نصوص أدبية

الدحنون

له من الأصدقاء كثيرا يحسدونه على خزين معلوماته العامة، وعادة ما يتباهى بأن يأتي احد بسؤال لا يمكن أن يجيب عليه، هذا حاله مع العديد من أصدقائه.

 وفي يوم من الأيام جاء مع أحد أصدقائه شاب قد فركت الأيام أصابعها عليه، حتى عصرت رحيق بنانه، لم يعر الاهتمام إلى كل ما يراه ويسمعه من خلال حديث بين أصدقاء، انه صامت لا يبت بكلمة، مستمع كبير لا تطرف له عين عن عجب، او صخب قهقهات، وترى صاحبنا ومعلوماته مزهوا كطاووس بألوانه الزاهية، دار الحديث عن كثير من مجريات الحياة، حتى لم يكن هناك جانب لم يغطى، الكل يستمع للكم الخرافي والمعجم لكل الأسئلة، حينما ألتفت في سؤال إلى ذلك الصامت، وقال: أليس لديك سؤال تسأله؟ أو شيء تريد معرفته؟ وهل لديك معلومة لم اعرف أو اسمع بها؟! نظر إليه نظرة قاس فيها أمتار عقله، وخزين المعلومات، ثم قال: وكأنه يبتدئ بنطق أبجدية الحروف، نعم لدي سؤال أرجو أن تعرفه؟ إنه سؤال علمي تجيبني عليه ومن ثم وأضيف جوابي عليه مقارنة به، فما رأيك؟ تفتقت أوداجه، سيبرهن مدى سطوته بالمعلومات، ويكسب نِداً يعترف بهزيمته أمام فطنته، فقال: هات ما عندك، أجابه: حسنا ..... إليك السؤال؟؟؟ كم نوع يوجد من الأفاعي؟ وما عدد السام منها؟ ذهل لدقة السؤال، ففرك أصابعه بشحمة إذنه وقضم شفاهه، وأخذت خلايا دماغه تتسابق إلى رفوف المعلومات للإتيان بجواب للسؤال، جدحت عيناه وميضا لاح لأصدقائه انه عرف الجواب، فقال: هناك (2500) نوع من الأفاعي ويمثل منها 20% سام أي (500) نوع، قل لي أليس هذا الجواب الصحيح، هز رأسه نعم انه هو، ولكنك لم تسمع جوابي بعد، قال: نعم سنسمع قل ما لديك، هذه هي الإجابة العلمية ولكن هل تدرك أن من الأفاعي البشرية، والتي تقوم بتسميم حياتنا يوميا عددا يفوق تلك الأفاعي السامة، والغريب إنها لم توضع في محمية أو يتم القضاء عليها، بل تقتات على معاناة الإنسان الذي لم يكن في يوم ما يحلم بان يكون تحت رحمتها، في وقت كانت الأفاعي فيه ترسل فحيحها لهدم القيم البشرية، على أعتاب ممرات القبور الجماعية وقتل الأمل في نفوس الكبار، قبل الأطفال إنها تئد الحياة،

استغرب كل من سمع الرد فلا يوجد صلة بينهما ولا رابط في المعنى .. خيم الوجوم قليلا ومن ثم قال لهم .. ما رأيكم أتريدون أن اسأل السؤال الثاني؟ قفز مركز المعلومات مهللا نعم .. هات ما عندك، قال: ما الفرق بين الصحراء والتصحر؟ أستغرب الجميع للسؤال وكذا صاحبنا ولكن هناك من خلاياه لم تحب أن تركن وتحسب كأنها موقف للسيارات، قال: الحقيقة ان أسألتك ومعلوماتك جميلة، والحقيقة أني أعرف الجواب وهو إن الصحراء منطقة ذات مناخ معين تعيش فيه نباتات وحيوانات معينه، أما التصحر فأنه ظاهرة تغير المناخ، ومثال على ذلك هو منطقة تكون فيها نباتات نتيجة ظروف معينة تصبح خالية منها، استطرد من سأل مسرعا أحسنت، ولكن هل تعلم أن الصحراء في السابق كانت تمتلك القيم القبلية والرجولة والغيرة وعدم التآمر على الأهل والأقارب والجيران ما لم يندر ذلك، ولولا تلك القيم التي زرعت بنا بعد الإسلام، لما وصل صيت العرب إلى الصين، لقد كانت تربتنا موحدة صفراء كتبر الذهب حين تسدل الشمس أنفاسها عليها وتغزل نسيج المحبة في ظلمة الليل الموحش، أما الآن فلا نرى سوى التصحر والتمسك بعناوين الأمس البعيد القريب، محاولين ارتداء الأصول والقيم على أجساد بالية وعقول خاوية من معاني الانتماء إلى التراب والأرض والأهل، ولا تنسى يا عزيزي إن النباتات التي نبتت في التصحر قد زرعت سرطانا جذريا، أمات كل براعم الحرية والقيم الأصيلة.

تعجب الجميع أكثر فأكثر، ما لهذا الرجل يحول كل شيء الى معلومات لا تبت للسؤال بشيء، و يركن دائما إلى الحديث في أمور سياسية خليت عقول سامعيها ما لم هي تريد ذلك، وقبل أن يهدأ سأل سؤاله الثالث، كم عدد أنواع الأسماك؟ وما طول أصغرها وما طول أكبرها؟ الكل انبهر للسؤال فلم يكن لدي الجالسين أية معرفة بذلك إلا ذاك المركز من المعلومات، التي لم تخلى جعبته من الأجوبة، احتار في بادئ الأمر وأطال التفكير، ومن ثم قال: إن لسؤالك لماكر لذا اترك لي مساحة من الوقت، قال له: خذ وقتك.. لم يطل كثيرا فقد مضى الوقت مسرعا بتمرير نظرات فيما بينهم مع همسات حول صعوبة السؤال ومن يستطيع معرفته، البعض ينتظر الجواب والآخر ينتظر رد صاحب السؤال وتعليقه على الإجابة، لقد استحوذت إجاباته على مسامعهم وكان شغفهم للتعليق عليها أهم من معرفة الإجابة، استقام بجلسته وقال حسنا إليك الجواب مختصرا، إن عدد أنواع الأسماك هو (21) ألف نوع منها الصغير ومنها الكبير، وأصغر سمكة هي بطول (8) ملم، واكبر الأسماك هي بطول (46) قدم، أي (14) مترا، ما رأيك.. استمتع بالإجابة وقال له:

 الحقيقة إن لك من المعلومات الكثير، ولكن يبقى لك أن تعلم و تدرك، إن الأسماك الكبيرة قد التهمت الصغيرة منها، وكان ذلك أشبه بإبادة وانقراض، حتى بات الكثير من الأسماك قد ترك مكان موطنه وهاجر، وأصبحت تلك الأسماك الضخمة تعتاش على غرائب الأسماك وفضلات بعضها البعض، بل ولجأت إلى قتل من هم أكثر عراقة في الأصل، وجاءت بأشباه الأنواع من الأسماك الغريبة، وألبستها رداءات العصر الجديد، لأسماك أنفاس خياشيمها لوثت بيئة البحر والبر معا وأصبحت وباء في كل مكان، وقبل أن اذهب سأسألك سؤال أخير، هل تعرف الدحنون أو الحنون وما هو وما قصته؟ توقفت سلسة عجلات خلايا دماغه، فلم يكن للسؤال رفاً به خزين يجيب عليه، فكان متحرقا لمعرفة الإجابة حيث قال دون أن يلجأ إلى التفكير، ليس لدي معرفة بالجواب هلا أخبرتني ما هو الدحنون أو الحنون، ابتسم لرده السريع بعدم معرفته للسؤال، وتطلع لكل الوجوه الجالسة تلمس من لمعان أعينهم رغبة في معرفة الجواب، وأردف قائلا: الحقيقة إن الجواب سهل جدا، ولا يحتاج إلى دقة علمية، بقدر ما يحوي من معنى تأريخي لرجل داسته أقدام فيلة ضخمة لأنه رفض الاستسلام والخضوع لأحد ملوك الفرس، فكان مصيره السحق تحت تلك الإقدام وهذا شبيه بواقع حالنا الآن، نحن نسحق بأقدام فيلة منها عربي ومنها فارسي ومنها غربي فلا فرق كلنا أصبحنا مداسا للعالم، والذي يؤلم أننا أصبحنا مداسا لأقدام عراقية أيضا فكانت دماء الأبرياء بلا ثمن وبلا دموع، والأدهى أنها بلا عناوين، ليلية الأصابع مع فحيح الأفاعي وجذور سرطانية وخياشيم فاسدة، على ارض عذرية في زمن ما نبتت زهرة الدحنون أو الحنون على قبر ذلك الملك النعمان ابن المنذر، الذي رفض تسليم نساء العرب وأطلق عليها اسم شقائق النعمان، منذ ذلك الزمان وبعد فوات الأوان وكان ما كان في هذا الزمان.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1786 الأحد: 12 / 06 /2011)

 

 

في نصوص اليوم