نصوص أدبية

لو تُـرك َالقَطـا لنـام (نص مسرحي) (2)

الشاعر / أريد ماءا ً ؟

السجان / وما حاجتك بالماء .. هل أنت ظمآن

الشاعر / أريد أن أتوضأ للصلاة

السجان / (يضحك) يريد أن يتوضأ ...

      دع المساجد للعباد تسكنها

                وقف على دكت الخمار واسقينا 

      أتريد خمرا ؟!

الشاعر / أعوذ بالله ...

السجان / لنقل أنا شيطان .. وشيطان رجيم أيضا

     وأنت .. من أنت .. ها ؟!

(ينحني اليه) اجبني .. من أنت ؟!

     اجبني .. من أنت .. وما الذي كنت تروم فعله

     وما الذي كنت تروم تغيره .. ها

الشاعر / أنا شاعر

السجان / شاعر يكتب شعرا يذم به أسياده

الشاعر / انتم لستم أسيادي

السجان / ومن سيدك أذن ؟

الشاعر / الشعر !!!

 

(يرمي الكأس من يديه يُخرج الشاعر من قفصه جاره من

شعره ليلقي به وسط الباحة وهو يضربه بسوطه بوحشيه)

 

السجان / سأجعل من شتات جسدك هذا عرضة لنهش هوام الأرض

     ولينفعك شعرك حينها

الشاعر / أتعرف لم تخاف الشعر ؟

السجان / اخرس ...

الشاعر / لأنه نوع من أنواع البوح .. الذي يغازل النقاء

     والبوح ينزع عنك جلدك الذي عششت بداخله دودة الأرض

السجان / قلت لك اسكت .. اسكت

الشاعر / لن اسكت أبدا .. ما دام فيّ عرق ينبض

     وما دام في رئتايّ نفس يغازل دمي

السجان / خذوه .. والنار صلوه .. وبالرمضاء اطرحوه

     مزقوا أوصاله .. احرقوه بيته

     اقطعوا لسانه .. حتى لا ينطق بعدها أبدا

 

(يقف الشاعر منتصبا وبثبات وكبرياء)

 

الشاعر / سأمضي وما بالموت عار على الفتي

                    إذا ما نوى حقا وجاهد مسلمــا

     واسى الرجال الصالحين بنفســـه

                    وفـارق مثبـورا يغش ويرغمـا

 

اللوحـة الثانيـة

 

أثناء الإظلام التدريجي تعود الى الشاشة صورة الخيول ورجالاتها الملثمين رويدا يأتي صوت الشاعر الذي يحمل كل أسى الكون بين لواعجه ليملأ فضاء الباحة كبرياءا، ليخترق بجلاله تواريخنا الحاضرة والسالفة تسلط بقعة ضوء بلون الدم على الشاعر، وهو جاثي على ركبتيه مقيدا وسط الباحة وهوينظر للكون الذي تحول لقطعة دم بلون الموت، يصرخ ثم يدور في سعة الباحة، كأنه  مجنـون

 

الشاعر / لو علمت إني اقتل .. ثم أحيا

      ثم احرق حيا .. ثم اذر

      يُفعلُ بي ذلك سبعين مرة

      ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونك

      فكيف لا افعل ذلك .. وإنما هي قتلة واحدة

      ثم هي الكرامة .. التي لا انقضاء لها أبدا

(يدخل عليه السجان يحمل قربة ماء)

السجان / ها .. كيف حال الشاعر

الشاعر (ينظر اليه بحنق)

السجان / أرى شفتيك وقد ذبلتا من الظمأ

     هل تريد أن ترتوي من ظمأك

الشاعر / لا خير في ماء .. أنت ساقيه

السجان / مازال لسانك سليطا

الشاعر / وقلبك مجبول بالحنق

السجان / لم تقل لي .. أين كنت أثناء المعمعة

الشاعر / كنت اكتب شعرا

السجان / ها .. تكتب شعرا

     وما الذي كتبته ؟

الشاعر / هذا لا يعنيك

السجان / بل هذا هو الذي يعنيني

الشاعر / أنها قصيدة غزل

السجان / أنت تكتب غزلا !!!

الشاعر / ولم لا .. ألا املك فؤادا

السجان / أنت وأمثالك من الشعراء .. يعشقون الخراب

الشاعر / انتم والخراب صنوان

السجان / لا تهرب من الإجابة

      اسمعني ما كتبت ؟

الشاعر / أنها قصيدة تضج مضجعك

السجان / بها .. أو بدونها فأنت ميت لا محال

     فالتكن نهايتك هذه المرة على يد بيت من الشعر

الشاعر / كل أيامي الفائتات قضيتها .. وأنا .. وأنا متوجس من سمو شعري

      التي يزمع .. أن يفصل راسي عن جسدي

السجان / ساسيقك ماءا ...

(يقرب القربة من فيه يزحف الشاعر صوبه يرفع فمه الى فتحة ألقربه تنزل   بعض القطرات يحجبها السجان بكفه ليمنعها من الوصول الى فم الشاعر يركله)

السجان / على رسلك .. على رسلك ..

