شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: الشاعر أحمد فؤاد نجم.. المعارض الأبدي الساخر(2)

محمود محمد عليكان أحمد فؤاد نجم كالفراشة تجذبها النار وتشدها، حيث  زعم " نجم" أنه صدق أحلام الرئيس "جمال عبد الناصر" في دعوته للقومية، وأيقن باقتراب النصر على إسرائيل، لكن أحمد فؤاد نجم الواثق من حلمه آنذاك لم يخطر بباله أن عبد الناصر سيزج به في غياهب المعتقل، وهنا يقول أحمد فؤاد نجم : "لم أناصب الرؤساء العداء، لكنهم هم من ناصبوا الشعب المصري العداء".. هذا ما قاله الشاعر أحمد فؤاد نجم، عندما سئل عن أسباب سوء علاقاته برؤساء مصر" (11).

وقد مرت أشعار أحمد فؤاد نجم بمرحلتين أساسيتين كما قال عنه صلاح عيسي، ما قبل نكسة حزيران 1967، وما بعدها، تميزت مرحلة ما قبل النكسة بقصائد رومانسية وجهها لأمه وأبيه، كذلك بالقصائد الوطنية التي تغنت بمصر ونيلها، كما برزت ميوله اليسارية في هذه الفترة من خلال شعره، إضافة إلي إبرازه قدرة استثنائية على تحويل العادي إلى شعري، دون المساس بالفنية الشعرية للقصيدة، مستغلاً مرونة اللهجة المصرية حتى آخر قطرة، وهي المعروفة أنها أكبر من أن تكون لهجة، لكنها أقل من أن تكون لغة، ومن أبرز القصائد التي كتبها في هذه المرحلة (الجزائر): "ارقص يا نيل ساعة الأصيل والشمس رامية شعرها ورا ضهرها على صفحتك.. رامية سلاسل من دهب داب وانسكب في ميتك ولا الصبايا العطشانين متبعترين على ضفتك" (12).

أما المرحلة الثانية؛ فهي نقلة نوعية غير متوقعة من شاعر متصعلك مثل نجم، خاصة وأنه كان قد تخطى سن التمرد، حيث قامت نكسة عام 1967 عندما تخطى السادسة والثلاثين من عمره، لكنه استجاب استجابة سريعة ومتميزة، وكان من بين القلائل الذين تجرءوا على انتقاد سياسات عبد الناصر في العلن، من أبرز قصائده أيام حكم عبد الناصر، هي القصيدة التي كتبها بعد النكسة مباشرة بعنوان (الحمد لله): "يا أهل مصر المحمية بالحرامية الفول كتير والطعمية والبر عمار.. والعيشة معدن وأهي ماشية وآخر أشيا مدام جنابو والحاشية بكروش وكتار" (13).

وكانت جسدت هزيمة 1967 نقطة تحول في تاريخ علاقة "أحمد فؤاد نجم" بعبد الناصر وبالسلطة بوجه عام، فالحالم والمؤيد والمنتصر لشعارات القومية والعروبة، انقلب إلي شاعر جامح لينتقد أمرائه تأسيساً لدولة الإستبداد وترسيخا للقمع والمنع، وامتد ليهاجم شخص عبد الناصر نفسه .

كان لـ" أحمد فؤاد نجم " الكثير من المواقف ضد سياسيات الرئيس جمال عبد الناصر، خاصة فيما يتعلق بالحريات، زادت حدتها بعد نكسة 1967، فكتب ولحن مع الشيخ "إمام" عشرات الأغنيات، التي كانت سببًا في اعتقالهما، ومنها أول قصائده السياسية الممنوعة وهى: "الحمد لله خبطنا تحت بطاطنايا محلا رجعه ظباطنا.. من خط النار.. الفول كتير والطعمية.. والبر عمار والعيشة معدن واهي ماشية اخر أشيا.. مادام جنابه والحاشية بكروش وكتار ح تقول لى سينا وما سينا شي ما تدوشناشي.. ما ستميت أوتوبيس ماشى شاحنين أنفار إيه يعني لما يموت مليون.. أو كل الكون.. العمر أصلاً مش مضمون والناس أعمار إيه يعني في العقبة جرينا ولا في سينا.. هى الهزيمة تنسينا إننا أحرار".. وهي القصيدة التي دخل بسببها السجن، ولم يخرح إلا بعد وفاة عبد الناصر.. ايه يعني شعب ف ليل ذلة.. ضايع كله.. دا كفاية بس اما تقول له.. احنا الثوار.. الحمد الله ولا حولا.. الحمد الله ولا حولا.. مصر الدوله.. غرقانة في الكدب علاوله.. والشعب احتار.. وكفايه اسيادنا البعدا.. عايشين سعدا.. بفضل ناس تملا المعده.. وتقول اشعار.. شعار تمجد وتماين.. حتى الخاين.. وان شا الله يخربها مداين.. عبد الجبار (14).

