نصوص أدبية

لو تُـرك َالقَطـا لنـام (نص مسرحي)

تأثيث فضاء الباحة بإشكال سينوغرافية لاغناء المشهد المسرحي وتحصين مظاهر الإسقاطات التجريبية الحداثوية في محاولة لمحاكاة واستقراء الملامح التاريخية عبر مناخات وفضاءات المسرح الملحمي لتقريب ذات الوقائع التاريخية في جل الملاحم النبيلة الجليلة لثورة الإمام الحسين (ع) باعتبارها صوتا ثوريا تحرريا قال تلك (اللا) الطالعة من رحم الموقف التغييري والثبات الإلهي والتي غيرت هوية ماهيات النهضات التحررية اللاحقة لجل الثورات على وجه البسيطة .

وقد اعتنيت واهتممت باستثمار (فن الملتميديا) التي تنحصر استخداماته في العرض المسرحي (التسجيلي) عبر المساندة الفنية والتقنية لتفعيل المشهد المسرحي عبر مناشط الصورة السينمائية التي يتم عرضها عبر الشاشة لتدعيم الفعل والإسهام في ترصين واغناء المشهد وتقديم مادة درامية صورية مرئية تأخذ على عاتقها تسهيل مهمة (الميزانسين) الإخراجي وتأتي هذه التشاركية في مقاربة المظاهر الفنية والتقنية العرضية لتوكيد الاستنتاجات المهارية الناهضة للعرض المسرحي الذي يتوخى الحصول على أعلى درجة من درجات الاستجابة من لدن المتلقي (المشاهد) وتحقيق نتائج فضلى من خلال ذلك التلاقح والتمازج بين جل الفنون وبذات الوقت إظهار ذلك التلاقي المتأتي من الإسقاطات الأسلوبية بين المناخ الحداثوي والتاريخي للخروج بعرض مسرحي ملحمي يفضي بنا الى طرازية مهمة في خلق نوع آخر من أنواع التواصل الحي بين المتلقي من جهة وبين الخطاب المسرحي من جهة أخرى وصولا الى نتائج نبيلة من خلال العرض المسرحي .

يخبأ هذا الخطاب المسرحي تحت مفاتن عرضه الاستقرائية ملامح الرفض البائن لكافة الأنظمة الدكتاتورية التي سحقت المثقف في محاولة منها لأدلجة أفكاره الحرة الراقية .

وهذا النص أقدمه كمحاولة احسبها مختلفة في تقديم خدمة متواضعة للثورة الحسينية الكبيرة التي غيرت التاريخ، بل كتبت التاريخ بأروع حلة وبأجمل حروف طُرزت بذهبٍ مجبول ٍ بماء ِ الجنة ِ . 

 

......................

نص مسرحيـة ... 

لو تُـرك َالقَطـا لنـام ْ

تأليف / سعدي عبد الكريـم

 

الشخصيات

1-    الشاعـر

2-    السجـان

3- الصـوت

* اللوحة الأولـى *

 

باحة المسرح تغرق بإظلام تام، يخترق تلك العتمة والصمت المشوب بالترقب صوت صهيل خيول بعيدة تقترب رويدا لتظهر صورتها بالكلية على الشاشة الخلفية التي تتوسط الباحة لتعرض لنا وقائع (حرب السنة الألف ونيف) تجتاز حوافر الخيول مفازات مقفرة لتذري خلفها ذرات الرمل المتطاير من بين سنابكها متجهـة صوب خيـام تتطرف بعزلـة مريبـة وسط تلك المفازات الموحشـة

يطلع صوت من رحم الأرض ليملأ فضاء الباحة وهو يردد هذه الأبيات من الشعر بصوت مذبوح ، يطلع من رحم تلكم الفجيعة النائية القصية، مع اختفاء تدريجي لصورة الخيـول وصوت صهيلهـا .

 

الصوت / يا دهر ُ أف ٍ لكَ من خليل ِ   كم لكَ في الإشراق والأصيل ِ

     من طالب ٍ وصاحب ٍ قتيل ِ   والدهر ُ لا يَقنـع ُ بالبديـل ِ

     وإنما الأمر الى الجليـل ِ   وكل ُ حيّ ٍ سالـك ُ السبيـل ِ

تنبلجُ بقعة ضوء بلون الدم على الشاعر بتزامن مع صرخة مدوية تخرج من جوفه المحترق بالفحولة، والذي راح يمسك بقضبان سجنه الحديدية الصدئة زاحفا، وهو يرتدي العراء لباسا له، المكان مليء بقيء الإشكــال المقرفـة

 

الشاعر / (بصوت عال) لا .. لا .. لا

     الحقوا به .. الحقوا به

     فهذا القمر النوريّ قد اكتمل

     امنعوا عنه عتمة هذا الليل .. وهول السيل ..

     وصدوا عن حزم الضوء البهية هذه .. حوافر الخيل ..

(ينهض) مازال الزمن الجميل يحتضر ...

     ليس ثمة َ منقذ ٌ لنا غير ذاك القمر البهي

 (ينظر الى السماء يدور ) يا أيها القمر الذي اكتمل

     هل أجيء معك .. كي اخبأ دمعي ودمي فيك

     أم ابقى في عزلتي هذه الذي قادني اليها

(يضرب صدغه) هذا المنحوت السحري !!!

     كما تقاد الإبل الظامئة صوب سراب المفازات

     لا تغادر مقلتيّ

     يا أيها الجرح والنزيف .. والانا التي تستوطن فيّ

السجان / (يدخل عليه وهو يحمل سوطا يضرب به على كفه)

     ها .. مازلت تأن على ماساتك الفائتة ؟!

الشاعر / (ينظر اليه بشزر .. برهة)

السجان / أراك تنظر اليّ ؟!!

الشاعر / (صمت)

السجان / تكلم وإلا سلطت عليك افاعى الجبل الأسود لتنهش لحمك

السجين / لم يتبقى في جسدي شيء

     إلا بقايا من جلد ...

السجان / جلد شاة

الشاعر / يسلخ جلد الشاة بعد ذبحها

     لكن جلد ذلك المنتظر الإنسان

     يسلخ قبل ذبحه في الحجر السرية .. والمسالخ البشرية

     وفوق مقاصل البوح ...

السجان / (يركله) أتحب أن اقطع لكَ لسانك

      حتى لا تبوح بعدها

الشاعر / البوح ممنوع حتى من الصمت

     والصمت ممنوع من البوح

     .. هي دائرة القيد

السجان / (يركله) هذيان .. هذيان

      لقد أخذت السياط من عقلك مأخذنا

الشاعر / لكنها لن تأخذ شيئا مما استقر فيه

السجان / أي عقل .. هذا الذي تتحدث عنه

     انه الموت .. الموت

الشاعر / الموت متاعا آخر للبقاء

السجان / البقاء ؟!

الشاعر / بلى .. فالمسافة ذات المسافة

     ما بين البقاء .. أو الاحتضار حتى الموت

السجان / انه الموت ؟!

الشاعر / أنها سجيتي ...

     فانا مجبول بها من ألف عام ونيف

السجان / أنت مجنون

الشاعر / الجنون ملاذ آخر للنوح

السجان / انه الموت

الشاعر / للموت مذاق آخر

السجان / انه الموت

الشاعر / (يصرخ في وجهه) أنا لا أهاب الموت

     انه خلاصي النبيل .. من مجامر الاستمالة

السجان : انه الموت

الشاعر / الموت كتب علينا من إلف عام ونيف

      اسمع ...

تخفت الإنارة ليطلع ذات الصوت المذبوح من بين ملامح الظلمة وبصوت مذبوح

الصوت / ان الموت نازل لا محالة

     ولو ترك القطا لنام

تعود الإنارة لتضاء الباحة يقف الشاعر منتصبا على قدميه بينما يجثو السجان بمحاذاة قدميّ الشاعر العاريتين .

الشاعر / الله .. الله

     أتسمع .. انه ذات الصوت من ألف عام ونيف

     انه ذات الصوت الذي يجيء من عتمة التكوين الأول للأحياء

     أسمعت .. أسمعت ؟

السجان / ما الذي اسمعه ؟!

