نصوص أدبية

زمن العجائب

 التي تترابط مع بعضها لاكتشاف قسط أكبر من السرد التاريخي.  هذه هي رؤيتي للثورة العلمية الثانية، التي اكتسحت بريطانيا في نهايات القرن الـ 18، ونجمت عنها رؤية جديدة يمكن تسميتها عن وجه حق بالعلوم الرومنسية. [انظر التفاصيل في كتابات غولينسكي، كوننينغهام وجاردين، فيولفورد وكيتسون ولي، روستون وفريقه، وهي كتابات بدأت منذ عام 1990 وكلها تستخدم مصطلح " العلوم الرومنسية "].

إن الرومنسية سلطة ثقافية وتعتبر عموما معادية بقوة للعلوم، فتركيزها دائما على الذات يتعارض مع ميول العلم للموضوع . ولكن لا أعتقد أن الأمر كان كذلك على الدوام أو أن المصطلحات نهائية وقاطعة جدا. إن فكرة العجائبي كانت ذات مرة رابطة تلم الشتات، وهذا صحيح الآن.  بالفعل هناك علوم رومنسية بنفس المفهوم الذي يحيل إلى شعر رومنسي، وغالبا تقف وراء ذلك نفس الأسباب التي لا تفنى.

لقد ارتبطت أول ثورة علمية بدأت في القرن الـ 17 مع أسماء من قبيل نيوتن وهوك ولوك وديكارت، ومع المؤسسات المرافقة للجمعية الملكية في لندن، وأكاديمية العلوم في باريس. وكان وجودها معترفا به، وإن سيرة حياة رموزها معروفة تماما.

غير أن هذه الثورة الثانية شيء مختلف. وأول من أشار إليها باسم " الثورة العلمية الثانية " هو على الأرجح الشاعر كولريدج في محاضراته الفلسفية لعام 1819 [ انظر أيضا : الصديق، 1819 – كولريدج، ص 482، ص - ص : 490 – 492 ] ( 1 ). لقد استوحاها أساسا من سلسلة اكتشافات فجائية في حقل الفلك والكيمياء، شكلت الأساس لحركة تنوير عقلانية تسارعت وتيرتها بعد القرن الـ 18، ولكنها على العموم قامت بتطويرها أيضا، وذلك بتبني صور جديدة وعميقة مقترنة مع بحوث علمية وثورية . وكانت تقودها رغبات ومثاليات معروفة ولها طابع شخصي من التفاني والدأب على الاختراع.   

إنها في نفس الوقت حركة انتقالية. لقد ازدهرت لوقت قصير نسبيا، ربما على طول جيلين، ولكنها قدمت نتائج لها أثر بعيد المدى – ورفعت من مستوى الأمل والتساؤل – وهو ما نعيش معه حتى اليوم. ويمكن تحديد تاريخ للعلوم الرومنسية بشكل تقريبي، وعلى وجه اليقين باتجاه رمزي، بين رحلتين مشهورتين لاكتشاف العالم. وهما أول دورة للقبطان كوك حول العالم على متن الإينديفور، وكانت بدأت عام 1768، ورحلة تشارلز داروين إلى جزر غالابوغاس على متن بيغل والتي بدأت في عام 1831 . وهذه هي الفترة التي أسميها بزمن العجائب، ولسوء الحظ لم نتجاوز هذا الطوق إلى حينه.

إن فكرة الرحلة الاكتشافية، هي غالبا وحيدة وصعبة، وتعتبر بشكل أو آخر استعارة مركزية ومعّرفة للعلوم الرومنسية. وهكذا كانت الطريقة لتي بها حوّل ويليام وردزورث ببراعة صورة السير إسحاق نيوتن التنويرية والرائدة إلى صورة رمنسية. فهو كطالب في الجامعة في فترة 1780  استطاع هضم النصب الرخامي لنيوتن وبكامل حجمه، بشعره المسرَح والمربوط بإحكام، والذي لا يزال يهيمن على مدخل القاعة الحجرية ذات العلم وحتى كنيسة كلية ترينيتي في كامبريدج. وكما عبر وردزورث عن ذلك أصلا، كان بمقدوره أن يرى عدة ياردات من نافذة غرفة نومه، من فوق سور الآجر الذي يحيط بكلية سانت جون "وساحة الكنيسة، حيث وقف تمثال نيوتن،  بوجهه الصامت والمشرق" .  

وفي وقت لاحق بعد 1805 صوّر وردزورث هذا التمثال الساكن  والشامخ بوقفة لها إيحاء ديني  مؤكد. لقد أصبح نيوتن مسكونا بالأشباح وبمزاج قلق كأنه رحالة رومنسي يطير بين النجوم:

" من وسادتي، وأنا أنظر إلى الأمام بضوء

القمر والنجوم المتلألئة، يمكن أن أشاهد

ساحة الكنيسة حيث يقف تمثال

نيوتن، بوجهه الصامت والمشرق،

و إيحاءات الذهن الرخامي الذي يرتحل

دائما عبر بحار غريبة من الأفكار، وحيدا ".

(مشهد، 1850، كتاب 3، أسطر 58 – 64).

لقد تم تشكيل العلوم الرومنسية حول هذه الرؤية، وتبلورت أيضا معها مفاهيم صحيحة وأخرى خاطئة، وهي لا تزال بيننا. أولا، الفكرة المدهشة عن العالم " العبقري " والوحيد، المتعطش للمعرفة  الذي لا يهدأ، المتفاني  الذي لا يبخل لا بالغالي ولا بالرخيص. هذه الفكرة الفاوستية الجديدة الخاصة بالعصر الحالي، التي احتفل بها عدد من الكتاب التصويريين، من بينهم غوتة وماري شيللي، هي بالتأكيد إحدى أهم المفاهيم ، وأعوص الإبتكارات في مضمار العلوم الرومنسية التي ورثناها جميعا. 

وعلى مقربة منها تجد مفهوم لحظة الحقيقة " إيوريكا "، الفكرة العابرة والملهمة الناجمة عن الاختراع أو الاكتشاف، والتي لا يسبقها ترتيبات أو تحليلات أولية جاهزة. إنها أصلا صرخة الفيلسوف الإغريقي أرخميدس، والتي تحولت إلى " نار مقتبسة من سماء "  رومنسية، وهي العلامة الحقيقية الأخرى للعبقرية العلمية، والتي تضعها على مقربة من الإلهام الشعري والإبداع. العلوم الرومنسية تجتهد لتعريف مثل هذه اللحظات المفردة، ذات الرؤية الغامضة تقريبا، والتي تجدها في تاريخها الذاتي. 

وإن أول مثال مهم منها أصبح حكاية قوامها نيوتن المعتكف والوحيد في بستانه، والذي شاهد تفاحة تسقط و" فجأة " خطرت له فكرة الجاذبية الأرضية. هذه القصة لم ترد على لسان نيوتن في ذلك الحين، ولكن شرعت بالانتشار في أواسط القرن الـ 18، وعبر سلسلة من المذكرات والمدونات.

لقد انتشرت في جميع الأرجاء فكرة الطبيعة غير المتناهية والملغزة التي تنتظر أن نكتشفها أو نحن نغريها كي تميط الحجاب عن كل أسرارها . ولعبت الأدوات العلمية دورا كبيرا في سيرورة هذه الاكتشافات، وسمحت للإنسان ليس بتوسيع حواسه بشكل غير مباشر، عن طريق استخدام التلسكوب والمجهر والباروميتر، ولكن بالتدخل بفعالية ، ومن خلال توظيف مدخرات الطاقة، والمولدات الكهربائية، والمشرط، ومضخة الهواء. حتى أن بالون مونتفغولفير  يمكن أن نراه كأداة للإكتشاف، أو في الحقيقة أداة إغراء وتوريط.

هناك، أيضا، ردة فعل حادة ضد فكرة الكون الميكانيكي، أو العالم الرياضي حسب فيزياء نيوتن، وعالم الأشياء والمواد والآثار الصلبة . هذه الشكوك، التي ارتفع صوتها بشكل خاص في ألمانيا، مالت باتجاه علوم ناعمة و" دينامية " لوصف القوى الخفية والطاقات الغامضة  الكامنة في السوائل وفي التحول بين الأشكال والحالات، ثم لوصف ما هو كامن في  النمو والتبدلات العضوية. وهذه إحدى أسباب دراسة الكهرباء (والكيمياء عموما)، وقد أصبحت علامة على علوم تلك الفترة، مع أن الفلك ذاته،  الذي كان مثالا على علمية عصر التنوير، سوف يتبدل أيضا ويحل محله علم الكونيات الرومنسي [ انظر كولريدج مجددا، التفاصيل في كتاب ريتشارد هولمز السابق ص 548 – 549 ].  

إن مثالية العلوم الصافية " غير الخدمية "  المستقلة عن إيديولوجيا االسياسات وحتى الأطروحات الدينية، شرعت بالبروز ولكن ببطء. وكان التأكيد على جسد المعرفة كناسوت بشري (و ملحد)، ينحصر في خدمة " كل البشرية "  شائعا بقوة في فرنسا بعد الثورة. وهذا سوف يتضمن سريعا العلوم الرومنسية  بأنماطها الجديدة والمتعارضة كما يلي : على سبيل المثال، هل يمكن للعلم أن يكون أداة بيد الدولة  في حال اختراع سلاح لشن الحروب ؟  أو أنه هل سيكون وقفا على شرف الكنيسة، ويدعم وجهة نظر عريضة وواسعة " للثيولوجيا الطبيعية "، حتى يبرهن أيهما صحيح، موضوعة الخلق الإلهي أو التصيم الذكي ؟  

بهذا الاتجاه تحركت الفكرة الجديدة للعلوم الشعبية، علوم الجماهير. وإن الثورة العلمية للقرن الـ 17 طورت جوهريا شكلا نخبويا وخاصا من المعارف. وكانت اللاتينية هي اللينغوا فرانكا (لغتها العالمية)، وكانت عملتها المتداولة هي الرياضيات. وكان جمهورها حلقة صغيرة (وعلى مستوى كل العالم) من الأساتذة والباحثين. وكان على العلوم الرومنسية، من جهة أخرى، أن تتبرع لأداء واجبات جديدة هي الشرح والتثقيف والتواصل مع عموم أفراد الشعب. 

هكذا بدأت أول حقبة مهمة في تاريخ العلوم الشعبية، ضمنا المحاضرات والتجارب المخبرية والكتب الدراسية المختصرة والتي غالبا كانت من تأليف النساء. وهي نفس الحقبة التي بدأ فيها تلقين العلم للأطفال، حتى أصبحت " الطريقة التجريبية " هي أساس لفلسفة الحياة المدنية الجديدة،  وهنا  تحولت الاختراعات العجيبة غير المحدودة (سواء هي إلهية أو لا) وبشكل مضطرد إلى قيمة بحد ذاتها. ولأول مرة أصبح العلم محرضا للجدل الشعبي، مثل النقاش الواسع حول " الحيوية " : هل هناك  قوة حياتية أو مبدأ من هذا القبيل، وهل للنساء والرجال (أو الحيوانات) أرواح؟. 

أخيرا، كان هذا هو العصر الذي حطم دور النخبة في الجمعية الملكية، ورأى أساسات عدد كبير من المعاهد، معاهد الميكانيك والجمعيات " الفلسفية "، وبالأخص المعهد الملكي في شارع ألبيرمال في عام 1799، والجمعية الجغرافية في عام 1807، والجمعية الفلكية في عام 1820، والرابطة البريطانية لتطوير العلوم في عام 1831 .

معظم هذه التحولات من التنوير إلى العلوم الرومنسية ظهرت في لوحات أيقونية رسمها جوزيف رايت وهو من داربي . وباعتبار أنه كان على صلة متينة بجمعية ليونار، وصديق لإراسموس داروين وجوزيف بريسلي، أصبح رايت رساما دراماتيكيا وله رسوم تجريبية ومخبرية، وفي وقت لاحق أعيد تفسير العلوم التنويرية لأواخر القرن الـ 18 على أنها سلسلة من اللحظات الغامضة والرومنسية التي هيمنت عليها الاكتشافات والأحلام. وإن ضوء العقل الهادئ والمنير قد حاصرته ممارسات سيكلوجية عميقة ذات علاقة مع جورج دي لا تور. وهذا واضح تماما في سلسلته الشهيرة عن المشاهد العلمية التجريبية التي رسمها في ذروة حياته المهنية : " المدارات الشمسية " (1766، متحف مدينة داربي وغلاف كتاب)، "المضخة الهوائية " (1767، المتحف الوطني بلندن)، و" الكيميائي " (1768، متحف مدينة داربي). 

 

2

هل كان ذلك كله علامة جيدة ؟. يوجد رأي آخر يعتقد أن العلوم الرومنسية هي خيانة خطيرة لجوهر النظرة التنويرية للطبيعة، من ناحية تواضعها وقانونيتها وسلاستها. لقد استبدلت ذلك بارتباط مميت مع وجهة نظر وضعية وعمياء لتطور الإنسان الذي توجهه تكنولوجيا ومادة  لا تشبع. لقد ورثنا بالتأكيد هذه المعضلة في العالم الغربي. كانت العلوم الرومنسية في الأصل من نتيجة الحقبة الثورية. لقد حملت موجة التفاؤل السياسي أولا إعلان استقلال أمريكا، ثم الثورة الفرنسية، وأيضا ألهمت العلوم الرومنسية مثاليات مدينية تقدمية، كانت فيها بذرة اللهجة الجمهورية والراديكالية القوية واضحة. ولكن تحت متطلبات الوطنية وتحت ضغوط الحرب النابليونية كانت روحها الحرة محاصرة  ومروضة ورسمية. وأصبحت العلوم الراديكالية ممأسسة ومحافظة ونظرية.   

و خلال هذه العملية كان التعاون الدولي في مجال العلوم على امتداد أوروبا القرن الـ 18 قد تحول إلى شجار وطني متعسف. وكان الأمر كذلك بين " رجال العلم "  الشعبيين في بريطانيا وفرنسا. لقد أصبح العلم التعاوني تنافسيا. وإن مثاليات العلوم التنويرية في مجال الناسوت، ضمنا مفاهيمها عن اللامبالاة ولتعاضد البشري الكوني، لحق بها الدمار من جراء الطموحات الإمبريالية. وقد تحدت العلوم الصافية بشكل مميت الاهتمامات التجارية وبعثات التبشير الديني والنزعات الوطنية. ثم تحول   الاكتشاف إلى استعمار.

و أسوأ من هذا، إن روح التنوير الخيالية المفتوحة، التي قرظها الشعراء والأدباء، قد تنحت على نحو متزايد لمصلحة علوم غير إنسانية، متعالية وصناعية واستفزازية، ودمرت وشرذمت كلا من روح الطبيعة والإنسان. لم يكن من الممكن الوثوق بها لأنها، بمفردات جون كيتس، سوف " تفكك نسيج قوس قزح ". لقد تسببت في صدع بين الاستجابة الفنية والعلمية للعالم.    

أخيرا، إن صورة العبقري العالم الملهم والذي يعيش فوق مستوى الواقع، والمحبوس وحيدا في مخبره أو حجرة ملاحظاته، ليتابع أحلامه، مثل إسحاق نيوتن، قد تبدلت إلى رمز أكثر إلغازا. وبدأنا نراه الآن كشخص ثمل بسطوته الواقعية، أو كشخص تحركه طموحات مجنونة، مثل الدكتور فيكتور فرانكنشتاين. إن العالم الرومنسي خطر على المجتمع، وهو ليس مفيدا له.

 

3

يتساءل زمن العجائب: أية صورة للعلوم الرومنسية في بريطانيا هي الحقيقية، أو أقرب إلى الحقيقية. في النهاية هذا يبقى سرد، حكاية قصصية لسيرة حياة. وهي تهدف إلى القبض على جوهر روح العلوم، وأثرها على القلب وكذلك على العقل. في المفهوم العريض إنها تهدف إلى تقديم عاطفة علمية، ومعظمها تلخصه لك الكلمة الطفولية والمعقدة وغير المحدودة، إنها كلمة العجائب. لقد ألح أفلاطون على أن كلمة " عجيب " كانت مركزية في الأفكار الفلسفية  " من العجائبي بدأت جميع الفلسفات  : ومن العجائبي انتهت أيضا... ولكن أول العجائب هي مطلع اللامبالاة، وآخرها هو أصل العشق ".

مر العجائب، بعبارة أخرى، بعدة مراحل، وتطورت مع التقدم بالعمر والمعرفة،  ولكنها احتفظت بنار دائمة لا تضمحل. وهذا على ما يبدو هو معنى قصيدة وردزورث الشهيرة التي تعود لعام 1802 ، والتي استلهمها ليس من نيوتن المشرق وإنما الطبيعة المشرقة :

" قلبي ينبض بقوة حينما أرى

قوس قزح في السماء،

و هكذا الأمر في بداية حياتي،

و هكذا هي الحال وأنا في مرحلة الرجولة،

و سيستمر ذلك حينما سوف أصل إلى الكهولة،

أو دعني أموت !...".

[ عجائب أفلاطون كما عبر عنها كولريدج في ميول للتأمل، 1825 " الحكمة الروحية 9 " ص 236، انظر كتاب ريتشارد هولمز : الانطباعات السوداء، ص 540 ].

 

....................

هوامش المترجم :

1    يجب أن نشير إلى أن النص الأصلي لهذه المقالة هو مقدمة لكتاب بنفس العنوان، أما الكتاب المومأ له عن كولريدج فهو قد سبق نشره للمؤلف ريتشارد هولمز بعنوان كولريدج – الانطباعات السوداء كما يلي:

Holmes, Richard. Coleridge: Darker Reflections. Pantheon, 1999. The sequel to Coleridge: Early Visions .

 

المصدر :

Excerpted by arrangement with Random House from “The Age of Wonder” by Richard Holmes. The New York Times. 2009.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1147 الاثنين 24/08/2009)

 

 

في نصوص اليوم