ورغم تعرض أحمد فؤاد نجم للسجن في عهد عبدالناصر طيلة 9 سنوات؛ إلا أنه رثاه عقب وفاته وكتب قصيدة بعنوان "على ضريح عبد الناصر"، يقول فيها: أبوه صعيدى وفهم قام طلعه ظابط.. ظابط على قدنا وع المزاج ظابط..  فاجومى من جنسنا.. ما لوش مرا عابت.. فلاح قليل الحيا.. إذا الكلاب سابت.. ولا يطاطيش للعدا.. مهما السهام صابت.. عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت.. وعاش ومات وسطنا.. على طبعنا ثابت.. وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت" (15).

ولم يتخل الشاعر أحمد فؤاد نجم - المعروف بمعارضته للنظام في مصر منذ العهد الناصري في الستينات، عن رغبته في المشاكسة، وحتى عندما انتقل لغرفة عادية بالمستشفي فإنه غافل الكثيرين ليدخن السجائر.. وغافل المرض حيث جاء تشخيص الأطباء لحالته بأنه "مشروع جلطة"، بدوره لم يفوت الفرصة لنقد النظام الحاكم بمصر فتندر على الوصف بالقول أنها مجرد مشروع جلطة لم يكتمل؛ تماماً مثل مشروع توشكى، وهو مشروع لاستزراع مناطق في الصحراء الغربية بمصر روجت له الحكومة قبل أكثر من عشر سنوات لكنه تعثر ولم يكتمل (16).

وعند جاء الرئيس أنور السادات صاحب قرار الإفراج عن أحمد فؤاد نجم، وبرغم ذلك لم يسلم من انتقاد "نجم" له ولسياسته، فكتب عدة قصائد تهاجمه وتسخر منه ومن سياسة الانفتاح، منها: "ريسنا يا أنور"، و"الفول واللحمة" و"على الربابة" و"بوتيكات" و"البتاع"، وأشهرها كانت قصيدة "نيكسون بابا" التى ألفها بعد زيارة الرئيس الأمريكى "ريتشارد نيكسون"، وقال فيها: "شرفت يا نيكسون بابا.. يا بتاع الووتر جيت.. عملولك قيمة وسيما.. سلاطين الفول والزيت..

فرشولك أوسع سكة.. من رأس التين على مكة.. هناك تنزل على عكا.. ويقولوا عليك حجيت (17).

وهى القصيدة التى تسببت في سجنه، كما كان السادات لا يكتفي بسجن "أحمد فؤاد نجم"؛ بل دائمًا ما يعتقل زوجته صافيناز كاظم، وقد قال "نجم" عن ذلك؛ «كان السادات كل ما يحطنى في دماغه يجرنى على السجن أنا وصافيناز»، وبعكس جمال عبد الناصر، ولم يكتب «نجم» في «السادات» رثاء بعد اغتياله عام 1979 كتب أحمد فؤاد نجم قصيدة "المجنون أبو برقوقة..عيره وبرانى وملزوقة..بسلامته بيسرح قال بينا.. يعنى إحنا مواشي يا زقزوقة ..حلوين وحياتك يا بلدنا.. يا أم الخيرات المسروقة ..إحنا اللى رمينا البذرايه.. وروينا الأرض المعزوقة

...وحنحصد بكره وحنغنى.. وعيون الخاين مخزوقة". وحصل وقتها على حكم بالسجن لمدة عام، لكنه هرب حتى تم القبض عليه (18).

ولم يتوقف نجم يوماً عن الكتابة اللاذعة المباشرة، فبرز صوتاً عالياً أيام أنور السادات كما كان أيام عبد الناصر، فكتب العديد من القصائد التي انتقد فيها علاقات السادات الخارجية مع أمريكا وتحضيره للسلام مع الاحتلال الصهيونية، كما انتقد سياسة الانفتاح الاقتصادي التي انتهجها السادات، من بين هذه القصائد قصيدة (موال الفول واللحمة) عام 1973: "عن موضوع الفول واللحمة صرح مصدر قال مسؤول.. إن الطب اتقدم جداً والدكتور محسن بيقول.. إن الشعب المصري خصوصاً من مصلحته يقرقش فول.. حيث الفول المصري عموماً يجعل من بني آدم غول" (19).

وعندما جاء "حسني مبارك" وقف "نجم" ضد سياسات الرئيس محمد حسني مبارك، واستقبل رئاسته بقصيدة «الشكارة»، تلاها بعدة قصائد ناقدة لحكمه ومعارض لخطة التوريث، فكتب قصيدة "في عيد ميلادك الكام وسبعين»، يقول فيها: "في عيد ميلادك الكام وسبعين، كل سنة وانت طيب واحنا مش طيبين كل سنة وانت حاكم واحنا محكومين، واحنا مظلومين، واحنا متهانين، ويا ترى يا حبيب الملايين، فاكرنا ولا احنا خلاص منسيين، فاكر المعتقلين، فاكر الجعانين، فاكر المشردين، فاكر اللى ماتو محروقين، فاكر الغرقانين، الله يكون في عونك، ها تفتكر مين ولا مين" (20).