      فالأمر ليس هيّنا كما تعتقد

      علينا أن نعقد صفقة

الشاعر / صفقة .. على ماذا .. على قطرة ماء

      ليست جديدة عليكم

      فقد فعلتموها من ألف عام ونيف

      وقايضتم الماء ...

      بترجل الرجال عن صهوة الثبات

السجان / دع عنك ثبات الرجال

     وحدثني عن ثبات الشعراء

الشاعر / اعترف لك .. بان ثباتي ليس كثباتهم

     لان دمهم كان مجبول بالكبرياء

     وأنا شاعر بسيط .. ونفسي أمارة بسوئها

السجان / هذا فأل حسن .. مادامت نفسك أمارة بالسوء

     فإليك شروط الصفقة

      كل بيت شعر .. بقطرة ماء

      ماذا تقول .. ها ؟

الشاعر / موافق !!!

السجان / لكن .. أن كان هجاءا .. ضربتك سوطا

     وان كان مديحا .. سقيتك قطرة ماء

     وان كان غزلا .. لا هذه ولا تلك

الشاعر / لم كل هذا العناء

     اضرب بسوطك هذا ابتدءا .. واختصر المسافة

السجان / أنت شاعر وبمقدورك .. أن تقدح .. وان تمدح

     وأنصحك بان تفعل الثانية .. هيا تكلم

 

(يعتدل السجين حتى يتساوى واقفا)

 

الشاعر / مررت على أبيــات آل محمـد   فلم أرها أمثالهــا يـوم حلت

(يضربه بالسوط)

     فلا يبعـد الله الديـار وأهلهــا   وان أصبحت منهم بزعمي تخلت

(يضربه بالسوط)

     ألا أن قتلى الطف من آل هاشـم   أذلت رقـاب المسلميــن فذلت

(يضربه بالسوط)

     وكانوا غياثا ثم أضحوا رزيـة   لقد عظمت تلك الرزايــا وجلت

(يضربه بالسوط)

     الم تر أن الشمس أضحت مريضة   لفقد حسين والبــلاد اقشعرت

(يضربه بشدة، يتعب السجان من الضرب يجلس جانيا على جذع نخلة)

الشاعر / تعبت يد الجلاد من الجلـد   ولم يتأوه المجلود من الجلّـدِ

     هذا يعاني من سطوة الإثم   وذاك رأسه مرفوعة من الألم ِ

السجان / اقتلوه .. واقتلوا أهل بيته .. ومن معه

     واحرقوا بيته .. وذروه في الريح رمادا

    

مع إظلام الباحة التدريجي تطلع صورة الخيول المطهمة ورجالاتها الذين يمتطون ظهورها وهي تمخر عباب الأرض، تسلط بقعة ضوء بلون الدم على السجين وهو معلق على جذع نخلة في العراء وقد بانت عليه آثار التعذيب، مع تزامن صرخة مدوية تخرج منه، وهو مقيـد .

 

الشاعر / لا .. لا .. لا

     أنا ناصرك .. أنا مغيثك .. أنا مجيرك

     أنا الحق الذي يذود عنك

السجان (يضربه بالسوط) اخرس ...

الشاعر / من يوقف النزيف في ذاكرتي

     من يهشم ملامح اللوعة في محنتي

     من ذا الذي يستطيع ان يمنحني وردة

     أو يمنحني كلمة .. شعرا .. أو سيفا

     كي امنع بها تلك المجزرة .. وتلكم المأساة

(يضع السجان السوط على رقبة الشاعر لينزله الى الأرض)

السجان / ستنصاع لأوامري

     بقوة سلطاني .. وبطش سيفي .. وسوطي هذا

الشاعر / سلطانك زائل .. وسيفك سيلثم

     حز بسوطك رقبتي

      لكنك لن تمنعي من البوح

     فهو مكتوب في حدود السماء

     دم يراق على وجه الأرض

السجان / أتريد ماءا ؟!

الشاعر / بعضا منه لأروي ذاك العطش

     الذي مزق كبدي

السجان / سأسقيك الماء ... لكن بشرط ...

الشاعر / شرط آخر .. ما هو ؟!

السجان / أن تفشي لي كل الأسرار

الشاعر / الأسرار !!!

السجان / أسماء كل الذين اشتركوا معك

     خذ اشرب .. انه ماء زلال .. ماء بارد المعين

تظهر على الشاشة الخيول وصهيلها وهي في لجة المعركة، تختفي تدريجيا ليظهر شاطئ نهر تنساب على جرفه مياه صافيه وموسيقى حالمة ليأتي صوت الشاعر متواشجا مع صوت انسياب مياه النهر على شوا طيه .

على الفرات نقيم عرسا للدم ... يتماثل فيه السيف بالكبرياء

أي احتقان للمدى هذا .. واي اعتمار للصدى .. واي نحيب

يضرب السجين القربة من يد السجان ويطرحها بعيدا، يقوم منتفضا

الشاعر / لا والله .. لا اشرب ماءا

السجان / (بخبث) انه الماء ...

