شهادات ومذكرات

الشِّيوعِيُّ بِلا شِيوعِيّة

تَياراتُ أهواء ومنازِع سلطة تَمَوَّرت في بلادٍ من عجائبها بابل التي ما أبقت لها تلك التيارات والمنازِع سوى معنى أن تُبلبِلَ حياة النّاس وتكدّرَ عليهم صفاءها، وما تنفكُّ تُغرقهم حتّى وهي مُوَلِيّة عنهم، وفاسِحةٌ لغيرها أبلغ منها سوءً. والمثقّفون كائنٌ ما كان نوعهم قد ماجوا فيها وَلَجّوا في أوهامِها، فأغرقت جمعاً غفيرا منهم، وأيُّ غرقٍ أشد من أن تلوّح ذاكرة الطلاّب بِصور أساتيذهم اللابسين زِّي الحربِ، والواعظين بلسانِ الدّم! إلاّ أن منهم من كان ذا حظٍ عظيم، فلم يركبْ مراكبها الصَّعْبة، ومنهم من كادت تُزَجِّيه في وُكورها بعضُ نعومةِ أفكارها لولا نورٌ في طَويتِه، ووعيٌّ في ذهنهِ.

وليس هنا مقام حديثٍ عن تيارٍ أَدبر عن البلاد، وارتهنت بقاياه لكتاب تاريخ وشريط صورٍ وأسماء رموزٍ، وإن كان ما أخلفه في الأدب وخاصّة الشعر ذا أثرٍ عزيزٍ نفيسٍ كأنَّ صاحبَهُ أدركَ ما انطوت عليه الأقلام السائدة الغالِبة من قُبح النوايا وصدأ المزاعِم، فارتقى حتّى لا أحد ينافسهُ فيما أبدعَ. أجل، الشِّيوعيّة كانت في الشِّعر العراقيّ أوضح صورة، وأسمى غاية على الرّغم من وعورِة هذا الضرب الأدبيّ.

هنا الشيوعيّةُ ظلالٌ مألوفةٌ انبسطت على إنسانٍ، وأَسبلت خيوطٌ من فيئها على ذاته، فأصبح شخصيةً تُرى لعارِفِها شيوعياً، وهو لَعمرُكَ من أي انتماءٍ بريءٌ!