وقد تبعها بالعديد من الأشعار والقصائد منها: "الجدع جدع والجبان جبان"، و"شيد قصورك"، و"رسالة من "حسني مبارك" إلي الشعب المصري"، و"سلامة مرارتك".. وهى القصيدة التي كتابها عندما استئصل الرئيس "مبارك" مرارته، قبل أن يشترك نجم في ثورة 25 يناير المطالبة بتنحي الرئيس "حسني مبارك" ؛ إضافة إلي عشرات القصائد اللاحقة، من أبرزها قصيدة "البتاع"، وقصيدة "احنا مين وهما مين"، كذلك قصيدته "شقلبان"، و"جيفارا مات"، وقد غنى الشيخ إمام أغلب هذه القصائد.. لم ينشر " أحمد فؤاد نجم " قصائد جديدة بعد انفصاله عن الشيخ إمام (21)، واكتفي بالظهور في البرامج التليفزيونية، إلا أنه عاد للشعر في آخر عهد مبارك فكتب قصيدة (ألف سلامة لضهر سيادتك)، (عريس الدولة)، وأيد الشباب في ثورة يناير 2011 .. وكانت قصائده تملأ ميدان التحرير، وعارض حكم الإخوان المسلمين المحظورة، ومن أشهر قصائده "كلمتين يا مصر"، "يعيش أهل بلدي"، "شيد قصورك"، "كلب الست"، "جيفارا مات" وتوفي في 3 ديسمبر 2013 (22).

وفي الثالث من كانون الأول/ يناير عام 2013،  توفي الشاعر "أحمد فؤاد نجم" بعد عودته من الأردن، حيث أحيا هناك آخر أمسياته الشعرية، وكان قد فاز بجائزة كلاوس الهولندية، لكنه مات قبل استلام الجائزة بأيام، توفي نجم عن عمر يناهز الرابعة والثمانين، تاركاً ورائه إرثاً شعرياً كبيراً، بعد أن سجل مع الشيخ إمام ولادة ظاهرة جديدة في الموسيقى والكلمة، ما تزال خالدة حتى يومنا هذا.

وفي نهاية هذا المقال أقول مع الأستاذ حلمي سالم : إن أحمد فؤاد نجم لم يكن مجرد شاعر، بل كان ظاهرة اجتماعية –سياسية- ثقافية – جمالية متكاملة، انضجتها لحظة تاريخية مركبة، عامرة بالانتصار والإنكسار، بالحرية والقمع، بالشعارات البراقة والسلاسل البراقة، بالإنجاز والسقوط، بالحقيقة والوهم، ومن قلب هذه اللحظة الدرامية انبثق صوت أحمد فؤاد نجم بالشعر- صرخة احتجاج ضد القهر، والجوع، والرعب والاستعباد (23).

كما لم يكن "أحمد فؤاد نجم" يمثل نبتاً شيطانيا بلا سياق أو أصول، لقد كان علي العكس امتداداً لتراث قديم، ووسيط، وحديث من كسر الطوق والشعر خارج السرب، ورفض الإنصياع، بدءً من جماعة " الصعاليك" (الفجميون مثله، قبل الإسلام وبعده)، ومروراً بشعراء الشطار والعيارين في العصور الوسيطة) ووصولاً إلي عبد الله النديم ثم "بيرم التونسي" في العصر الحديث (24)؛ ويستطيع المتايع أن يجد وشائج ربط عديدة بين عروة بن الورد – زعيم الصعاليك الأقدمين – وبين أحمد فؤاد نجم : مثل النزع الإستراكي عند كل من الصلوكيين، ومثل نزعة الخروج علي بيت الطاعة القبلي (قبلية النظام الجاهلي وقبلية النظام السياسي المصري في الستينيات والسبعينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ومثل حمل الروح علي الكف والمغامرة بكل الحياة : عاش عروة بن الورد مشرداً مطروداً، وعاش أحمد فؤاد نجم معظم سنواته مسجوناً، ومثل النزعة الوجودية الضاربة في عمق الرجلين علي الرغم من السطح الاشتراكي الملتزم (25).

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

......................

(11) يوسف دياب: أحمد فؤاد نجم .. حكايات مع الحياة والسجن.. جريدة مبتدأ .. 2020-12-03 20:54.

(12) أنظر مقدمة صلاح عيسي لكتاب الفاجومي، مصدر سابق، ص 15.

(13) المرجع  نفسه، ص 19.

(14) أحمد فؤاد نجم: الأعمال الشعرية الكاملة أحمد فؤاد نجم، المصدر السابق، ص167.

(15) أحمد فؤاد نجم: الفاجومي، مصدر سابق، ص  66.

(16) نفس المصدر، ص 89.

(17) نفس المصدر، ص 97.

(18) نفس المصدر، ص 112.

(19) نفس المصدر، ص 176.

(20) نفس المصدر، ص 198.

(21) نفس المصدر، ص 232.

(22) نفس المصدر، ص 239.

(23) حلمي سالم: انا رحت القلعة وشفت ياسين : مختارات من شعر احمد فؤاد نجم، أدب ونقد، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، مج 23 ,ع 256، 2006، ص 42.

(24) المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

(25) المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

 

 

في المثقف اليوم