الشاعر / لا اهنأ بماء ممزوج برائحة الغدر

السجان / سأمزق أشلاءك .. وأقطع لحمك

     وانثره في الريح لتأكله هوام الأرض ودوابها

الشاعر / اذهب أنت وماؤك الى الجحيم

السجان / (بمكر) قل لي .. أين كنت ...

الشاعر / أنا ؟!

السجان / نعم أنت ..

الشاعر / كنت .. في باحة الضوء

السجان / تكلم .. أين كنت ؟

الشاعر / كنت ... كنــ ...

(تسلط على وجه السجان بقعة ضوء صفراء بلون الحنق)

السجان / شدوا وثاقه ... وامنعوا عنه الزاد والماء

     والقوه في عراء القيض ... لتهلب جسده الهاجرة الحارقة

    

(موسيقي مع إظلام تدريجي)

اللوحة الثالثة

 

تنبلج الإنارة تدريجيا لتسلط بقعة ضوء بلون الزهو وسط الباحة ليظهر الشاعر وهو يرتدي معطفا يبدو بهندام وحالة مرضية، يقف أمام باب بيت خشبي يطرقه عدة مرات وكأنه يكلم زوجته وهي تقف على الشرفـة العاليـة للبيت .

الشاعر / هذا أنا .. هذا أنا أيتها الحبيبة

     أنا هنا .. انا زوجك .. لقد عدت

     ألا تسمعين .. لقد عدت

     انتظرت طويلا وأنا أتوق لهذه اللحظة

     حتى كادت ذاكرتي الهرمة

(يضرب بكفه على صدغه)

     تغادر هذا المنحوت الحجري

     وتهرب ملامحي .. خائفة من ملامحي

     ماذا لا أسمعك .. ماذا تقولين

     يكاد همسك يخترق كل الأشياء .. إلا مسامعي

     يجب أن أغادر الى هناك !!! ... الى أين

     نعم .. اعرف ذلك .. أأدخل ...

     ماذا .. لا ادخل .. حتى اذهب الى هناك

     أنا مزمع للذهاب الى هناك

     لكنني جئت كي أراك .. ثم اذهب الى هناك

     ماذا .. ألهناك أهم منك ِ ...

     حسن ٌ .. حسن .. سأذهب .. سأذهب .. ستكونين بانتظاري

     بلى ومن جانبي سافي بالعهد .. نعم سافي بالعهد ولن أتنصل عنه أبدا

     وداعا .. وداعا يا كل عزائي .. وعذاباتي

     كوني في الانتظار أيتها النبض الطالع من رحم الأرض

(صوت السجان يجيء عاليا وهو يجلس على كرسي والسجين داخل القفص وكأنه داخل محكمة)  

السجان / وهل ذهبت ؟!

الشاعر / (وهو يقف داخل قفص الاتهام) نعم !

السجان / يعني حملت سلاحك وذهبت ؟!

الشاعر / حملت بوحي وذهبت !!

السجان / وما الذي فعلته هناك ؟!

الشاعر / لم أطلق رصاصة واحدة !                 

السجان / وما الذي فعلته أذن ؟

الشاعر / لملمت نبل قصائدي .. وقذفت بها في لجة المعركة

السجان / (بصوت عال) محكمة ؟

الشاعر / لا تنطق الحكم .. فانا اعرفه من إلف عام ونيف

      حين ارتكب الجلادون .. والسفاحون .. والمارقون

      أبشع مجزرة في التاريخ

ينسحب السجين مع اخفات الإنارة ليدفن جسده وسط كومة من تراب وسط المسرح، نسمع صوت السجان وهو يجلجل بوحشية ليملأ فضاء باحة المسرح

السجان / وفقا لإحكام المحكمة

     قررنا ما يلي ...

     حكمت عليك المحكمة وعلى من معك

     بترككم في عري ّالرمضاء .. أجساد بلا رؤوس !!!     

(يدور السجان فوق باحة المسرح مزهوا بمجزرته مترنحا)

     أوقر ركابي فضة وذهبـا    أنا قتلت الملك المُحجبـا

     قتلت خير الناس أما وأبا    وخيرهم إذ يُنسبون نسبا  

(يملأ الباحة إظلام بلون المأساة ليطلع من بين ذلك الإظلام صوت منادي عال)

الصوت / يا أهل يثرب لا مقام لكم بها     قتل الحسين فادمعـي مدرارا

     الجسم منه بكربلاء مضـرج     والرأس منه على القناة يدار

تسلط بقعة ضوء بلون الشهادة على السجين وهو يطلع منتفضا من بين كومة التراب التي توسطت باحة المسرح، وهو يصرخ بصوت تملأه المأساة والفاجعة

الشاعر / نحن أحياء .. نحن أحياء .. أيها المارقون

     وسنبقى أحياء .. ما دام التاريخ يسطر ُ لنا

     بقطرات الدم النازلة من رحم السماء

     ملامح فواجعنا الفائتة

     ولو ترك القطا لنام ...

 

(ستــار)

  سعدي عبد الكريـم

                                   2009

             

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1112  السبت 18/07/2009)

 

 

في نصوص اليوم