نصوص أدبية

حلم حقيقي

 وتفاؤله هذا لربما سرمدي، يمده بالعنفوان والشباب والتجدد لتبقى روحه تعانق الورود وقلبه ينبض بالود وعاطفته ليس لها مقياس، رغم أن الكثير من شعيرات رأسه البيضاء قد اتخذت لها موضعا في كل جانب من جوانب صورته، وصوته المتعب بدا متثاقلا  وكأن ثقل الهم الذي حملته طيلة سنوات عمره الأربعيني روحه الشفافة قد أثر فيه . ولهذا تطلب إليه حبيبته التي رأى صورتها في منامه وقد وجدها أخيرا حقيقة ماثلة أمام عينيه بالجسم والروح، أن يرفع قليلا صوته حينما تتحدث إليه عبر جهاز الهاتف الخلوي في ساعة متأخرة من الليل.

وبعد تخطي جميع مراحل العشق التي ألفها في شبابه يوما من الأيام وحان الموعد الذي رسمه معها وخططا سوية له بعناء ومشقة  للقاء الأول بينهما، وجدها شمعة تتوقد أمامه، ونجمة تضيء ليله الذي تلبد بنهاره، وقمرية تغرد بضحكتها التي ملئت نفسه أملا، فلا حاجة به بعد اليوم إلى أن يتطلع في شرفات الشقة أو من نوافذ الغرف كما أعتاد النظر للطيور وهي تمر كزهورا مقطوفة يأخذها تيار الماء الجارف في نهر تطفوا على سطحه وهي مسافرة لا تعرف وجهة غير تلك التي يسلكها النهر.

كان في ذلك اللقاء همسات وتمنيات وضحكات وكلام من غير حديث تتقاذفه عيونهم مثلما كانت العيون تسترق بخجل لحظات الجرأة على البوح. لم يخوضا في كل أمورهما، بل كانا مهووسان بعشق الدفء المتدفق من شوق اللقيا .كلاهما تمنى تكرار الحلم بنفس كل همها القرب.لم يكن ذلك الحلم هو مبلغ أمنياتهم بل أنهم تمنوا أن تطال الأيدي بعضها بعضا وتتعانق بعد التصافح وأن تتقابل الشفاه معا للحد من الوجد . سارا معا ليكون الوداع اقل ثقلا عليهما فتقاسما فكرة التواصل، فأوصلها بحرص المحب الغيور دون مراعاة خشيتها من افتراس العذول وبطشه   بأسرارها حتى أخر محطة قريبة من دارها.

كان الوداع فقيرا وسريعا رغم أنهما قد قطعا مسافات عدت بالأميال من نقطة التقيا  أول مرة حتى عودتها منه. تمكن هو من حضنها بعيونه لأنه وكما هي عادته حسبها منة من الله وهبة منه إليه ولم يتجرأ على تقبيل خصلة شعر من شعرها الحريري . وتمكنت هي من السيطرة عليه بكامل جوارحه وركزت قلبها في جوفه أكثر فعلق حبها بشدة داخل شرايينه وتهادوا إلى أعماق الحنين والألفة ليهووا برأسيهما في صرح بودقة العشق من دون عناء. و ما أن أحس بجود القلب للوجد حتى تطاير يناجيها من بعد وبلغة الأنامل التي تصدر الكلام دون ضجيج وتنثر كلمات الحب عبر شاشات صغيرة لتتلقفها عيونها التي أثقلها النعاس فتقوم عندها بطلب الاستئذان والتحضر لروتين التوديع اليومي حتى التقوا مرة أخرى ولكن اتفقا هذه المرة على السكوت واقتصار اللقاء العابر على تبادل النظرات

لأنه لقاء توديع وفيه العواذل حاضرين . ولكنه عمد على خرق ذاك الاتفاق ليداري حبيبته رغم إهماله شرط من شروط توديعها.وبات الحديث يتكرر بينهما بوحا وضحكا عبر الأثير حتى لحظة ركوبها براق الشرق في آخر الليل .

وعند لحظة افتقاده لها، بدا  تائها وكأنه المخلوق الوحيد على هذا الكوكب وهي قد أشرفت على الرحيل لكوكب آخر ليس في مناله الوصول إليه .  وعندها أخذ يحاول العودة لشيطان شعره يستجير به غايته نشد قصائد لقيس لم تكتب بعد في حق ليلى . وقال وكأنه يحدثها عبر حديثه مع نفسه :

 

 أين أنت اليوم مني، بت أمسي

 فلقد أصبحت مجنونا بك مرتين

 مرة ساهدا بعشق في حشايا فؤادي

 وأخرى حائرا مترددا عن ضنوني

 متسائلا:أين أنت ..بحق الإله..طمئنيني

 فأني أخاف المنون وخطب زماني مني

 يتخطف دوما أجمل حلما ما رأت عيني

 وتبقى نبرة صوتك ترنيمة عذبة تحييني

 ولحنا جميلا  و أنشودة ب مسمعي كلميني

 أراك رغم البعد في أعماق وجدي وهمسي

 والبعد آلم جرحا موغرا ما به من تطبيبي

أين أنت ..بحق الإله ..طمئنيني 

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1427 الاثنين 14/06/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم