نصوص أدبية

دفين مقبرة الغرباء

 كان البيت عبارة عن قن من مساحة 100 متر مربع طابقين، كف اليد المرعبة تطلق العنان لعنجهيتها في ترددات الطَرْقْ الخبيثة، اطّل الاخ الاكبر من سطح الدار كان القادمون ثلاثة احدهما مدني والباقي عسكريان بزي يميزهما نزل الاخ واخبر اباه ليخرج لهم وهو يعرف سحنة الطارق ولاتهذيبه وقسوة ملامحه فقال له اهلا ابا عزيز انا المختار سيد خلف ابو هاشم وهذان العسكري احمد والشرطي فلان من مركز شرطة الحرية... نبلغك بإعدام أبنك سامي العسكري وجلب الجثة المأمور الضابط أحمد وهي الان في مركز الشرطة نريد ثمن الرصاصات السبع؟! ولانريد عزاءا لانه خائن ولانريد نواحا ولاسرادقا ولاتجمعا عائليا ولااي مظهر من مظاهر تكريم الخونة! لم يبدِ على الاب المُحنّك التجارب اي رد فعل سوى انهزامية وسط جوارحه كتمها بصمت محيرّ لم يعلّق على الامر فاي تعليق سيجعله الضحية التالية. غادر المخبرون مسرح التراجيديا ناحت نساء الدار حتى زوجة الاب فلم يكن ضروريا رسم الحزن فهو الان شاخص في وسط الدار المهلهلة الاثاث.. كانت سيارتهم التويوتا كراون التكسي في الباب ولكنها بلا حاملة البضائع في سقفها الخارجي وما يسميه العراقيين ( بالسيباية ) فقرر الاب مع ابنه الاوسط جلب الجثة باي وسيلة ممكنة وصلوا لمركز الشرطة استلموا شهادة الوفاة (خائن) إعدام رميا بالرصاص دفعوا قيمة الرصاصات الغادرة وتوجهوا لجثة المظلوم ليجدوها على فراش رث دون تابوت متجمدة من وجودها في ثلاجة الموتى... كان الجسد متيبسا حمله الاخ والاب وبعض الشرطة الحانقين بصمتهم لم يدخل للفراش الخلفي في السيارة لانه كان ذا طول فارع احتاروا حتى اهتدى المتعجل اخيه بوضعه في صندوق السيارة!! لامتكورا بل رأسه للخارج وقدماه للداخل عله يتلفت! فيرى اسفلت الشوارع التي رافقت صباه وفارقها للابد! ربطوا غلاف الصندوق خوف ان يخدّش البضاعة الانسانية اللاثمينة فينهال عليها بمطبات الشوارع طارقا! شكروا الله! لم يكن احدا في ذاك الوقت المتاخر يرى جثة متدلية متجمدة في صندوق تستنشق غبار الشوارع وتتحمل مطباتها وارتدادات غلاف الصندوق! ليت شعري ماذا كان سامي وقتها يحدث نفسه؟! اي صورة يمكن للمظلوم ان يرسمها وجسده يتهاوى بين مسار المطبات ومطرقة غلاف صندوق لم يغلق عليه؟! اصبحت المسافة القريبة بين داره ومركز الشرطة كانها بين الارض والقمر كان اخيه يسير الهوينى ويتفقد الجثة خوف سقوطها! مع انها لازالت تحمل وثاق ما قبل رصاصات الغادرين! نعم كان سامي حتى بعد موته موثوق اليدين للخلف. وصلوا الدار كانت البضاعة الانسانية الممتهنة الكرامة سالمة مع إنها كانت تلامس حافة حديد الصندوق مباشرة.. كانت النساء في الباب متلفعات بحزنهن ودموعهن ووجلهن قبل التلفع الاسودي بالعباءات نزل الاب مسرعا منع الصراخ منع النشيج العالي الصوت حبس الانفاس وكتم الدموع ثم ادخلوا الجثة اليانعة الرصاصات لوسط الدار عندها اطلق الاب العنان لسراح صرخة مدوية كانت حبيسة ساعات وساعات وسط جوانحه المهشمّة التجانس..

اتصدقون عائلة تخاف من رد فعل البكاء على الميت؟ هكذا كان الحال نواحا وتفقدا للجسد الذي اخترقته الرصاصات السبع صدريا فمزقت الظهر عند تقليبه شرّ ممزق..

كان المظلوم سامي صامتا.. ولاغرابة لم تتحدث يوما جثة للناظرين إليها !فلم ترتسم في مآقيه خلجات ما!! تسارعت الاحداث لم ينتظروا الصباح فضوء الصباح عليهم ليل مظلم... أحضروا تابوتا على عجل ثم وفّر أخيه حمالة الحقائب وربطوه في هدوة ذاك الليل القاسي ملامح الدقائق والثواني وتوجهوا بالجنازة لمثواه في النجف الأشرف وهناك كان ميزان سيف الرعب ماثلا في كل سيطرة تدقق في هوية الميت فقد كانت شهادة الوفاة (خائن إعدام رميا بالرصاص) مدعاة للحذر في كل سيطرة حتى وصلوا المغتسل والمراسيم المعروفة ليهتدي ابوه لفكرة غريبة وهو ان يدفن فلذة كبده مع الغرباء!!

كان يخاف على اولاده الثلاثة الأحياء فقرر ان يدفنه في غربة مقبرة بعيدا عن من يعرفونه ويعرفهم فقد جافاهم سامي حتى في أرض التوسد فدفنه مع الغرباء رغم ثقته ان لااحد يلتفت لأي غريب يتوسد الأرض ثم عاد الأب وكإن جبلا قد انزاح عن كاهله فقد صمتت الدموع عندها حتى في وداعه الأخير وعذرا ياولدي لن يعرفك هنا احدا.. حتى الباحثين يوما عن قبرك مع أقرب الأقارب لن يجدوك وهذا مرام الفاشيين تحقق حتى في دفن المظلومين.

 

 

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1591 الأثنين 29/11 /2010)

 

في نصوص اليوم