نصوص أدبية

لميس في بغداد

تصدح حناجر الشعراء. تكيل له المدائح. تغني له القيان صنوفا من الأصوات. العزف على العود، والضرب على الطنبور، وهز البطون، لذائذ حسية تملأ هذا القصر وغيره من قصور الوزراء والقواد والمتنفذين.

وعلى أطراف بغداد.. حيث الأديرة ومجالس اللهو والعبث. يجتمع الشعراء ببعضهم، فيوغلون في شرب دنان الخمر حتى الثمالة.، لينشدوا قصائدا فريدة في العشق والمجون.

أسواق بغداد تعج بالبضائع المجلوبة من كل أنحاء المعمورة. والحرفيون يبدعون في صناعاتهم، كل حسب عمله، و في سوقه المخصص له. حيث شارع الصفارين، وشارع الوراقين. وشارع النجارين. ومن ضمن هاتيك الأزقة التي صيرت أسواق متخصصة. كان ثمة شارع في زاوية ما في بغداد. اسمه : شارع الرقيق... بقيمه ابن مصباح، حيث يأتي إليه النخاسون وهم يعرضون جواريهم من مختلف الأجناس. السنديات، الفارسيات، الحبشيات، الخراسانيات، الارمنيات، التركيات، الروميات. كن يعرضن هناك. ويدلل عليهن النخاس في إطناب واضح، مثني على خصالهن. تراه يغدق عليهن كل صنوف الأدب واللغة والشعر والصوت الجميل، ناهيك عن العزف على كل الآلات، حتى يصوروهن في أحسن تكوين.

ومن بين كل هاتيك الحسان الآتيات من كل أصقاع الدنيا. ثمة فتاة قمحية البشرة، سوداء الشعر، ذات عينين سوداوين، وهي إلى النحف أميل، مشدودة القوام كأنها الخيزران. كانت كسيفة النظرات، وهي ترى العيون النهمة تعريها من أطمارها البالية. جاء بها النخاس من بلاد الترك ليعرضها في أسواق بغداد.

- انظروا إلى هذه الجارية التركية. كم هي رائعة في حسنها..

-  بكم سعرها يا أبا عمير؟.

-  مائة دينار.

- مائة دينار !.. سأعطيك النصف.

-  أعطني ستين دينارا وخذها..

عندها، قدم رجل أربعيني، يرتدي الزي الرسمي العام لرجالات الدولة، من القباء الأسود والعمامة السوداء والسيف والمنطقة.

نقد نخاسها المائة دينار واشتراها.

      *  *  *  *  *  *  *  *  *  *  *  *  * *  *  *  *  * 

 

على نهر دجلة، ثمة قصر منيف تتوجه القباب، وتزينه الأعمدة المنقوشة بالفسيفساء الإسلامية. تتخلله النوافذ ذات الزجاج المعشق بالذهب. وقد علقت الستور برسوماتها المتنوعة على حيطانه. فيما فرشت غرفه وممراته وصحونه بالبسط العربية المحاكة والسجاجيد الفارسية. وقد امتدت فوقها المقاعد الوثيرة والوسائد المنعمة والنمارق المصفوفة.

وكانت الجواري الحسان اللائي يعج بهن ذلك القصر يدرن كالفراشات إذ تحوم على أزهارها.

وكانت من بينهن.. جارية تركية، قمحية البشرة، ممشوقة القد، ريانة العود، ذات عينين نجلاوين وفم دقيق. ترفل في الاستبرق ذي الوشي النفيس. لتاجها الزمردي وميض وهو تعتلي رأسها الصغير يغازل الخلخال الفضي الذي يتشبث بساقها اليمنى. يطوق عنقها عقدا من اللؤلؤ، ويتدلى من شحمتي أذنيها قرطان ذهبيان. فيما راحت خشخشة أساورها وهي تتحلق حول معصمين نحيلين تتناغم مع صوتها الرخيم وهي تدندن بأغنية ريفية لعلها كل ما أتت به من موطنها. وجودها شع في جناحها الخاص أي بهجة !.    

-  من ؟. سيدي.. !.

ياللخجل. لعله سمعها وهي تغني.  شبه ابتسامة خفيفة تلوح من تحت شاربه الكث. عيناه دافئتان، وهما تحدبان عليها بنظرة حانية. كأنه جبل بقوامه المديد وثيابه الحريرية. تقدم نحوها. قبيل قليل كانت قد تطيبت بالغالية والزعفران. حتى شعرها الناعم. لا تزال رائح المسك والعنبر تتضوع منه.أنامله تداعب وجنتيها الطريتين. تعبث بشعرها. يحتويها بذراعه...

أين أمي اليوم يا ترى. ألا تزال على قيد الحياة ؟. أبي. أخوتي. ماذا حل بهم ؟. الحب الأول. ابن عمي. هل أسر هو الآخر ؟. تراه بيع في مكان ما ؟.  أين أنت الآن يابن عم ؟. لتأتي وترى الخير الذي ترفل به ابنة عمك...

 

يوسف هداي الشمري

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1419 الاحد 06/06/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم