نصوص أدبية

أنا أعشقُ والدانوبُ يُدوِّن !

ولم يبقَ سوى النزرِ اليسيرْ

فلقد أرّختُ بالحُبِّ قروناً لم يروها

ولها في حِيرةِ النُّعمانِ مليونُ سديرْ !

 

قَرَعَتْ الجرس ففتحتُ الباب، كنتُ شاكاً بمجيئها رغم أنها وعدت إلاّ أن وعدها نقلتْه لي عبر التلفون بنبرةٍ تنمُّ عن ارتباكٍ وحيرة، كان هذا قبل يومين من مجيئها .

كنتُ قبلَ أن تقرع الجرس أقرأ – وأنا بملابس النوم – في كتاب يتناول بالتحليل والنقدِ الحضارةَ البشرية، هذا الكتاب الذي صاحبني لزمن طويلٍ حتى طرَّزتُ بعضَ حوافِّهِ ببقع القهوة والنبيذ !

إنه وقتُ ما بعد ساعات الصباح الأولى، والشمس مشرقة مع أني لم أرَ ضوء النهار فالستارة مسدلة والباب مغلق ولكني أحدس هذا او أشمُّ رائحة الطقس فأتخيل شكله .

حين فتحتُ الباب تفاجأتُ بشمس أخرى غير التي تخيَّلتُها، صحيح أن الشمس كانت وطفاء الشعاع، تمشِّط برموشها أوراق الشجر المنتصبة أمام روضة الأطفال في الجهة المقابلة لشقتي غير أن ابتسامةَ شديدة الإشراق بعثتْ في نفسي ابتهاجاً كبيراً خاصة وأنا كنتُ أتوقع التململ والعبوس منها فيما لو أقبلتْ .

ضحكتُ لشكل ملبسي قائلاً:

لم أفطر بعد إلاّ اللهمَّ بالكلمات والسيجارة .

قالت وما زالت محافظة على ابتسامتها: لا عليك .

ثم دخلنا الى شقتي ذات الغرفة الوحيدة، أزحتُ الستارة جانباً وفتحتُ النافذة الثانية وتوجهتُ الى المذياع مختاراً أغنية أجنبية دون تحديد وخفضتُ الصوت ثم استأذنتُ، حين جلستْ، بالذهاب الى الحمام لتغيير ملابسي وهناك من الحمّام شعرتُ أنها تخفض موسيقى المذياع ثم سمعتها تنطلق مترنمةً بأغنية عربية تضوع كلماتها الفصحى:

ولي نحو أكناف العراق صبابةٌ

ولا غَرْوَ أنْ يستوحشَ الكَلِفُ الصَّبُّ

 

فإنْ يُنزلِ الرحمنُ رحليَ بينهم

فحينئذٍ يبدو التأسف والكربُ

 

 إرتبكتُ، صحتُ من مكاني: جميل، هائل ! 

عدتُ الى الغرفة وبينما أنا أحضِّر القهوة وأصغي مندهشاً بشجا صوتها ولطف كلمات الأغنية سألتها وقد توقفتْ: لمَن هذه الأغنية ومَن صاحب القصيدة؟

أجابت: الأغنية لي والألحان من وضعي ! إنني أغنِّيها كثيراً في الآونة الأخيرة

أمّا صاحب الكلمات فاحزرْ مَن هو؟

أجبتُها: لو كنتُ أعرف لما سألتكِ !

قالتْ: إنها لصاحب (طوق الحمامة) الذي يضيف:

هنالك يدري أن للبُعدِ قصةً

وأنَّ كساد العلمِ آفتُهُ القُرْبُ

 

وعلَّقتْ: السفهاء أحرقوا كتُبَه وأدخلوه السجن حسداً وجهلاً، إسمعْ ما تقول بعض أبياتها الأخرى:

أنا الشمسُ في جو العلوم منيرةٌ

ولكنَّ عيبي أنَّ مطلعيَ الغَربُ

 

ولو أنني من جانب الشرقِ طالعٌ

لجدَّ على ما ضاعَ من ذِكريَ النهبُ

 