الشاعر / الصوت !

السجان / أي صوت ؟!!!

الشاعر / صوت خلجات نفسك الهاربة من اليقين

السجان / أنت معتوه

الشاعر / ما أجمل التيه في مخاصب الندى ومطالع المدى

السجان / خرافات !!!

الشاعر / لأنك مجبول فيه

السجان / مجبول بماذا ؟!!!

الشاعر / أنك لا تفتح محاجرك على اتساعها لترى حزم الضوء

السجان / انه محض افتراء

الشاعر / الافتراء يدونه المارقون ...

     والذين يمسحون رداء السلطان

السجان / (ينهض رافعا سوطه) لقد تجاوزت حدودك ...

ينهال عليه ضربا بالسوط الذي بيده على جسده والشاعر يبدأ بالزحف وقد بانت على ظهره مشاهد التعذيب والسجان يستمر بضربه بالسوط وهو يساؤله، يرتقي إيقاع المشهد بتصاعد ملامح المسائلة .

السجان / سأيتم عيالك ؟!

الشاعر / عيالي لهم الله

السجان / ساسلب مالك ؟!

الشاعر / المال .. أنه محض افتراء

     أنا لا املك .. إلا الشعر

     وهو أثمن ما املك

السجان / وحياتك ؟!

الشاعر / حياتي ورقة توت تسرقها الريح حيث تشاء

السجان / وزوجتك ؟!

الشاعر / معي .. معي ما دامت تريد لي الثبات

السجان / والناس ؟!

الشاعر / الخيرون سيقيمون عرسا في مأتمي

     لأنني مثل كل الطيور المهاجرة .. لا اعرف المكوث

السجان / أنها مهزلة

الشاعر / بل قل هو موقف

السجان / موقف ؟!!

الشاعر / نعم أنه موقف عمره إلف عام ونيف

السجان / عمن تتحدث ؟!

الشاعر / أتحدث عن الدم الذي أريق على الرمضاء

     الدم الذي بكى عليه الطير والشجر .. والماء والحجر

     وبكت عليه ملائكة السماء

السجان / دم من هذا .. ادم نبيّ هو ؟!!

الشاعر / أيها النائمون على وجوهكم

     وقلوبكم من صخر

     أذاناكم في داخلها وقر

السجان / أنت تهذي ...

الشاعر / الهذيان .. موردا من موارد الاشتغال على الأحرف

السجان / شاعر ٌ أنت أم فيلسوف

الشاعر / الفلاسفة ينهلون حكمتهم من المنطق

السجان / وحضرتك .. من أين تستقي حكمتك ؟!

الشاعر / استقيها من ومضة حرفي .. من تشظي الشعر

     من الدم النازل فوق الرمال

 السجان / سأقطع لسانك !!

الشاعر / سأدون المأساة بيدي

السجان / سأبتر يدك

الشاعر / سأبوح بالعيون

السجان / سأقتلع عينيك

الشاعر / سأتكئ على فحولتي

السجان / سأجتث فحولتك

الشاعر / سأسمو بكبريائي

السجان / (يضحك) حينها ستكون رفات

    فكيف ستسمو بالكبرياء ؟

الشاعر / لا .. لا .. لا

     الكبرياء لا يموت البتة

     لأنه سيبقى تاريخا نبيلا يلازم الرجال كظلهم

     داخل القبور .. وخارج القبور

السجان / (يحك فروة رأسه) داخل .. وخارج القبور

     ما الذي تقصده .. ها ؟!!!

الشاعر / لان عقلك الصغير هذا .. لا يفقه غير الذي يراه انفك

السجان / يراه انفي !!!

(يتلمس انفه) وهل انفي يرى ؟!!!

الشاعر / نعم .. وكيف لا يرى

      لكنه .. لا يرى إلا ما تحت قدميك

      اسمع ...

(يأتي الصوت من مجاهل النفس ليملأ فضاء الباحة شجا)

الصوت / هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

                   والبيت يعرفه والحل والحرم

     هذا ابن خير عباد الله كلهم

                  هذا التقي النقي الوارع العلم

(تعود الإنارة عليهما)

الشاعر / أسمعت ؟!

