نصوص أدبية

الحياة والكتابة

وهو البيت رقم 305 الذي يقع في شارع مارغريت كارتويت : مكان مفروش بالحصى، أمامه سهوب شاسعة ينمو فيها أقحوان أحمر ناصع وأشجار صنوبر خضراء وخفيفة . وعند المدخل تنتصب سقيفة يقطن فيها الحراس. وقد تسنى لي أن أتعرف على أحدهم، وهو فينسينت اللطيف والرقيق وذو البشرة الرمادية. كان الرجل ينام في الأمسيات الحارة، ثم يروي لنا حكايات بالإيغبو لها حبكة بشكل أسئلة وأجوبة. وفي أول يوم لنا في البيت، انصب اهتمامنا على الصالة والمطبخ، وعندما حان وقت الصعود إلى الطابق الثاني، شرعت بالبكاء لأن السلالم تبدو طويلة وبلا نهاية، كانت شاهقة ولها لون بني قاتم. لقد رفضت الصعود. وكنت يومها بعمر خمس سنوات فقط. وفي النهاية، قبضت أختي أوشي على يدي، وصعدنا معا درجة بإثر أخرى حتى وصلنا إلى القمة. وبعد أسابيع، كنت أعدو فوق هذه السلالم بلمح البصر، وأحيانا أتسلق وأنزلق على الدرابزون بوسادة ومعي شقيقاي أوكيف وكينيشوكوو.

مع هذين تقاسمت أوسع غرفة في الطابق العلوي، كان فيها ثلاثة أسرة وطاولة تسريحة وخزانة، ولكن لم يكن فيها طاولة للكتابة، وكانت لها شرفة نلعب فيها بدمى من الورق . هناك قرأت قصص إنيد بلايتون ( 1 )، وقتلت الوقت وراقبت أولاد الجيران. كان للشرفة باب آخر يقود إلى غرفة المكتب، حيث توجد مصنفات الوالد المغبرة والمصفوفة على رفوف مع الجريدة الرسمية، إلى جانب طاولة للكتابة شغرت معظم المساحة، وكانت تحمل بين المصنفات اسم الوالد " الأستاذ ج. ن. أديشي " . وعليها كنت ترى أيضا الكتب ودبابيس الورق والأقلام، ولكن في الزاوية الأخيرة تشاهد الهاتف الأسود بالقرص الدوار.

و الآن أتساءل لماذا كان جهاز الهاتف في المكتب وليس في ممر الطابق الأول مثلا . كنت طوال فترة الدراسة الثانوية أتحادث به مع الأصدقاء في خلسة من الوالد، وهو يصحح أوراق الامتحان. وكان جزء من الطاولة مغبرا جدا حيث سجلت أرقام التلفونات فوق الغبار بأطراف أناملي، أو حيث كنت أرسم خطوطا بلا معنى. وعلى هذه الطاولة كتبت في دفتر الواجبات المدرسية أول " كتبي" بعنوان " لعبة القفز " وكان لي من العمر 10 سنوات.    

عاش غينوا أتشيبي برفقة عائلته في البيت رقم 305 قبل أن نقطن نحن فيه . والآن أرى كم هذه الصدفة ذات شأن . لقد كبرت في بيت سكن فيه قبلي الكاتب الذي شغفت بمؤلفاته. لا شك أن نفوسا أدبية خيالية كانت تحوم في الحمام الكبير جيد الإضاءة والتهوية الموجود في الطابق الثاني، بعكس حمام الطابق الأول. لقد كان مزودا بمغطس أبيض واسع تشتكي منه الولدة لأننا لا ننظفه جيدا، وغالبا كنت أستقي أفكاري القصصية وأنا أستحم فيه. ولكن الأثر الوحيد الذي رأيته ويعود لإرث أتشيبي كان نقوشا حفرتها يد ابنته الصغيرة " نواندو أتشيبي " على إطار نافذة غرفة الطعام التي تطل على الباحة الخلفية، حيث شجرة أفوكادو بثمار يانعة، وشجرة غوافا نربط بجذعها الدجاجات قبل الذبح استعدادا للغداء وشجرة مانغا غالبا تتغذى عليها الوطاويط التي تقطن في سقف بيتنا.