قلتُ لها بتأثرٍ: شكراً لك، عبقري الأندلس هذا أعرفه وهو مُقِلٌّ في الشعر وأعرف بقصة حرقهم لكتبه وسَجنه أمّا هذه القصيدة فلمْ أطَّلع عليها من قبل أو ربما قرأتها فتسربتْ من تلافيف الذاكرة ولكني لا أنسى أبياتاً له تتحدث عن نفس هذه القضية المحزنة:

وإنْ تحرقوا القرطاسَ لا تحرقوا الذي

تضمًَنهُ القرطاسُ بل هو في صدري

 

يقيمُ معي حيثُ استقلَّتْ ركائبي

وينزلُ إنْ أنزلْ ويُدفنُ في قبري

 

وأضفتُ: ولكن إذا كانوا قد أحرقوا كتبه فأبو حيان التوحيدي أعفاهم من هذه المهمة فأحرقَ كتبَه بنفسهِ !!

قالتْ: تأريخنا لا يبخل بمثل هذه المآسي، وعن صاحب طوق الحمامة فقد كان كثير الرقة إلاّ أن لسانه الذرب القاطع وهو يناظر القى على هذا الطبع الحاني الشفيف فيه ظلالاً حتى قالوا عن فصاحته ومقدرته على المحاججة: سيف الحجّاج ولسان ابن حزم شقيقان !

وضعتُ أمامها فنجان القهوة فنظرتْ اليَّ قائلة بمرحٍ: أتريدني أنا أيضاً أن أحاججك؟ كيف عرفت أني من عشاق القهوة !؟

قلتُ: ستشربينها اليوم لأجلي فقد صنعتُها بطريقة فذة ثم أنت في آخر مرة لم تنسي أن تقدمي لي شاياً في منزلك رغم أني لا أحتسيه إلا بعد تهديد ووعيد !

قالت: حسناً، سأجرب .

كنتُ جالساً الى يمينها وفنجان القهوة في يدي يضطرب قليلاً !

فهذه المرأة تعرفتُ عليها في رواق جامعة المدينة وكانت تَدرس الأدب المقارن وكنتُ أنا أرتاد الجامعة بين الحين والآخر لحاجتي الى جوٍّ ثقافي علمي ولأتناول طعام الغداء في بهوها .

تحمستْ للحديث معي منذ البداية حين رأت في يدي ذات يومٍ كتابَ: قراءات في الأدب العباسي (1)

وساعدتْني كثيراً في مجال التعرف على مفاتيح الأدب الحديث لهذا البلد وعلى أستاذ الأدب في الجامعة وبعض معارفها ولكنها كانت كثيراً ما تنقطع لفترات طويلة فأبواها لا يريدان لها أن ترجع للعراق بعد إكمال الدراسة وهي أيضاً لا تريد العودة في هذه الفترة وكانت تقول لي: قد أعود ولكن في ظروف أخرى فأبواي يخافان عليَّ لأمرٍ يتعلَّق بزواج عشائري .

كنتُ حريصاً على توطيد العلاقة معها غير أنها ظلتْ تحمل سراً ولا تصارحني بكل ما أود معرفته عنها مع أني حكيت لها الكثير عني:

وحائمتانِ تبتغيان سِرِّي

جعلتُ القلبَ دونهما حِجابا

 

وصاحبَ صَبوةٍ صاحبتُ حيناً

فتبتُ اليومَ من جهلٍ وتابا ! (2)

 

كانت متكتمة من جانب ولبقة عند التحدُّث في مجال الثقافة من جانب آخر باستثناء إشارة التقطتها منها عندما خرجنا من الجامعة سوية ذات ظهيرة دافئة والممر الخارجي ذراعاه تعومان في بحيرتين من زنابق والريح تتواثب بجذلٍ،

قالت لي قبل أن نفترق: معك تأخذ الأشياء معاني أخرى .