(برهة)    

السجان / أنت تهزأ بي !

الشاعر / لأنك عرضة لذلك .. ولان عينيك لا ترى ...

السجان / عيني .. عيني تجيب الطير الطائر

الشاعر / قدرة الإبصار ليست بالبصر .. لكنها بالبصيرة

السجان / رجعنا الى الفلسفة !

الشاعر / لأنك لا ترى فيهما غير أرنبة انفك

السجان / ماذا .. ماذا

     أرنبة انفي !!!

الشاعر / بلى ..

     لان توقد ذهنك مرتبط بالمسافة المحصورة مابين عينيك

      وما بين قدميك .. وأرنبة انفك

تحمر عيناه يزمجر يطرح الشاعر على الأرض وينزل عليه ضريا حتى يتعب وينزوي ثانية، يجلس، يشرب من قربة الماء التي علقت على الجـدار القريب

الشاعر / أنني عطش .. اسقني

السجان / (يضحك) أسقيك .. لا أسقاني الله

     إن أنا أطفأت في جوفك الظمأ

الشاعر / فعلها أسيادك قبلك

السجان / أسيادي ؟!

الشاعر / بلى أسيادك الذين اقترفوا المجزرة والذين أحدثوا ...

     مصائب بددت شمل النبي ففـي    قلب الهدى أسهم يطفن بالتلف

السجان / هؤلاء قومي .. ومن هم قومك ؟!

الشاعر / لهم نفوس على الرمضاء مهملة    وأنفس في جوار الله يقريهــا

     كان قاصدها بالضـر نافعهــا    وان قاتلهــا بالسيف يحييهـا

السجان / سيجننك الشعر !!!

الشاعر / الشعر ملاذ آخر للسمو

     ولأنك لا تدرك العلاقة ما بين الحاء وبين الباء

     لذا ستبقى كمن يهوى من حالق من فرط جهله             

السجان / أنا جاهل ؟!!!

     تشتمني وأنت سجيني

     اليوم .. اليوم سأسلخ جلدك

الشاعر / يسلخ جلد الشاة بعد ذبحها

     لكن جلد ذلك السمو الإنسان

     يسلخ قبل ذبحه في المحافل السرية

     في المجازر .. في حجر التحقيق .. تحت النار وفوق النار

السجان / اخرس .. اخرس ...

الشاعر / من يمنحني سبعون روحا ونيف

     استجمع فيها جل الومضات

     كي اعبر هذي المديات

السجان / (يضربه) اخرس .. قلت لك اخرس

الشاعر / سأكون شاهدا على تلك المجزرة التي اقترفها

     الجلادون .. والحاقدون .. والسلاطين

     اقترفوها في الضفة الأخرى للزمن القصي النائي

     على رمضاء الغدر ...

     وسيوف القتل الدامية وسلطته الماجنة

     كي انصر تلك الومضة المذبوحة على الرمضاء

 

يعم الإظلام لتظهر على الشاشة صهيل خيول وغبار يهب من خلف سنابكها ورجال فوق صهوتها وهم ملثمون بالحنق وملامح الضغينة يطلع الصوت مذبوحا بعد أن تختفي الأصوات لتبقى الصورة صامتة على الشاشة .

 

الصوت / قد نزل من الأمر ما قد ترون

     وان الدنيا قد تغيرت .. وتنكرت .. وأدبر معروفها

     واستمرت جُدا

     فلم يبق منها الا صبابة كصبابة الإناء

     وخسيس عيش كالمرعى الوبيل

     الا ترون ان الحق لا يُعملُ به

     وان الباطل لا يُتناهى عنه

     ليرغب المؤمن في لقاء الله مُحقا

     فاني لا أرى الموت إلا شهادة

     ولا الحياة مع الظالمين إلا برما

     فو الله لا يسمع واعيتنا احد ثم لا ينصرنا .. إلا هلك

 

تابع القسم الثاني من المسرحية

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1112  السبت 18/07/2009)

 

 

في نصوص اليوم