَ إخوانيّ، وإنه يكتب في جرائد الإخوان ومجلاتهم ومواقعهم الرقمية، وإنه دائمُ الانتقاد لسياسات الدولة ومؤسساتها على عهد الفريق عبد الفتاح السيسي..وإنه لذلك ولِمِثْلِه لا يستحق هذه الجائزة.

ولو أن هؤلاء الكتابَ والشعراء سكتوا لكان خيرا لهم، ذلك لأن كلامهم كشف عقولا غَشِيَها الظلامُ، وحيل بينها وبين النور - بَلْهَ التنوير – فإذا بهم يستدلون بمقالاتٍ في السياسة على عدم استحقاق جائزة في النقد الأدبي !!

لقد كان جديراً بهؤلاء الغاضبين – لو حَسُنتْ مقاصدُهم وصدَقت غيرتُهم على الثقافة والنزاهة – أن يُوازنوا بين كتب د.حلمي في النقد الأدبي وبين كتب غيره من الذين رُشحوا لهذه الجائزة ولم ينالوها - إنْ وُجد مرشحون آخرون – وأن يبرهنوا بأدلة العلم ومعايير النقد الأدبي على أن غيرَه أحقُّ بها منه. وأنّى لهم أن يُقبلوا على قراءة المنجز النقدي للقاعود؟ وأنّى لهم أن يبتغوا العِلْمية والموضوعية وقلوبُهم تَغلي كالمِرْجَل حقداً على رجُل دائم النُّصرة لقضية عادلة هي شرعية حكم الرئيس السابق لمصر الدكتور محمد مرسي رحمه الله تعالى؟

إن الاستدلال بمقالاتٍ في السياسة على عدم استحقاق جائزة في النقد الأدبي دليلٌ صريح على تحامُل المستدلين، وتهافتهم، وبُعدهم عن التنوير وعن العدل والموضوعية في الحكم والتقويم.

كما أن هذا الموقف دليلٌ على أن أصحابه ليس لهم من الديمقراطية سوى الادعاء وانتحال الصفة، ولو أنهم صدقوا في ديمقراطيتهم لما اعترضوا على فوز مَنْ صَوّتَ لصالحه أغلب أعضاء المجلس والأعضاء كما صرّح بذلك الشاعر مختار عيسى نائب رئيس اتحاد كتاب مصر. لكنّ رفضَ الديمقراطية ليس بغريب على من فرحوا بانقلاب جنرال دموي على رئيس مدني منتخَب انتخابا حرا نزيها، فلقد أثبتوا يومئذ – مثلما يثبتون اليوم – أن الحقدَ عندهم مُقدَّم على الديمقراطية، وأنّ الحداثةَ والتنويرَ والإيمانَ بالاختلاف في كتاباتهم وخطاباتهم ليستْ سوى شعارات جوفاء تلوكها ألسنتُهم وأفئدتهم هواء.

- 3 –

ذلك، ومن المعلوم أن ليست هذه أول مرة يفوز فيها د. حلمي القاعود بجائزة داخل بلده، فقد نال جائزة المجمع اللغوي بالقاهرة في العام 1968م، ونال جائزة المجلس الأعلى للثقافة في العام 1974م.

وإنما أثار فوزُه بجائزة التميز في النقد الأدبي غضب الغاضبين لأنه صادقٌ في معارضة الانقلاب العسكري الذي به يفرحون وله يُطبلون، وصريحٌ في دفاعه عن الشرعية التي هم لها كارهون، وقويٌّ في نقد واقع الاستبداد والحكم العسكري الذي عن ظلمه يسكتون.

وإنّ من عجائب الأقدار أن يصدر للدكتور حلمي في العام 2004م كتاب عنوانه "الإسلام في مواجهة الاستئصال"، ثم يجد نفسَه، بعد أعوام، في مواجهة الاستئصاليين الذين يُمعنون، بهذه المواجهة، في الإساءة إلى أنفسهم وإلى تاريخ مصر التي أحببناها علما وفكرا وأدبا وتنويرا حقيقيا.

هنيئا للدكتور حلمي محمد القاعود فوزَه بالجائزة، وبارك الله له في صحته وعمره وعطائه المستنير، وجزاه سبحانه عن وطنه وأمته خير الجزاء.

 

أبو الخير الناصري

 

في المثقف اليوم