نصوص أدبية

رائحة المسك ...

انفاسه ويتأبط علاتـه المسكونـة بالتوجس والريبة، تعتريه رغبة جامحة لولوج معترك ذلك الأزل المعتم المغلف بالصمت المهول المطبق، ليعتليّ عنوةً، صهـوة هذا (الابهار) المقيت كي يقوده لتساؤلٍ فطري مجبول برغبـة البقاء، والأبتعاد البتة عن دائرة الموت  (الا يشتهيه الآن) .

- ترى اين انت يا بن النادر؟!!!

راحت عيناه الموغلتان في القدم تحتويان تلك الخلوة اللعينه بجزعٍ قاتل .

- انه الجحيم بعينه، سوى انه ليس فيه عويل، ولا صراخ، ولا أنين، ولا معذبون، ولا حتى سعير نار جهنم .

كادت الظلمة من حوله تفترس ملذاته الجديدة هذه، لترسم على وجهه المسخ أبتسامة عاجلة حينما قادتــه افتراضاته المتحفزة بخطوات وئيدة وفحولة مرتعشة مقتاداً صوب ضوء قنديل باهت بعيد، جمع قواه المهشمة بعد أن رحلت عنه مخاوفه المبكرة تلك، حينها صرخ بصوت عال مكتوم .

    - هل من أحدٍ هناك .

كررها ثانية، وثالثة ...

- اللعنة .. لا شيء .. سوى صدى صوت الصمت الموحش والظلمة .

دلف بغير اكتراث داخـل صومعة هزيع الظلمة وذلك الوشم الخرافي للصمت، كان جسده المضني المسلوخ الجلد المليء بالكدمــات والجروح المتقيحة ذات الهول الغائر داخل عمق تلك المجاهل التي تبعثُ على التقيؤ والاشمئزاز والنفور، راح يحدق مليا ًعبرالضوء الباهت للقنديل صوب متاهات ذلك الوجه المريب للجدار الهرم المائل وقد انحدرت نظرات عينيه الحجريتين  نحو عظمة ساقه التي خرجت من بين ركبتيه ببياضها الثلجي الموشـوم بنزف دمٍٍ أحمرٍ قان ٍ، حدق ببلادة صوب الجدار المائل، غطى ساقه بشيء من جلده، وعاود نقل خطواته المشلولة مخلفاً وراءه متاريسا من ألمٍ وحزن، محزوماً بهودج من حنقٍ ماجن يلوح فوق عظام وجهه المجذوب .

    - أسرع .. اسرع يا  ابن النادر،  فثمة متسع للحب هناك .

أنبلج نهار فضيّ داخل ذاكرته الهرمة ممزوجاً بلهاثه حين أتقدت صورتها أمامه بابتسامتها التي كانت تملأ عليه الدنيا .. كل الدنيا، كان شعرها الفحمي يفترش بخصلاته أرض حزنه، عشباً اخضراً سرمدياً.

     - تأمل يا عبد الحميد .. كيف سيكون الغد؟

     - احلى، احلى واجمل وعينيك .

     - أتعتقد ذلك؟!!

     - يقيناً أتدرين لماذا؟ لأنني ساكون بجانبك على الدوام .

     - اتعدني بذلك؟

 - بل أقسم بتربة  أمي .

رددها داخل همس لهاثه المحتضر وهو ما زال يتعثر بعظام قدميه المهشمة، أنحسرت سعة القبو بامتدادها واستحالت في عينه بحجم نواة، حينما عرف بانه قد فارقها آخر مرة مقتاداً لحجرة التحقيق الباردة،  وقد أغـرورقت عيناها بدموع من دم بلون القدر القادم من أعماق المجهول، لقد تذكر انه كان مبتسما ولم يودعها، ترددت على مسامعه الخربة أصوات نواح وجلبة أنه وعدها أن يعود، لكنه لم يفعل، حاول عبثاً ان يجد له عُقبَ سيكارة بين طيات جلده المتهرىء، لكنه لم يفلح، لأن كفه المقطوعة دست داخل كومة لحم متفسخ . 

    - يا ألهي، هل الاصوات هي التي تقترب، أم أنا الذي أتلاشى صوب صمت سكون بارد.

راحت وقع خطاه تخلق حول المكان فضاءاً متخماً برجع صدى مملوء حد التخمة بالصدأ،

توقفت في حضرة ملامح احتضاره كل التواريخ والازمنة وتجمد الدم الباقي في عروقه الممزقة حين رآها بهيبتها المعهودة وهي تومأ لـه بيدهــا وقد أزدانت بثياب عرسها داخل صومعة المتاهة المقدسة تلك، ليجيء صوتها المغموس بالعفة من داخل أعماق مجاهله السحيقة، مغلفاً بالصمت الفائت،  وبقايا فحولة ساكنة، ميتة .                                                   

- تعال يا عبد الحميد. .. تعال !!!

حمل جسده المضني الذي بدى محلقاً داخل فضاءات لا متناهية، كادت الكلمات تختنق في حلقه، وهو يعــدو صوبها، رمى جثته الهامدة داخل احضانها يكتنفه شعور مغالٍ بالطمأنيه، وغبطه طفل يلثم حلمة ثديّ امه لاول وهلة، ضمته اليها، وراحت تداعب باناملها خصلات شعره الثلجي  وهي تنثر فوق جسده الخاوي قطراتٍ دمعٍ قانٍ مجبولٌ بنـدى لؤلؤ ألهي نبيل، علت في الخارج أصوات همهمة، لغط، نحيب نسوة، صراخ صبية، وقع فوؤس ومعاول فوق وجه الارض، بــدأت الاصوات تقترب وهي مازالت تداعب خصلات شعره الثلجي، وقد التصقا ببعضهما .

عَدَلَ جلسته وراح يجمع أشلاءه المبعثرة، ضم عظام زوجته اليه بقوة، وراح يسمع عن كثب همس أزيز عظامهمـا .

تعالت أصوات اللغط ونحيب النسوة، وراحت المعاول تمخر عباب الارض ليمتزج لمعان معدنها الأخاذ بحزم الضوء الساقطة فوقهما من رحم السماء، تلاصق جسديهما معاً ليستحيل القبو مرتعاً خالدا للأنعتاق .

حينها أدرك عبد الحميد النادر موقناً، بأنه ليس هو وزوجته الوحيدين داخل هذا القبر المنسي الغابر، بل جماجم ملايين الاحياء  الاموات، والاصوات الممنوعة من البوح .

ضمها اليه ضمةً جليلةً أبدية، وراح يهمس لها، بصوت مذبوح ...

-ألم اقل لك ايتها الحبيبة، بان الغد سيكون أجمل ...

قبلته، ثم ضمته اليها بقوة، وراحت هي الاخرى تهمس له ...

- نعم يا حبيبي .. فها هي الشمس تشرق ثانيه فوق القبور ...

لم يزالا متلاصقين كذلك، حتى تناثرت رفاتهما زنابق، فوق اكف القادمين . بعدهـا عمت المكان برمته رائحة المسك التي فاحت من روحهما المحلقة صوب السماء .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1431 الجمعة 18/06/2010)

 

 

في نصوص اليوم