و كنت أكتب على طاولة الطعام كلما تعذر علي استعمال طاولة المكتب أثناء انهماك الوالد بالعمل، أو إذا كان الأقارب يتكلمون بالهاتف. إن هذه الطاولة، الخضراء الزاهية والطويلة، تعتبر مستودعا لنفايات العائلة : صحف مهملة، نشرات جامعية، دعوات لزفاف، موز وفستق سوداني اشتريناه في طريق العودة إلى المنزل، وتحتها كانت تتجمع حشرات نمل صغيرة حول ذرات السكر أو فتات الخبز بعد تناول الإفطار. ودائما كنت أوضّب لنفسي فسحة عند نهاية الطاولة، قبالة صندوق خشبي فيه مكيف الهواء القديم، والذي نادرا ما نستخدمه بسبب نفخة الغبار التي تسبق تدفق تيار الهواء المنعش. ولأنه يهدر بصوت شديد الضوضاء . ففي أوقات حفلات عيد الميلاد وكلما امتلأت الصالة بالأصدقاء والطعام، أو خلال استحمام شقيقاتي الصغيرات، وأيضا طوال وقت حفلات المشاهير عندما كانت أمي في منصب أمينة جامعة، كنت أسمع في الخلفية صوت المكيف وكأنه جهاز لتفريغ الهواء.

و بعد رحيل الأقارب، الطاعنين بالسن، انفصلت عن أشقائي، وسكنت بغرفة فيها منضدة للسيدات الصغيرات وضعت عليها عدة التجميل والمساحيق البنية. ولكن لم تكن فيها طاولة.

رحلت من المنزل في عام 1997 وذلك لأنتسب للجامعة في أمريكا. ولدى عودتي بعد أربع سنوات وبحوزتي النسخة النهائية من مسودة روايتي الأولى، كان الوالدان قد وضعا في حجرتي طاولة للكتابة. مربعة ومتينة، وعليها فرشت الطبعة التجريبية من الرواية لأصححها وأنقحها. وبعد مرور سنتين، عندما عملت على روايتي الثانية، زودني الوالدان بمكيف للهواء. وكانت الأضواء ترتعش كلما ضغطت على زر التشغيل. ولكن الانكباب على المقابلات والكتابات القديمة كان يتم على طاولة الطعام أو طاولة المكتب في غرفة الوالد، حيث تمر أسلاك التلفزيون والستالايت من تحت الباب بشكل حزمة واحدة.

في غرفتي كنت أفرغ من كتاباتي الخاصة فقط، وحينما ألقي منها نظرة على الشرفة، أشاهد أثر أمطار السنوات المنصرمة، يا لها من بقع فضية وبليدة فوق الأرض .

و في الأسبوع الماضي، رحل الوالدان من هذا البيت. وهما الآن بصدد التقاعد من الجامعة. وتم تخصيص نفس البيت لعائلة أخرى. وعندما تكلمت معهما بالهاتف من شقتي في نيو هافين، سألت أسئلة سخيفة .. هل تحتفظان بكتبي المدرسية؟ هل وجدا دميتي التي لعبت بها في أيام المدرسة الابتدائية؟ وكنت أصارع الدموع. وفي الرد أشارا إلى استئجار شاحنة نقل وشراء علب من الورق المقوى. كان صوتهما ينم عن روح عملية وهادئة. لماذا لم يلاحظا أهمية هذه اللحظة، لماذا يغفلان معنى الانفصال عن 25 عاما من الحياة. لا شك أنهما شعرا بذلك، ولكن ببساطة لم يستسلما لهذه الدراما مثلي. وعندما تطرقا لموضوع المفروشات القديمة التي تخليا عنها، داعبتني عدة أفكار : سوف أجد طريقة لأتوصل إلى ثراء فاحش وسوف أُقدم على رشوة الجامعة للتخلي عن هذا البيت من أجلنا . وتذكرت آخر اللحظات التي مرت علي في ذلك البيت أثناء الصيف المنصرم . لقد انقطعت الكهرباء، وفي فترة الظلام، غادرت غرفتي وهبطت السلالم إلى الطابق الأرضي، ودخلت إلى غرفة الطعام لأبحث عن شمعدان كان في الخزانة. وخلال هذا المشوار لم أسقط أرضا ولا مرة ..

 

 هوامش المترجم :

1 – بريطانية متخصصة بأدب الأطفال. من أهم مؤلفاتها : المشاهير الخمس، المجهولون السبع، المغامرة، وسواها. مولودة عام 1897، ومتوفاة عام 1968 .

شيماماندا نغوزي أديشيChimamanda Ngozi Adichie : روائية وقاصة شابة من نيجيريا. تدرس العلوم السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية. لها روايتان ومجموعة قصص واحدة. تعتبرحاليا من أهم أدباء نيجيريا المعاصرين حيث تندمج في كتاباتها تقنيات بيضاء ولكن لتعبر عن هموم العرق الأسود ومعاناته في أفريقيا والعالم.

•الترجمة عن الواشنطن بوست، عدد 17 حزيران 2007، وبالتنسيق مع موقع خاص بالكاتبة والثقافة الإفريقية بإدارة داريا تونغا Daria Tunca.

 

2009

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1077  السبت  13/06/2009)

 

 

في نصوص اليوم