إنّهُ فردٌ، ولهذا الفردِ أحلامٌ كُبرى، وهذه لا تريَّم في نفس الإنسان إلا إذا نَسَجَها فِكرٌ سديد. إذن، الحِلمُ فِكرٌ، والشيوعيّةُ بعض أحلام راودت هذا الإنسان في مدارِج حياته كلّها. وهو الصبيُّ وُلِدَ في قريةٍ صغيرةٍ، احتضنه بيتٌ باذِخُ الرّخاء في طُرُزِه وموقعه على غير مبعدةٍ من نهرِ القادِسيّة. كانت الحقولُ على مدِّ بصرهِ تلتمسُهُ خضرتُها النَّضرةُ أن يسرحَ في عشبها مع صنوٍ أو تِربٍ، لكنه عُدِم إيّاه. وكان البيتُ مجلبةَ قُصّاد أهل القرية، وما للصبيّ في غرفاتهِ أخوة أو أخوات، ألفى في فنائِه الرحيب أُماً وحظايا كريمات أحببنهُ حُبّاً فرّدهُ عن صِبيان قريته، والفرادة كانت في انسلاله عن جدٍّ لأمِهِ من أحفاد الرسول طالما كان وليّاً لأبناء جلدتِه، وبيتهُ هذا مزارٌ لأهل القريةِ. كأنَّ الصبيَّ أُلقي في مُشْتـَبَكٍ يكرّس الإنسان لغير نفسه، ففطنَ وتنبّه وسعى ليقطّع ما بينه وبين ذاك المشتبك من حِبال، فانكفأ لا يلاعِب صبيان قريته، ولا يخالِطُ أبناء جِيرته. وجدَ نفسَهُ في المدرسِةِ، وإذ كان يقطعُ الدَّربَ من بيته كلّ صباح إليها يشاهد من يناظره سِناً مُطَيَّناً إما عاملاً مع أبيهِ، وإما مهمَلاً، وإما مجتنِباً بِدْعَةَ التّعلّم التي صَاغَها العقلُ القروِيّ؛ وهيهات يومذاك أن يُعنى بغير نفسه، وقد لقيها تستجيب لكاتبٍ صادق، وترتضي لأديبٍ حَقيقٍ، سرعان ما شبَّ الغِرُّ عن طوقِ صِباه، إذ أحلّته سنُّهُ التاسعة عشرة طالبا في بغداد، حَزَمَ حقيبَتَهُ إليها بكتابينِ، هما "الكامِل"، وأصول الفلسفة الماركِسيّة، أحدهما إيابٌ إلى أصول عروبته ومَعينِ أَدبها، وثانيهما انكشاح عن تقبّض الذِّهن وتَأَبِّيهُ على الآخر وفلسفتهِ، وربّما نوى بقراءته هذا الكِتاب أن يروزَ هذا الفِكر الذي راقتْهُ بلاغةُ مثاليته في التنظير، بينا اعتقب آثارا واقعيّة تنصَّلتْ دماءَ النّاس كما استنصلت قيمَ النّسيج السياسي، وأزادت الحياة الاجتماعيّة التي اعتلقت بمبدأ الثورة لتغييرها أزادتها بؤساً وكدراً تَــنَـفــَّسَتْهُ بغدادُ وشقيقاتها زَمناً طويلاً، والطالب في كليّة الآداب بقسم اللّغة العربيّة لم يفتر إدراك ما صنعته ثورةُ العَسكر بالمجتمع، وما دهى الشيوعيون وأضرابهم بأنفسِهم وبغيرهم، فاكتفى بالنّظرِ في كُتب هذا الفِكر، وقراءة تجارب أصحابه في الأدبِ، وما وَنِي ينشدُ ثورةً مُستَقَرها ضمير الإنسان، وثِمارها خيرٌ نجيعٌ لا شِيَة فيه، وحسبه من الشيوعيّة معناها الخاص عنده أن تُشيع الأخلاق السمحة في النفوس، وتُمهّدَ سُبُلَ العقل لِصقلِ الفِطرة الإنسانيّة، وتَدَعَ التّهويسَ والعُنف، وتستعينَ بالعملِ الخالِص المُناط بخُلاّق الوعيّ وصَاغَةِ الأجيال، وهم قُلٌ تتلمذَ لخِيرتهم هذا الطالِبُ، وامتثلَ لأستاذهِ في الاستقامةِ وحسن الطَّوِيّة وأعجبته منه مُكْنَةُ المُزيل عن التراثِ الصدأ والواضع إياه في أفقِ العصر، فَمَرِسَ على هذا السّمت يلتقط دقائق الفِكر ويستجلي الاتجاهات الفلسفيّة في شِعر العرب ونقدهِ، بَيْنا قَمَطَ غيرُه سلوكَهُ وقلمَهُ بِرباطِ البعثِ.

وَفقَّه نفسَهُ الاقتداء بالوعي الحُرِّ والعقل المستنير وبذَّ الانتماء إلى دونهما بحيث سدَّ ما بينه وأي انخراطٍ أبواباً يعسرُ صَفـْقُها على من حلَّ مدناً تضيقُ بغير تلوّنٍ بألوانِ ثقافاتها البالِيَة؛ وعلى مَن تسنمّ مناصب عُليا كرئيس قسمٍ في كليّة القائد ــــ جامعة الكوفة لعقد التسعينيات، ثُم عميد كليّة التربيّة ــــ جامعة القادسيّة إلى ما بعد هَرَج 2003 ، وَدَأَب في دَرْسِهِ الذي تقاعَدَ عنه في عامِكَ هذا يتقصّى المواقف المتينة، وأجرى قلمَهُ المقالِيِّ في رَسمِ الشخصيات يصطفيها اصطفاء الفريد لأصحابه، وينفذ إليها نفاذ نفسه إلى الصِّدق، ويدنيها للقارئ رَغْمَ جهله بها خُلُقاً مُجسّدا، ويرمي بها رِمْيات نقدٍ ونظرٍ دقيقينِ في أربعةِ أركانٍ استحالت شؤونُها أمراً لا يبركُ عليه الجَمَلُ هي الفردُ والمجتمع والجامعة والدولة. ولعلّكَ عَرْفتَهُ مَطلع الثمانينيات أستاذاً راجِحاً في جامعة المَوصِل، وأيضاً أستاذٌ أَلْمَعِيٌّ يُدلُّ إليه في جامعةِ كربلاء، ولعلّ أشدّ ما يؤسفُكَ أنَ تشهدَ وإيّاه هذه الجامعات قد صَوَّحَتْ واستبانَ خواؤها بحيث أَهمَلَت أَعيانَها حتّى رأيتَ لَجنَةً محليّةً للحزب الشيوعيّ احتَــفَت بالأستاذ سعيد عدنان آن انطوت صحائفه المشرقةُ في الجامعةِ!!

***

د. سَحَر شُبّر

 

في المثقف اليوم