ومنتصف تسعينيات القرن الماضي شيءٌ آخر بالنسبة لي فقد كنت أنا نفسي موزَّعاً من الناحية العاطفية فما بين رغبتي في العيش مع امرأة من هذا البلد لاعتبارات عديدة وما بين قلقي على وطني وعلى هويةٍ شرقيةٍ لم أكنْ أستطيع تحديدها بدقةٍ كنتُ أتعثَّر ولكن وجدتني أنحاز الى هذه المرأة في النهاية والى شبابها وسرها المكنون والى ميولها القريبة من ميولي خاصة وقد عشتُ قبل هذا تجربة مع فتاة من هذا البلد انتهت نهايةً آسية !

هذه الفتاة التي كتبتْ لي فيما بعد قائلة: أخشى القول بأنْ لا عشقَ في الدنيا، أو أنه كان فمات !

فأجبتها مُعزِّياً: العشق ليس مقتصراً على العلاقة بين الرجل والمرأة فقط،

العشق عندي مبثوث في دقائق الهواء .

قالت صديقتي بعد أن امتدحتْ طعم القهوة ونكهتها: لقد أكملتُ دراستي كما تعلم واكتشفتُ عالماً غريباً وعظيماً أتمنى لو أفيض به على بلدنا ولكن ...

وعلى أية حال لدي رحلة لمدة إسبوع مع بعض الزميلات والزملاء ربما ستكون آخر لقاء يجمعني بهم وإذا أحببتَ فشاركْنا هذه الرحلة فأنا أدعوك، سنرى أنهاراً ومراعيَ وأطياراً وجبالاً مُجنَّحة !

 

يا أيُّها الدانوبْ

يا ضحكةً وطيوبْ

يا غيمةً خضراءْ

كُنْ شَأنَ عينيَ

مُلْفِتاً بالدَمعِ

أنظارَ الدلاءْ !

يا أيُّها الدانوبْ

يا شاهداً كندوبْ

لا خطوَ يسألنا المسيرَ !

ولا قطارَ غداً لموعدِنا يطيرُ !

 

سألتْ: ماذا تعني بهذه السخرية اليائسة !؟

قلتُ: أشكركِ كثيراً على دعوتك ومع أني لم أعتد على هكذا رحلات جماعية فهي تتطلب مني تكلُّف أشياء لا أرغب بتكلفها ولكني لأجلك سآتي .

ردَّتْ بطرافة: شكراً فأُمّي أوصتني في التلفون حين أخبرتها بهذه الرحلة بألاّ أتسلق الجبال، وحين أخبرتها بأن كل شيء أمين وبأن هناك طائرات عمودية ستنقذنا إذا حصل طاريء قالت: عجيب، هكذا تُهمُّهم حياة الناس !

تصورْ، أمي وأبي غير متعلمَين ورغم ذلك يحملان حسَّاً متحضراً راقياً وكنت ومازلت مدللة لديهم من جهة كوني لا أملك أخوة وأخوات وحزينةً بسبب هذه الحالة في نفس الوقت.

وأبي قال لي مرةً بالتلفون: يا ابنتي أنا أنظرُ أحياناً الى الفرات فأتخيله الدانوب !

أشارتْ بإصبعها الى ذلك الجبل القاني وقتَ العصر وكان زملاؤها قد تفرقوا مع أمتعتهم بين شعاب الوديان قائلة لي بينما كنتُ واقفاً الى جانبها والنهرُ يمضي واثقاً خلفنا: ليس على الجبل أن يشمخ عالياً فإني أرى السماء تهبط اليه كالحَجَل أما أنا وأنت فعلينا التحليق عالياً مفتشين عن أسرارٍ جديدة نبوح بها للغد .

قلتُ: إنما الغد نفسهُ سرٌّ، وحين نبوح بسرٍّ الى سرٍّ فستكون نبوءة .

 

كولونيا – صيف - ‏2009‏‏

[email protected]

 

...................

(*) نص من كتاب قصصي شعري نثري قادم بعنوان: النهر الأول قبل الميلاد .

(1) د. أحلام الزعيم

(2) الأخطل

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1143  الخميس 20/08/2009)

 

 

في نصوص اليوم